شكل النهاية
لم يهدأ چاسب، أو لم يرتوي من منظر الأجساد، التي تدلت من فوق منصة الاعدام، بعد سحبه العصا في الصباح. عاد الى غرفة الخفر مساءً، وبالتحديد قبل حلول موعد النوم في الساعة التاسعة، أصطحب معه صائب وغالون من الكحول، مشى بين الزنازين وهو يقول، لابد وأن يموت اثنان في هذا الشهر، لقد قاربت هذه السنة 1981، على الانتهاء، أنتصف شهرها الأخير هذا اليوم، ولم يمت واحد، تهيئوا أيها الحمقى، لتودعوا واحد.
وقف أمام الزنزانة التي فيها حامد، بقضبانها من الحديد التي تبقيها عارية أمام الحراس، وتبقي سكنتها تحت طائلة النظر ليل نهار، ثم قال موجهاً كلامه الى حامد، أنت المگطن.
رد حاد: نعم سيدي، ثم تقدم منه والقلق قد أنهك ركبتاه، جعلهما واهنتين لا تقويان على حمل جسده الذي قل وزنه كثيراً منذ أن وضع سجيناً في الجب، شعر بثقلٍ حلَّ عليه لم يكن معهوداً من قبل، وكأن عظامه قد مُلئت بالحديد، كان حذراً متوجساً خيفة من ردود الفعل غير المعروفة لهذا الوحش، متجهماً لم يحرك عضلة واحدة في وجهه العبوس، ولما جاور القضبان، طلب منه الجلوس على الأرض، واخراج يديه وكذلك قدميه من بين القضبان. ولما أخرجها، التفت الى الحارس الواقف الى جانبه، أراد منه ربط كل واحدة، الى قضيب بسلك كهربائي رفيع جلبه لهذا الغرض، وبات يستهزأ قائلاً:
بعد الآن سوف لن يبق لديك قوة للمشاكسة، ومن يدري قد لا يبق فيك نفساً في الأصل، حاولتُ أن أعرف لماذا أنت هكذا ترى نفسك بطلاً؟، لم أصل الى نتيجة، الحمد لله سوف لن أجهد نفسي بعد الآن، للتفتيش عن السبب.
أكمل حديثه المسموم، ومعه عبارات الاستهزاء بالبطولة الفارغة على حد تعبيره، ثم طلب من الحارس، سكب مقدار من الكحول على أطرافه.
بدء باليد اليمنى، ولعَّ فيها ناراً من قداحة، طالما أفتخر بأخذها من تاجر أعدمه بتهمة التلاعب بالأسعار.
أنطفأ الحريق تلقائياً بعد نفاذ فاعلية الكحول.
حاول حامد كتم صوته، وكأنه يريد تحدي چاسب، وإثبات البطولة غصباً عنه.
سكب الحارس كمية أخرى من الكحول على اليد اليسرى، وهكذا كرر العملية، وحامد ما سكاً أنفاسه كمن يقبض على جمر بكلتا يديه، لا يريد الصراخ، لكن أنينه فُسر من أصحابه صراخاً صامتاً.
قالوا فيما بعد، كان قوياً بما يكفي لكبت الصراخ.
انتقل الحال الى الساقين، وأعاد الكرة على اليدين، حتى ملئت روائح الشواء لهذا اللحم الآدمي أجواء الزنازين، عندها بات الأنين مسموعاً من جميعها.
مع ذلك الأنين الصارخ، كان چاسب يضحك منتشياً بقسوةٍ، اقترب وقعها من الجحيم، بل هي الجحيم عينه، كما كان الوصف الذي أطلقه عليها المسجونين آنذاك.
كان حليم الذي معه في الزنزانة، يتألم مع ألمه الشديد، قال في اليوم الثاني واصفاً ألمه ليس هناك من ألم أشد، من النظر الى صديق يهاجمه الموت، حرقاً من دون التمكن من مساعدته، أو تخفيف الألم الذي يعتصره، وأضاف:
لقد وضعت وجهي بين يديَّ هرباً من منظر الحرق، الى أن تدخل چاسب طالباً النظر بملء العين، مهدداً بالمصير ذاته، لمن لا ينظر بملأ العين، لعذاب ممنهج، مفروض من الجهات العليا.
لقد انسلخ الجلد من مكانه، وتكونت زائدة منه تتدلى من كلا القدمين، قصها سرمد في اليوم الثاني بموس حلاقة حصل عليه من كريم.... سرمد ذاك الضابط المظلي الكفؤ كان مضمداً لجروح السجناء الخفيفة، وطبيب كسور في بعض الحالات الخفيفة أيضاً، بالإضافة الى كونه طباخاً صار مشهوراً، أُختيرَ لأنه كان صائماً، صياماً يعتقدونه، الضامن القوي لعدم التجاوز على حصصهم الغذائية، ولو بلقمة عن طريق الصدفة. لم يستطع سرمد مداواة حامد، لشدة الحروق في أطرافه، كما لم يسمح له بالتدخل لمداواته، فيوم موته قد تحدد من الأعلى، ولم يعد أحد قادراً على التدخل، فظل لسبعة أيام زاحفاً الى المرحاض، وسط مياه تغطيها الفضلات، مثل طفل لم يكمل عامه الأول، وقد كشفت الحروق نهايات عظام أطرافه.
أعفيّ من نوبات التعذيب، تُرك في زنزانته يتأوه من جروحه، بدا عليه الاكتئاب، والهذيان فور مغادرة چاسب لحفل الحرق بالكحول، لم يعد يكلم أحداً، وإذا ما نطق، ينطق أسماءً لا علاقة لها بالمكان الذي هو فيه.
التهبت ساقاه، مُنع الزملاء من إطعامه، ومنع سرمد من التقرب اليه، حاول مراراً وبدافع الحاجة الغريزية الى الطعام، أن يلتهم ما يقدم له وهو مستلقٍ على بطنه، يلعق الماء بطريقة لم يعتاد على وقعها الانسان.
هكذا تُرك في زنزانته بجلد محروق ينهشه الالتهاب، ويعشعش فوقه الذباب، وبعقل فُقد من هول العذاب. وفي منتصف الشهر بالتحديد وجدَ ميتاً، ويده المحروقة قريبة من دورق الماء.
مات عطشاناً.
مات من قبله رياض القدو، ومن بعده بثمانية أيام مات طاهر الربيعي بحبة ثاليوم، لتنتهي السنة هذه، سبعة أموات بطرق مختلفة.
هنا في هذا القاطع الخاص بسجناء حزبيين، سَجنهم حزبهم، وهم في السلم الأعلى لمراتب قيادته، أماتَ منهم أربعة عشر واحداً، أصاب عقول الباقين بمس من هموم النفس لا تشفى، حسبوها هم والعارفين بالهموم مكيدة عصر، تشبه مذبحة القلعة التي هندسها، وكتب مشاهدها محمد علي باشا، لمماليك عصره عام 1811.
هنا في بداية شهر آذار من العام 1983 توقف التعذيب فجأة، تغيرت مناهج التطويع الى أخرى خالية من الضرب والاهانة والتنكيل، وكأن هؤلاء الموتى الأحياء أعطوا فرصة الانتقال الى حال لا يعرفون مآلها بعد.
هنا في هذا الشهر وفي هذا القاطع، وبالتحديد في اليوم العاشر منه حضر لامع، عميداً برتبته الجديدة، طلب حضورهم الى غرفة الخفر، واحداً بعد الآخر، كان أول الحاضرين صالح الحمداني ومن بعده عزام، وكان آخرهم طارق، جميعهم حضروا بالسرعة ذاتها، التي كانوا فيها يلبون أوامر الحضور من قبل، شعر بعضهم بينهم عزام وسرمد بالخشية من العودة الى أيام التطويع، ومع هذا حضروا مسرعين.
جلس لامع خلف مكتب بسيط، منتشياً بنجاحه في إكمال مشروع التطويع، الذي اشرف عليه بأمر مباشر من رئيس الجهاز، وبمعرفة الرئيس الأعلى للبلاد، مخاطباً كل من يدخل مرعوباً، ليكتب اعترافاً صريحاً بتورطه في المؤامرة القذرة، وندماً كذلك صريحاً لمشاركته فيها، ويكتب طلباً أخراً الى السيد الرئيس القائد حفظه الله ورعاه، يرجو فيه العفو والمغفرة.
السيد الرئيس، رحيم، خال من الأحقاد، إنساني يغفر في طبعه، ينظر الى مواطنيه سواسية في الحقوق والواجبات، عبارة كررها مع كل سجين.
انهمكوا جميعاً في الكتابة غير مصدقين، حتى إنهم لم يدققوا فيما قاله من كلام بعد اتمام اصدار الأمر.
سأل عزام عن التاريخ، الذي يضعه على طلبه، فأجابه لامع بأن يضع التاريخ الذي يعتقده ماثلاً في عقله، فوضع الأول من آذار عام 1983، وآخر وضع تاريخاً مختلفا، إجابة عمدية أراد منها لا مع، أن تبدو الطلبات مختلفة في تواريخها، لتفسر أنها طلبات تعبر عن توسلات أصحابها.
حَسبَ طارق جل الموضوع، لعبة من ألاعيب التطويع. سلمَ ما كتبه على ورقتين.
تعال هنا قال لامع، أعد كتابة العفو، إن ما كتبته عتاب وليس رجاء، والسيد الرئيس لا يعاتب، أنت بالذات أعرف من غيرك بعظمة السيد الرئيس.
نعم سيدي، سأعيد كتابته.
هناك في هذا الشهر، في الواحد والعشرين منه، في قاعة المجلس الوطني، احتفال رئاسي آخر، أو جزء متمم للاحتفال الأول، الذي أجري في قاعة الخلد قبل ثلاثة سنوات ونصف، حضرهُ الأهل والأقارب من الدرجة الأولى لذويهم المسجونين، وحضره النائب عزة الدوري ممثلا عن الرئيس، معه جوق من الحمايات، تقل أعداده كثيراً، عن أعداد وهيبة الجوق الذي يسير مع الرئيس، هو أكثر من يعرف الرئيس، لا يريد الاقتراب من هيبته.
أعطى الاذن لموظف من الرئاسة بإشارة من يده، أن يقرأ اعترافات المشاركة والندم، وألقى فيهم موعظة عن مآثر الرئيس، وعفوه عن رفاق ارتكبوا حسب اعترافهم، جريمة المشاركة في المؤامرة القذرة، هم كفَروا بحق حزبهم وثورتهم والعراق، وفي المقابل عفى السيد الرئيس، حفظه الله ورعاه عنهم بحكمته الأبوية، إنه حقاً عظيم.
يتعالى التصفيق، والهتاف بحياة الرئيس.
العظيم.
القادر وحده على العفو عن الخونة المجرمين.
هنا في القاطع، يظهر چاسب صباح يوم السادس والعشرين من الشهر الثالث عام 1983، يطلق صافرة التجمع، يعطي أوامر التوجه الى الحمامات، بلهجة مختلفة عن تلك التي كانت سارية فيما قبل. أشار الى أدوات الحلاقة الذاتية، وضرورة المباشرة بحلق الذقون، ومن بعد التفت الى السجين فالح، المختص بالحلاقة عند الحاجة، طلب منه الدخول الى غرفة مجاورة، كانت خالية إلا من كرسي، وأخذ ماكنة الحلاقة الكهربائية والمقص، بغية التهيؤ الى حلاقة الرؤوس، بما يليق بليلة عرس، حسبما قال معلقاً على ما يجري، ليضفي على الأجواء قدراً من البهجة، عساها تمسح ولو قليلاً من الكدر، الذي تميزت به السنوات التي أنقضت هذا اليوم.
لاحت الى طارق حيرة أصحابه المساجين، وهم يستلمون أدوات الحلاقة، وكيف كانوا يسألون بعضهم بعضاً عن إتمام الحلاقة دون مرآة.
هم جميعاً لم يشاهدوا مرآة منذ دخولهم القاطع الخاص، قبل ثلاث سنوات ونصف، لأنها من بين الممنوعات، ولأنهم معزولون عن عالم ينظر فيه الناس الى نفوسهم بالمرآة. ولاح له كذلك تدخل لامع، عندما طلب من چاسب جلب المرآة الموجودة في غرفة الخفارة، ورميها على الأرض، وبعد أن تشظت قطع صغيرة، أصبحت كافية لأن يرى الواحد نصف ذقن يحلقه على عجل.
آه من تلك اللحظات التي لم يصدق أحد، أنها أصل الخلاص، قالها سرمد مع نفسه، وحملق في ذاك الجزء غير النظامي من المرآة، مسكها بيده اليسرى، ليرى نصف وجهه شاحباً بلحية غزاها الشيب، حتى شك بنفسه، كاد لا يعرفها. ترك موضوع الاستعجال في الحلاقة، والجرح الذي تركته غائراً أسفل الاذن اليسرى، وشكه بنسيان الحلاقة بشفرات الاستخدام للمرة الواحدة، ومصاعب اجتثاث الشعر من مكانه بمثل هكذا شفرات بعد أن بلغت نهاياته مستوى الصدر، وفكر بحقيقة ما يجري، وعلامات فرج لم يطمئن اليها، ولما لم يصل الى قناعة واضحة بهذه العلامات، تحسس بيده اليسرى الجرح الذي ينزف ببطئ، حسب أنه عابراً لا يقارن بألم، الهراوات وأنابيب المياه المطاطية وأقطاب الكهرباء، تركه دون مبالاة بأمره، تماشياً مع سياقات السجن، التي تقتضي آنذاك ترك الجروح تقطب ذاتها، قال لنفسه، أنه جرح لا يحتاج الرتق، فالدم لا ينساب غزيراً من أوردة وشرايين، تعطلت من كثر الضرب القاسي على الوجه.
كل واحد منكم، يأخذ بدلة سفاري على قياسه، لا تشغلوا أنفسكم بالمقاسات فهي متقاربة، وأجسامكم اليوم في أوزانها متقاربة، قال چاسب، واشار الى تناول القهوة العربية قبل التوجه الى سيارتي الكوستر المتوقفة جانباً.
قال حليم، سيذهبون بنا الى الموت، هكذا كتبت نهاية المشهد.
وقال عزام، قد ينقلوننا الى سجن آخر أشد بؤساً من هذا السجن الرهيب، هي هكذا نهاية المشهد.
وقال سرمد، أنا لا أتفق معكم، فما استرقته سمعاً من الخفراء والسجانين، طوال الأيام الخمسة الماضية، أن فرجاً في الطريق، سيكون هو النهاية المتوقعة للمشهد.
ومن جانبه أيد طارق قول سرمد، وقال نحن أمام الفرج، قريبين منه كما هي السطور التي كتبت أصلا في المشهد.
غادرت السيارة الأولى المخصصة الى جانب الكرخ أسوار السجن المشؤوم، ومن بعدها الثانية صوب الرصافة، ركابهما لم يصدقوا مع أنفسهم وفيما بينهم ما يجري.
چاسب في السيارة الأولى، يضع أغنية وطنية في جهاز التسجيل "هيه يهل العمارة"، ركابها يتلصصون في نظرهم خلسة، على عالم جديد غير ذاك العالم المضغوط، يغمضون العيون مع كل التفاتة الى چاسب ناحيتهم، خشية معاقبتهم على جريمة عدم الاستئذان بمشاهدة العالم الجديد.
نظرات الخلسة الى الشوارع التي مرت منها السيارة، تخيلها طارق مسارب هرب من حال الاكتئاب الذي هم فيه، حتى لم يبهره التغيير الحاصل في البناء خلال فترة سجنه، ولم يثيره اعلان صافرة الانذار، عن غارة جوية في حرب لم يعرفُ عنها سوى القليل، لأنه منشغل فقط بفكرة المواجهة، مع الزوجة الحبيبة والبنات، التي سيطرت عليه حد التسلط القهري، وبالاعتقاد من أن العراق بات سجناً كبيراً، والعودة الى أبو غريب محتومة، والافراج اذا ما تم فعلاً، فهو فصل من مسرحية كتبها الرئيس، يمكن أن تعيدهُ بعض مشاهدها، في أي وقت الى غياهب الجب ثانية، بتهم أخرى لمؤامرات أخرى، لم تنقطع سبيلاً للتصفية وادارة شؤون البلاد.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/39831-2019-04-23-06-49-30.html
322 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع