جنازة نيكاراغوائية - قصة قصيرة / جلال چرمگا*

         


     جنازة نيكاراغوائية - قصة قصيرة / جلال چرمگا*

   

       

                            جلال چرمگا
                      تشرين الأول / ١٩٩٥

         

قبل أسابيع بدأت الناس جميعاً التحضيرات لاعياد الميلاد ورأس السنة وارتدت مدينة "ماناكوا" (١) حلة جديدة .. النساء منتشرات في الاسواق لشراء الملابس وهدايا الاطفال وشجرة الميلاد وبقية المستلزمات التي تتطلبها هذه المناسبة اهمها " الديك الرومي" الذي تتباهى كل سيدة في هذه المدينة بأنها هي الاحسن في اعداده وطهيه ليكون سيد المائدة في مثل هذه الليالي التي يندر فيها النوم .

كنا جالية لا يتعدى عددنا اكثر من مئة شخص.. نمتهن حرف ووظائف مختلفة ،مع أثنين من أصدقائي سكنا شقة واحدة .. لكل غرفته الخاصة .. وصالة مشتركة للجلوس وتناول الطعام .. كنا - تجار جنطة - نبيع الاقمشة في مناطق المدينة اعلاه وضواحيها ..مبيعاتنا بالنقد والتقسيط المريح اسبوعياً زبائننا كثيرون .. دخلنا بيوت كثيرة وأطلعنا عن أسرار غريبة و عجيبة في تلك البيوت !!!
( الاخت جانيت ) التي تجاوزت الاربعين مديرة شقتنا ومسؤولة عن كل صغيرة وكبيرة .. معاملتنا لها كالاخت الكبرى في البيت .. تأتي قبل الفطور لا تعود الى بيتها الا مع غروب الشمس كل ذلك مقابل عدد قليل من القرطبات (٢) أسبوعياً .. كل صفات ( الاخت جانيت ) كانت جميلة [ الصدق ، الامانة ، القناعة ، النظافة ].
كانت اكثرية سكان هذا البلد .. بلد ( القصب السكري والبراكين و الزلازل و جمال الطبيعة ) يتصفون بصفات ( اختنا جانيت ) .. الكل مشغول بعمله لم أرى طيلة بقائي هناك حالة اعتداء على أي شخص مهما كانت جنسيته او قوميته .. حيث الامان والحرية لكل البشر .
اصبحت لنا علاقات وصداقات مع عدد كبير من العوائل في جميع ارجاء المدينة ... نشاركهم المناسبات الاجتماعية .. كالاعراس والاعياد ..
ليلة ٢٥ - ١٢ -١٩٧٢ بقينا في الشقة بالرغم من دعوتنا من قبل اكثر من صديق .. كنت اقف في ( البالكونة ) التي تشرف تماماً على الشارع العام الساعة تشير الى بعد منتصف الليل بقليل .. الجو بارد .. وهذا لايعني ركود الناس في بيوتها .. الشوارع مكتضة بالمارة عدد كبير من الشباب يركبون سياراتهم المكشوفة .. يغنون ويرقصون الكل يحتفل وعلى طريقته الخاصة !!!
وانا انظر الى ذلك الكرنفال .. فجأة تغير كل شئ .. لقد تحولت الفرحة الى مآتم انطفأت كل المصابيح وتحولت الشوارع المضيئة بالمصابيح الملونة الى ظلام دامس ... اصوات وفرقعات من هنا وهناك انه الزلزال .. نعم زلزال مدمر .. كانت قوته ( ٧) درجات على مقياس رختر .. تلك الهزة شلت الحركة في تلك المدينة الجميلة ... شقوق مختلفة الاحجام في الارض ..انهيار مئات الدور السكنية والمحلات العامة ..
اعلنت حالة الطوارئ في عموم البلاد .. خرجت فرق الدفاع المدني وكل الناس لاجراء اللازم ... حصيلة تلك الهزة خمسون الف قتيل و آلاف الجرحى .. من بين الضحايا شخص واحد من ( جماعتنا ) اخرجناه من تحت الانقاض .. دفناه في المقبرة التي يدفن فيها المسلمون موتاهم .. اقمنا له الفاتحة في مقر النادي التابع لجاليتنا هناك ..
لا أدري وفجأة تذكرت ( الاخت جانيت ) فقررت فوراً ودون تردد التوجه الى
دارها ... نظرت من بعيد وحمدت الله ان دارهم بخير ولم يصب بمكروه .. ولكن يبدو ان هناك .. حركة غير طبيعية حول الدار .. في مقدمة الدار حديقة صغيرة مسيجة بأعمدة من الخشب .. أقتربت أكثر فأذا بمجموعة من الناس جالسين في الحديقة .. سألت أحدى النساء التي كانت قد خرجت تواً من دار ( الاخت جانيت ) :-
+ ما هؤلاء الناس ..؟
-لقد ماتت ( جانيت ) وهي تحتفل عند اختها .. نعم انها ماتت ليلة امس !!!
أقتربت اكثر .. فأستقبلني زوجها بأبتسامة عريضة .. عجيبة يبدو ان جارتهم كانت غير صادقة .. الحمدلله على ذلك .. ومع ذلك لا بد ان أتأكد :-
+ هل صحيح ان ...
لم أكمل الجملة بعد .. فقاطعني زوجها :-
- نعم لقد توفيت ليلة أمس !!
جلست واشعر بأن صدري يكاد ينفجر من الالم والحسرة على تلك الاخت العزيزة .. وأنا في دوامة على ذلك الخبر الذي كان بمثابة صاعقة قوية دقت بل ضربت رأسي .. وأذا بالزوج يسرع ويضع طاولة متوسطة الحجم امامي !!! وسألني :-
-ماذا تشرب ...؟
+ أشرب .؟؟؟
-أجل .. لا تستغرب ابداً ان عادتنا ( وهو يبتسم ) ان نقدم أنواع المشروبات والحلويات خلال تقديم التعازي !!!
وفعلاً أنتبهت الى الجالسين فأذا كل واحد منهم امامه زجاجة او أكثر من المشروبات المختلفة !!!
أكتفيت بشرب فنجان قهوة ( على طريقتنا ) ولكن يبدو ان الكل كان مستغرباً من تصرفي الغريب !!! .. وحين عاتبته لماذا لم يخبرنا لنشارككم في مراسيم الدفن
أجاب :-
-لم تدفن بعد .. عادتنا ان تبقى في التابوت الى اليوم التالي نحتفل هذه الليلة !! نشرب نخبها .. في اليوم التالي ندفنها .. بعد العودة من المقبرة نغسل البيت كله بمساعدة الجيران ونقدم لهم الشراب والغداء وينتهي كل شئ ..
تركتهم .. نهضت خفية بينما كان كل الجالسين يشربون قدحاً بعد الاخر
( والاخت المسكينة ) داخل التابوت ومقفول عليها الباب .. حتى النظرة الاخيرة عليها تلقى من خلال النافذة المشرفة على الحديقة !!!
لم القِِ النظرة الاخيرة عليها .. لانها كانت اكبر من اودعها خلال النافذة ...

بعد اكثر من اسبوع على ذلك الحادث كنت استيقظ قبل زملائي لاكون اول من يلقي تحية الصباح على ( الاخت جانيت ) ولكن لا أظن انها ستعود ثانية لأن روحها الطاهرة قد رحلت مع الزلزال وتركتنا بدون اخت ونحن في بلاد الغربة ..
أيها الزلزال :-
أيها الضيف الثقيل .. ان الشقوق التي تركتها في ارض هذه البلدة الامنة ستدفن بالحمم وتتماسك التربة كأن شيئاً لم يكن بعد ثورة البركان التي ستثور تضامناً معنا على رحيل الاخت جانيت العزيزة !!

* * *

*القصة اعلاه كتبتها في غرفة انفرادية (معتقل الحاكمية) المخابرات العراقية ،دونتها في ذاكرتي مع عشرات القصص الأخرى حيث لاوجود لقلم أو أوراق أو حتى القليل من النور، بعد أن حكم علينا ونقلنا الى معتقل أبوغريب دونتها مع عشرات القصص الأخرى.

(١) - ماناكوا :- عاصمة نيكاراغوا

(٢)- قرطبـة :- عملة نيكاراغوا

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

873 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع