مواقف تركيا من قضية فلسطين بعيون عربية

      

مواقف تركيا من قضية فلسطين بعيون عربية

الكتاب/22 لوالدي العزيز الدكتور صبحي ناظم توفيق

   

          

سنبل صبحي ناظم توفيق
بكالوريوس ترجمة- كلية الآداب- الجامعة المستنصرية
1/1/2019

   

لستُ بكاتبة مقالات ولا باحثة ولا ناشرة لدراسات، إلاّ أن صدور الكتاب/22 لوالدي الحبيب والموسوم "مواقف تركيا من قضية فلسطين بعيون عربية" خلال السنوات (1939-1956) -بواقع (359) صفحة- وإغتباطنا الكبير لإنبثاقه إلى حيّز الوجود هو ما دفعني لأخوض هذا المخاض للمرة الأولى في حياتي لأضع أمام ناظرَيّ المتابعين الكرام نبذة عنه.
الكتاب ليس تأليفاً بل مجاميع من الوثائق التي تُعَدّ المرتكز الأهمّ للدراسات التأريخية بمختلف حُقَبِها، وقد لا نُبالغ بالقول أنها الأساس في تحليل الأحداث أو إعادة البحث في أتونها والتعمّق في وقائعها، ولا عَجَبَ أن أُطلِقَت بحقها المقولة "لا تأريخ من دون وثائق"، إذْ لا يُعقَل أن تُكتَب حُقبة منه دون اللجوء إلى معلومات دقيقة يُستَحسَن كونُها غير مُنحازة، فالتأريخ -بحد ذاته- ليس عِلماً قائماً فحسب، بل أنه "علم العلوم" يتعامل مع الماضي إن كان قديماً أو قريباً، ويتطلّب وُلوجُه مصادر ومراجع ذات شأن، وتأتي "الوثيقة" على رأس مُعتَمَداتِها.
ومصداقية الوثائق أو جزئيّـتها أو المشكوكة في مضامينها والتي تُقرّبها أو تُبعِدُها عن مشروعيّتِها وعناصر النَهوج المتّبَعة في إعدادها قبل إضفاء صفة المرجعية بما لا يقبل الظن بها، لأن مُعِدّ "الوثيقة" إنسان لا بدّ أن يتأثر بعوامل، بعضها تكوينيّ وخَلقيّ وآخر سياسي وثالث عِرقِي أو مُعتَقَديّ ورابع مشاعريّ يصطف مع بصيرته ورجاحة عقله ومستويات ثقافته وصولاً لأخلاقياته، فهو يعيش أو يتعايش في خضمّ أحداث ساخنة مشوبة بمخاطر أو بالعكس وسط أجواء مُريحة تعكس عليه -من حيث يدري أو لا يدري- أحاسيسَ ومنعطفات وإرهاصات قد تجعل كتاباته بمنأى عن النهج المُفتَرَض إتباعه.
ولعِظَم إهتمام والدي بالوثائق، فقد شاء حُسنُ قَدَره أن يحتضنه المؤرّخ والعالم الجليل ذائع الصيت "الأستاذ الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف" -وهو الأستاذ المشرف على أطروحته للدكتوراه التي نالها بعرق جبينه عام 1995- عضواً لدى "اللجنة الوثائقية الدائمية" بمؤسسة "بيت الحكمة" الموقّر ببغداد منذ عام (1997)، ولمعرفته باللغة التركية ومفرداتها فقد أناط له الدكتور عماد مَهَمَّة تجميع المئات من التقارير الرسمية -الدَورية، الشهرية، والطارئة- التي أعَدَّها سفراء "العراق المَلَكي" المعتمَدون لدى "الجمهورية التركية" في "آنقرة" وقناصله في "إستانبول" عن مجمَل الأوضاع السياسية، الإقتصادية، الإجتماعية، والثقافية السائدة في "تركيا" منذ إنبثاق العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتَين في أواخر العشرينيات من القرن المُنصَرم ولغاية عام (1957)، وقد رفعوها -حسب تسلسل المراجع- إلى وزارة الخارجية العراقية والتي بدورها عرضت الأهم أمام أنظار ملوك العراق وكبار مسؤولي الدولة في غضون ما يربو على ربع قرن.
تلكم التقارير كانت محفوظةً لدى البلاط الملكي العراقي، والذي نَهَبَ الرُعاع آثاثَه نهار إنقلاب (14/تموز/1958) من دون أن تستجلب خزائن الوثائق الأثمن أنظارهم، فظلّت مُهمَلة في قبو مبناه المهجور طيلة عقد الستينيات حتى تأسّست "الدار الوطنية للكتب والوثائق" وبادرت إلى جمعها في خزائنها إلى جانب "آرشيف دولة العراق".
أما ما يخص الوثائق التي إحتضنه هذا الكتاب -والذي نشره "مركز شرقيات للبحوث"، وبمبادرة كريمة من رئيسه الأستاذ الكبير "محمد زاهد كول"- فإنها لا تعدو سوى جزء يسير من ذلك المجموع، تسلّط بعض الضوء على مواقف "الجمهورية التركية" حيال القضية الفلسطينية والقدس الشريف وأزمة اللاجئين الفلسطينيين التي حَظيت بأهمّية بالغة قُبَيلَ قرار تقسيم "فلسطين المحتلّة" إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، والتأسيس الرسمي لـ"دولة إسرائيل" عام (1948) وما تلاه، وما أقدَمَت عليه حكومة "آنقرة" من خطوات لغاية إعترافها الرسمي بحكومة "تل آبيب" عام (1949) قبل تطوير علاقاتها الإقتصادية، الثقافية، السياسية والإعلامية معها، فضلاً عن أوضاع اليهود في الأرض التركية وهجراتهم الخفية والجاهرة إلى الجزء اليهودي من "فلسطين" وتحكّم أصحاب رؤوس الأموال اليهود في أعمال البنوك القائمة في المدن التركية ومجالس إدارات كبريات الشركات والمصانع وسطوتهم على الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئية... ولكل ذلك فقد أَوْلى التقارير التي أعدّها مُفوّضو العراق المعتمدون وسفراؤه والقائمون بالأعمال في "آنقرة" وقناصله في "إستانبول" منذ عام (1939) واضعاً إياها على رأس قائمة الأولويات قبل الخوض بأية موضوعات أخرى.
تكمن أهمّية تلك التقارير بإحتوائها مواضيع وعناوين وأحداثاً ووقائعَ تَطَلَّبَ الظَرف في حينه أن تعرضها وزارة الخارجية العراقية بأسبقية عالية أمام أنظار أعلى المراجع لدى دولة العراق أوانئذٍ، حيث يُفتَرَض أن تكون محتوياتها من الأهمية بحيث يُحتَمَل بموجبها أن أُتُّخِذَت قرارات محددة سُيِّرَت بموجبها أو وُجِّهَت سياسة العراق مع جارته "تركيا" بشكل خاص، ولربما حيال دول الجوار والمنطقة ذات المصالح المشتركة أو المتخالفة.
وهذه الوثائق أعدّها دبلوماسيون شغلوا إمّا منصب "سفير" أو "قائم بالأعمال" أو "قنصل عام" قبل أن يبعثوها بالبريد الدبلوماسي المُغلَق، وضمَّنوها بمعلومات لا يمكن أن تكون آراء شخصية أو مقالات صحافية عابرة أو أقاويل ذات رؤى ساذجة أزاء أحداث بسيطة، بل كانوا يرفعونها إلى وزارة مسؤولة عن دبلوماسية الدولة، فتُمَحّصها قبل أن تعرضها على الديوان الملَكي ورئاسة مجلس الوزراء ووزارات ذات شأن بالمحتويات والأحداث، والتي لا يُعقَل أن تُفرَشَ أمامها سوى القضايا ذات الحساسية العالية.
يبلغ المجموع الكلّي لصفحات الوثائق التي إستطاع والدي ترتيبها -وسط ملفّات عديدة وفقاً لتسلسلها الزمني- (2719) صفحة، وقد إستنسخَها من الوثائق الأصل في خزائن "الدار الوطنية للكتب والوثائق العراقية" خلال عامَي (1997-1998)، وتشتمل "كتباً رسمية، برقيات، تقارير شهرية ونصف شهرية وطارئة وخاصة"... ومن كل ذلك إنتقى بضع عشرات من الوثائق ذات الشأن بمواقف "تركيا" أزاء القضية الفلسطينية وعلاقاتُها مع ما أُطلِقَ عليه في متون الأدبيات العربية بـ"الكَيان الصهيوني"، فلم يعثر سوى على (98) وثيقة تخص عنوان كتابه أو تتعلّق به، وذلك من مجموع (861) وثيقة يضمّها المجموع الكلي للوثائق.
وتتطرّق أولى وثائق الكتاب إلى مواقف الحكومات التركية المتعاقبة حيال الأزمة الفلسطينية المتصاعدة خلال النصف الثاني من عقد الثلاثينيات، قبل أن تنحو بإتجاه علاقات خفيّة غير مُعلَنة بين سلطات "تركيا" الرسمية وشبه الرسمية مع الصهاينة، وبالأخص بُعَيدَ إنتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1945) وما تلاها من أعوام الأربعينيّات، فيُباشر "يهود تركيا" بإتباع أساليب عديدة ومسالك شتى مُنَظّمين هجرات إلى "فلسطين" التي كانت ترضخ تحت الإنتداب البريطاني لغاية (15/5/1948)، وذلك قبل إقدام الحكومة التركية على تأسيس منظومة بريدية خلال ذلك العام مع الجزء اليهودي من "فلسطين" التي قُسِّمَت بقرار أُمَمي منذ (1947)، وأعقبتها بعلاقات تجارية في العَلَن -رغم كونها غير رسمية- تحت ذريعة إستمراريّتها لتلك التي كانت قائمة مع "فلسطين الـمُنتَدَبة" منذ العشرينيات وقتما إستحوذ عليها البريطانيون من أيدي العثمانيين عام (1917) وأخضعوها تحت إحتلالهم حال إنتهاء الحرب العالمية الأولى سنة (1918) وما تلاها من تشتيت ممتلكات الدولة العثمانية الكبرى بموجب إتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات تضمّنت شروطاً مؤسِفة يطول سردها.
وتركّز الوثائق أيضاً على هَول الدعاية اليهودية بدعم المنظمات الصهيونية خلال تلك الحقبة من النصف الثاني للأربعينيات، وكيفية إشراك "الجمهورية التركية" -بصفتها دولة مُسلِمة- في براثن "لجنة التوفيق الثلاثية" الدولية إلى جانب كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولكن بشخص عيّنته الحكومة التركية وُصِفَ كونه ((إسرائيلياً أكثر من إسرائيلي)) تارةً و((يهودياً يفوق اليهود)) تارة أُخرى.
أما في عام (1949) فقد إنبثقت علاقات مشهودة بين تركيا وإسرائيل قبل أن ينكشف عدد من محاولات التهريب لأسلحة متنوعة من بعض مستودعات الجيش التركي رغم حصانتها والحراسة المشددة في أوساطها ومُحيطها، ناهيك عن تهريب الذهب والماس والمعادن الثمينة والأحجار النفيسة من دون أن تُعلِن السلطات التركية أياً من نتائج التحقيقات الـمُفترَضة على يد دوائر إستخباراتها العسكرية وأمنها العام وشرطتها وقضائها.
ويسرد السيد الوالد في مقدّمته شيئاً من العلاقات التأريخية الوطيدة بين الأتراك واليهود التي تتميّز بإمتدادات عميقة وجذور متأصّلة منذ أواخر التأريخ الوسيط... فقد كان "يهود أوروبا" -المضطَـهَدون والمكروهون وسط مجتمعاتهم الأوروبية ذات الأغلبية المسيحية الساحقة- متعاونين مع سلطات الدولة العربية-الإسلامية" في "الأندلس" منذ عام (710م) حتى إنهارت "غرناطة" عاصمة آخر دويلاتهم سنة (1492م)، ليعود اليهود ليسوا مضطَهَدين فحسب بل متعرّضين لمذابح راحت ضحيّتها عشرات الآلاف منهم أمام "محاكم التفتيش البابَويّة" التي إستهدفت إقتلاع اليهود الزائفين المعتنقين للمسيحية في الظاهر، وقتما فَرَّ الآلاف منهم ملتجئين إلى الدولة العثمانية التي رَحَّبَت بهم وآوَتهم في ربوعها، حتى غدت أرض "فلسطين" عام (1517) جزءاً من الإمبراطورية العثمانية ليسمح العثمانيون لهؤلاء اليهود بالتمركز في بقاعها.
ولما قاد سلاطين "آل عثمان" جيوشهم الجرارة والحاملة لراية الإسلام لينشروا الرسالة المحمّدية في ربوع شرقيّ القارة الأوروبية منذ القرن الرابع عشر الميلادي، مُهدِّدين خلال القرن السادس عشر "فيينّا" عاصمة أوسع الإمبراطوريات الأوروبية وأقواها عام (1529)، قبل أن يحاصِروها ثانية في غضون القرن السابع عشر سنة (1683)، حيث تصدّى لهم النصارى بجميع مذاهبهم ومعتقداتهم، في حين إستعان القادة العثمانيون بـ"يهود أوروبا" الذين لبّوا النداء وقذفوا بأنفسهم في أحضان الجيوش العثمانية وتعاونوا معها فأمسوا أصحاب القِدح المُعَلّى في تلك الممالك تأسيساً على النظرة العثمانية بأن اليهود ((أهل ذمّة وأصحاب كتاب أنزله الله -سبحانه- على رسوله "موسى" عليه السلام... وهم ليسوا مُشرِكين كما حال المسيحيين)).
لقد كًبُرَ هذا "الجميل اليهودي" في عيون العثمانيين ولم يَنسَوه، لذلك لـمّا إضطرّت الجيوش العثمانية إلى ترك حصارها لـ"فيينّا" جراء أخطار داهمتهم من الشرق، فقد عاد المسيحيون إلى ذبح من تبَقّى من اليهود الذين باتوا مُطارَدين في تلك البقاع يختبئون هنا وهناك ويتنقّلون بين هذه الجبال وتلك الوهاد، فإضطر الألوف ممَّن ظلّوا على قيد الحياة لترك ديارهم متجهين شرقاً وجنوباً حيث ممتلكات العثمانيين، مُجازِفين بركوب البحر الأبيض المتوسط -الذي كان بمثابة بُحَيرةً عثمانية- لبلوغ السواحل الشماليّة للقارة الأفريقية التي كانت بالكامل تحت الحكم العثمانيّ.
وبإنقضاء العقود تجمّع معظم اليهود مُعزَّزين مُكَرَّمين في الأراضي اليونانية الخاضعة للحكم العثماني منذ القرون الوسطى، وقتما قرّر غالبيّتهم في عقود القرن الثامن عشر التحوّل إلى الإسلام فأُطلِقَت عليهم تسمية "دونَمَه" -وتعني باللغة التركية "التحوّل أو الإنقلاب"- ولكنهم ظلّوا مُحتفظين بمعظم عاداتهم الإجتماعية والثقافية والبعض من طقوسهم الدينية اليهودية في منازلهم... وبإنقضاء الأعوام تركوا "اليونان" ليستقروا في كبريات الموانئ العثمانية المطلّة على البحار "الأسود، مرمرة، إيجه، والأبيض المتوسط" والمدن الساحلية، مندمجين في الحياة العامة مع المجتمع التركي المسلم فأمسوا بمثابة مواطنين عثمانيين يتمتعون بكامل الحقوق، حتى نأوا عن إطلاق أسماء يهودية على أولادهم، فلم يعد الأتراك المسلمون وسواهم يستغربونهم، فتغلغلوا -كعادتهم طوال تأريخهم- في مجالات التجارة والمؤسسات المالية حتى أمسى العديد منهم ممتلكين لرؤوس أموال ضخمة أهَّلَتهم فأضحوا أصحاب نفوذ بمستوى الدولة خلال القرن التاسع عشر إلى حدّ أن الكثير منهم شاركوا -بدفع واضح من زعماء آوروبا الغربية وشرقيّها وروسيا القيصرية- في خلق معارِضين للسلطنة العثمانية ودفعوهم للإقدام على تحركات سياسية رَمَت نحو تقليعات الديمقراطية وإعلان الدستور عام (1876) في أوائل عهد السلطان "عبدالحميد الثاني"، ودعموا البعض من كبار قادة الجيوش العثمانية من ذوي الميول العِلمانية -أمثال أنور باشا وجمال باشا- في تأسيسهم لجمعية سياسية سرية تحت مسمّى "الإتحاد والتَرَقّي"، وكان للـ"دونَمَه" وأثرياء اليهود المتنفذين وأتباع الماسونية العالمية يدٌ طولى في ترتيب أمورها وإعلاء شأنها ودعم خطواتها ضد "السلطان عبدالحميد" الرافض والـمُصِرّ على عدم التنازل ولو عن شبر واحد من أرض فلسطين والقدس الشريف، رغم العروض الـمُغرية من قادة الحركة الصهيونية وضغوطات أعاظم زعماء العالم المسيحي عليه، قبل أن يبلغ الأمر إلى تمرّد عسكري تزعّمَه قادة تلك الجمعية المشبوهة خلال شهرَي (حزيران وتموز/1908) مُنقَلِبين على السلطان ومُرغِمينه على إعادة العمل بالدستور وترك العرش والإنكماش في قصره حتى وافاه الأجل بعد سنة واحدة مهموماً، ولربما مسموماً.
وبعد إنهيار الدولة العثمانية الكبرى إثر إخفاقات جيوشها وتشتّت أوصالها عام (1918) وفرض الحلفاء المنتصرين لـ"مُعاهدة سيفير" المُهينة بحقها سنة (1920)، وبروز نجم "مصطفى كمال باشا" إثر تزعّمه لحركة المقاومة الوطنية ضد الغزو اليوناني والتحالف الغربي "البريطاني- الفرنسي- الإيطالي" للنصف الغربيّ من "بلاد الأناضول" (1919-1922) وطردهم من بقاعها، وتتويجهم لذلك النصر بإبرام "معاهدة لوزان" في (تموز/1923) قُبَيلَ إعلان "الجمهورية التركية" يوم (29/10/1923) مُنتَهِجَةً الأُسس "العلمانية"، وذلك بعد إبطال السلطنة العثمانية عام (1922) وإلغاء الخلافة الإسلامية بشكل رسمي سنة (1924) وإعلان دستور تركي دائم جديد ينصّ بوضوح على فصل الدين عن الدولة.
ولكل ذلك أمسى الـ"دونَمَه" إلى جانب كل يهود تركيا يستشعرون بحرية أمثل في تصرفاتهم وتحركاتهم وبشكل أفضل من ذي قبل، حتى أتى دور "الوكالة اليهودية العالمية" التي يرتبط بها -بشكل مباشر أو غير مباشر- أي يهودي في كل بقاع العالم من دون أدنى شك، فبحكم أموال "يهود تركيا" ونفوذهم وصداقاتهم المتأصّلة مع قادة "الإتحاد والترقي"، والذين باتوا متسنّمين كبريات المناصب وأعلاها في الدولة الجديدة، ليلعب اليهود أدواراً بارزة وسط المجتمع التركي متغلغلين في أوساط السياسة والتجارة والمال والحياة الإجتماعية، ونفذوا بقوة إلى البنوك والشركات التي تأسست على الطراز الغربيّ-الرأسمالي، فأصبح العديد منهم أعضاء مُهَيمِنين على "حزب الشعب الجمهوري-C.H.P" –وكان الحزب الـمُرَخَّص الوحيد- وأُنتُخِبوا نُواباً شبه دائميين لدى المجلس الوطني التركي.
ولكن الأهمّ من ذلك كلّه، فقد إستحوذوا على الإعلانات وسط كبريات الصحف والمجلات والدَوريات التركية -التي باتت تتمتّع بحرّية ملحوظة- والتي درّت أموالاً طائلة في جيوبهم وحقّقت لهم أرباحاً طائلة فاقت أثمان مَبيعاتها اليومية، ما أتاح لـ"دونَمَه" واليهود بإنقضاء الأعوام السيطرة شبه الكلّية على مجالس إداراتها في غضون عقد الثلاثينيات بشكل أشبه بالأخطبوط الذي يمدّ أذرعه نحو أكثر من إتجاه.
وثمّة أمر آخر رفع من شأنهم أكثر، ألا وهو عزم سلطات الدولة التركية الجديدة بزعامة "مصطفى كمال باشا آتاتورك" وحزبه الوحيد المتمثل بـ"الشعب الجمهوري-C.H.P" والمستحوذ على مقاليد الحكم والميّال إلى الحضارة الغربية وضرورة فرض تقاليدها على الشعب التركي بالملبس والمشرب والحياة العامة والثقافة، مع الإبتعاد -شيئاً فشيئاً- عن "الإتحاد السوفييتي" المتزعِّم للشيوعية العالمية والمبادئ الإشتراكية، والمؤيِّد للحركات الإنفصالية التي ينادي بها الأرمن والأكراد، وكونه وريثاً لـ"روسيا القيصرية" العدو التأريخي الأقوى للدولة العثمانية طوال تأريخهما، ولا سيّما خلال حروب "القِرِم والقَوقاز" (1853-1856) وحروب "البلقان" (1912-1913) واللتان شتَّتَتا أوصال ممتلكات العثمانيين وقوَّضَتا قواهم وقدراتهم وأنهكتا جيوشهم وتشكيلاتهم المسلّحة قبل التورّط في أتون الحرب العظمى الأولى (1914-1918)... فإن الدولة التركية الحديثة إتخذت من "الولايات المتحدة الأمريكية" -الداعمة لها- صديقة كبرى ومثالاً يُحتَذى به من دون جميع دول العالم القائم في حينه... تلك الدولة المتصاعدة والتي كانت عازمة -إلى جانب كل من "بريطانيا العظمى" و"فرنسا"- بشكل خاص، ودول الغرب وكذلك الإتحاد السوفييتي على وجه العموم، على إنشاء وطن قومي ليهود العالم يجمعهم في أرض "فلسطين المقدسة" الراضخة تحت الإنتداب البريطاني.
ويبدو من مجمل الأحداث التي فرضت أوزارها خلال النصف الثاني من عقد الأربعينيات -إبّان ترؤّس "عصمت باشا إين ئونو" لجمهورية تركيا- أن القادة والمُشَرّعين الأتراك قد قَدَّروا الموقف السياسي القائم في بلدهم، واضعين نُصبَ أعينهم المتغيّرات الكبرى الطارئة على أوضاع العالم، والتي تلاحقت إثر إنتهاء الحرب العظمى الثانية منذ عام (1945)، فتوصًلوا إلى الحقائق الآتيات:-
• أن الخطر الداهم والمُحدِق بـ"تركيا" يمكن أن يتأتّى من "الإتحاد السوفييتي" المتزعِّم للشيوعية العالمية، بعد أن أمسى أحد القطبَين الرئيسَين المتسلِّطَين على أمور العالم القائم في حينه، لكونه المؤيَّدَ الأعظم لتأسيس دولة مستقلّة للأكراد قد تحتضن -فضلاً عن الأقاليم ذات الأغلبية الكردية لدى كل من "العراق، إيران، سوريا" وبعضاً من الأقاصي الجنوبية للإتحاد السوفييتي- الجزء الجنوبيّ الشرقيَ من "بلاد الأناضول".
• ويُضاف لذلك أطماع "موسكو" حيال بقاع تضمّ المناطق الشمالية الشرقية من "تركيا" تمهيداً لإلحاقها إلى "جمهورية أرمينيا السوفييتية".
• لذلك فإن الواجب الوطني يقضي ضرورة الإحتماء لدى القطب الآخر المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها كل العالم الآوروبي الغربي وسواه... فإلى جانب إمكانات الإفادة القصوى منها عسكرياً وسياسياً، فإن الفُرَص الإقتصادية، التجارية، المالية، والثقافية تُعَدُّ تحصيل حاصل، في حين لا يُنتَظَر أية إفادة بمثل هذه المجالات لا من الإتحاد السوفييتي ولا من أقطار أوروبا الشرقية الراضخة تحت إحتلال "الجيش الأحمر" وبحكم سيطرة "موسكو" السياسية والإقتصادية على شؤونها.
• أن النفوذ اليهودي والصهيوني متغلغل في أعلى المناصب التنفيذية والتشريعية والقضائية والمالية والتجارية والإعلامية لدى "الولايات المتحدة الأمريكية"، وحتى المرشّحون خلال الإنتخابات الرئاسية وحاكميات الولايات يحاولون -بكل ما يُتاح لهم من إمكانات وقدرات- كسبَ ودَ اليهود ومنظّماتهم المتحكّمة، ويطلقون وعوداً خلاّبة لصالحهم، حتى لو خالفت الحقّ والعدالة والدستور والقوانين النافذة، أو نقضت المواثيق الدولية التي أملَـتها "واشنطن" ذاتها على المؤسسات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة أبان تأسيسها عام (1945) على أرض إحدى ولاياتها المتمثلة بـ"نيويورك".
• ولكل ذلك فليس من مصلحة "تركيا" إستجلاب سخط اليهود والأمريكيين وعموم دول الغرب في شؤون تخصّ اليهود و"فلسطين المحتلّة"، إذ يمكن للسلطات التركية الرسمية وشبه الرسمية التظاهر بجهلها أو غضّ الطرف عنها، أو التذرَّع بعدم تمكّن الحكومة من منعها وفقاً لبنود الدستور التركي والقوانين المرعية.
• أما المواقف التي قد تستثير غضب العرب والمسلمين بشأن "فلسطين والقدس" وتزعجهم أو تستجلب إستياءَهم، فإن الأحوال والأوضاع الراهنة تشير إلى كونه أهوَنَ بكثير من إثارة سخط اليهود وداعميهم على "تركيا" وتضجّرهم منها والكيد بها... فالإضرار البليغ لا يُتَوَقَّع من العرب المتفرّقين والمسلمين غير المسنَدين دولياً، في حين أن إشارة واحدة من "نيويورك" قد تجعل الصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية تقيم الدنيا ولا تُقعِدها ضد "تركيا" وتغلق في وجهها المعونات الأمريكية المُغدَقة لصالحها بسخاء مشهود، والتي تعتمدها "آنقرة" كل الإعتماد في تطوير جيشها وعموم قواتها المسلّحة وتحسين إقتصادها وصناعاتها وتجارتها وزراعتها وموانئها ومطاراتها ومرافقها السياحية، وأن الـ(ثلاثين) مليون دولار المُغدَق عليها خلال شهر (أيلول-سبتمبر/1948) دليل قاطع على مصداقية الأمريكيين ومستوى سخائهم، وأن إرضاء اليهود بشكل عام سيفتح باب المعونات الأمريكية على مَصاريعِه ويُصَعِّد من مستويات السخاء وبشروط أدنى من ذي قبلُ.
• وفي يقين الحكومة التركية القائمة أنها تنتهج سياسة عملية وواقعية لتعزيز اواصر الصداقة أزاء الدول العربية، وذلك بإبرام معاهدات وإتفاقيات وبروتوكولات في المجالات السياسية والتجارية والثقافية معهم، رغم أنها تتلمّس لدى البعض من ملوكهم وزعمائهم وعموم حكوماتهم عدم تقابلهم مع "آنقرة" بروح الودّ والصداقة والعلاقات الطيبة، وقد إستشعرنا -في هذا الشأن- أدلّة ووقائع قد تكون في مقدّمتها الضجّة التي أثارتها الصحافتان المصرية والسورية أزاء التقارب التركي-العراقي-الأردني، والتصريحات التي أدلت بها "الجامعة العربية" في هذا الصدد بلا موجِب، وأن السيد "عبدالرحمن عزام باشا" رجلٌ يكره الأتراك ويعمل بالضدّ منهم منذ تسنّمه منصب "الأمين العام للجامعة العربية"... ومن الدلائل الأخيرة على هذا العداء إيعازه لجميع الممثلين الدائمين للدول العربية وتحريضه عدداً من ممثلي الدول الإسلامية والأجنبية لدى "الأمم المتحدة" بعدم التصويت لصالح إنتخاب "تركيا" لتُنتَخَبَ بمثابة عضو غير دائم لدى "مجلس الأمن الدولي" خلال سنة (1949).
ولتلك الأمور وسواها من الشوائب العديدة، فقد رأى القادة الأتراك أن إستراتجيتهم في ذات الحقبة تقضي بضرورة الإرتماء وسط أحضان دولة قوية في جميع مناحيها السياسية والعسكرية والإقتصادية والمالية والثقافية، وليست هناك دولة صديقة ومضمونة تضاهي الولايات المتحدة الأمريكية في مثل قدراتها المتاحة لصالح "تركيا".
أما الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" ومعظم قادة الولايات المتحدة فقد كانت رؤيتهم نحو "تركيا" بمنظار إستراتيجي آخر يفوح منها تحقيق مصالح إستراتيجية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب العالمية بعد أن تراجعت "بريطانيا وفرنسا" العظمَيان عن مكانتهما في العالم ، ففضلاً عن تقبّلهم لإحتضان "تركيا" أمريكياً، فقد فُرِشَت على طاولتهم عوامل مستجَدّة متعددة مغايرة تستوجب ذلك، وقد تأتي في مقدمتها:-
• كون العداءات والخصومات القائمة بين "تركيا" من جهة والإتحاد السوفييتي وعدد من أقطار البلقان ودول أوروبا الشرقية من جهة ثانية تأريخية ومتأصِّلة ومتجذّرة من دون أدنى شكّ، وليس من المحتَمَل رأب أصداعها خلال المستقبل المنظور.
• عزم الولايات المتحدة الأمريكية على تنفيذ خطط لـمُحاصرة الإتحاد السوفييتي جغرافياً بإستثمار حلفائها وإمكاناتها العسكرية والإقتصادية بغية الحدّ من إحتمالات توسّعه بقدراته المتعاظمة والتي باتت "موسكو" تمتلكها بجدارة، وليست هناك دولة أفضل من "تركيا" في منطقة الشرقَين الأدنى والأوسط في سعة حدودها المتاخمة مع جمهوريات الإتحاد السوفييتي، فضلاً عن إمتلاكها قوات مسلّحة ضخمة العدد يمكن تطويرها لتحسين أدائها بتحديث آلاتها العسكرية بأفضل الأسلحة والتجهيزات والمعدات والتكلّف بتدريب ضباطها ومنتسبيها.
• إطلالة "تركيا" بموانئها الضخمة القابلة للتطوير والمطلّة بسواحلها على البحرَين "الأسود وإيجه" ناهيك عن أهم بحار العالم المتمثل بـ"الأبيض المتوسط"، وإحتضانها لـ"بحر مرمرة" ومضيقَي "بوسفور، ودَردَنيل" اللذَين يربطان تلكم البحار الأربعة ببعضها عبر ذلكما الممَرَّين الإستراتيجيين، فضلاً عن كونها ذات حدود برية مع "بلغاريا" التي أنضمّت للكتلة الشرقية و"حلف وارشو" وتمترست في ربوعها قوات سوفييتية.
• وما دامت هناك مشكلات قائمة بين "تركيا" وعدد من الأقطار العربية منذ تفكّك أوصال الدولة العثمانية، إذْ يصرّ العرب أن العثمانيين (الأتراك) قد زاولوا بحقّهم إستعماراً وظلماً طالت قروناً متلاحقات، وهذا ما يُمَكِّن الولايات المتحدة وسواها من تصعيد تلكم المعضلات نحو خصومات أعمق ما بين "تركيا الحديثة" والعرب، وبالأخص حيال "مصر وسوريا".
• وثمّة نقطة ذات أهمَية قصوى تكمن في إنعدام تقَبُّل "تركيا" وإستحالة سماحها لإنبثاق دولة كردية مستقلّة فيما يُسَمّى بـ"كردستان الكبرى" يدعمها الإتحاد السوفييتي، وقد تؤدي لقلب الموازين وإنبثاق حروب في عموم المنطقة.
• النفوذ اليهودي -المُدعَم صهيونياً- والمتغلغل في المجتمع التركي وأمور دولته، على عكس جميع بلدان المنطقة، ما يؤهِّل "تركيا" للتقارب مع الغرب.

ولكن، من ناحية أخرى، فإن الإرتماء في الأحضان وكذلك قبول الإحتضان قد يتطلّبان دفع أثمان باهظة في أكثر من منحى، ويكمن أهم مسالكهما في التقرّب التركي نحو الولايات المتحدة الأمريكية والكتلة الغربية بغية إرضائهما، ليس بإنتهاج سياساتهما العامة فحسب، بل ينبغي إتمام الإعتراف الرسمي بـ"دولة إسرائيل" التي زُرِعَت في قلب الوطن العربي والإسلامي، فهذا ما يجعل "تركيا" أقرب إلى الغرب من أي وقت مضى.
وهكذا تسلسلت الوثائق التي إحتضنها هذا الكتاب وتتابعت أحداثها بلوغاً إلى إعتراف "الحكومة التركية" بـ"إسرائيل" وفقاً لبيان رسميّ أُعلِنَ في وسائل الإعلام مساء يوم (28/مارت-آذار/1949) في عهد رئيس الجمهورية "عصمت إين ئونو" ورئيس وزرائه "شمس الدين آلطاي"، قبل أن تتبادل "آنقرة وتل آبيب" زيارات رسمية مهّدَت لتحقيق التمثيل الدبلوماسي على مستوى "وزير مفوّض" في أواخر العام ذاته وسط ذهول إنتاب العالمَين العربي والإسلامي على السواء، وترحيب العالمَين الغربي والشرقي وإستحسانهما.
وبذلك قويت شوكة اليهود في "تركيا" أكثر من ذي قبل وتسارع نفوذهم بإضطراد، فباشروا بتنظيم هجرات إلى "فلسطين" بواقع الآلاف وبشكل مُعلَن... وفي حين لم يَعُد منهم إلى وطنهم الأصل "تركيا" سوى بضع مئات لموجِبات شتى معظمها لصالح دولتهم الفتيّة "إسرائيل" كي لا تخلو أرض "تركيا" منهم، فقد تعاظمت الدعاية للصهيونية في الأوساط الصحافية ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة في أروقة كبريات المدن التركية ومنتدياتها، وقتما فتحت السلطات التركية أرض البلاد ليهود أتوا من "إيران" ودول البلقان وأوروبا الشرقية بجوازات سف أصولية فيقيمون في ربوعها بإقامات مؤقتة قبل أن يُهاجروا عبر موانئها ومطاراتها إلى "إسرائيل" من دون تحفّظات تُذكَر.
وتُرَكِّز الوثائق كذلك على تبادل زيارات أجراها الصحافيون والإعلاميون والرياضيون وهواة السفر والسياحة بين الطرفين، حتى تتطور العلاقات البَينيّة إلى حدّ فتح "ملحقية عسكرية إسرائيلية" في "آنقرة"، حيث يستقبل كبار قادة القوات المسلّحة التركية بكل رحابة صدر "الجنرال موشي دايان" -قائد المنطقة العسكرية الجنوبية لإسرائيل- واصفين زيارته بأنها غير رسمية!!! رغم كونها طالت أسبوعين كاملَين خلال أواخر عام (1950)... ولكنها كانت في حقيقتها لأغراض الإطلاع على التطورات المتصاعدة في تشكيلات الجيش وعموم القوات التركية المسلّحة، والتفاوض التمهيدي لتعيين "ملحق عسكري إسرائيلي" لدى "تركيا" قبل أن يغادرها إلى "اليونان" للغرض نفسه.
وتعرج وثائق أُخرى على مدى تأثير الأموال اليهودية على واقع الصحافة ودور السينما والإذاعات والشخصيات السياسية والأثرياء الأتراك، وتلك الأدوار الجريئة التي أدّتها الشركات التجارية والمصانع الإسرائيلية، مصحوبة بإحصائيات دقيقة بالأرقام عن الصادرات التركية إلى "إسرائيل" وإستيراداتها منها منذ أوائل سنة (1950)، ووشائج "إسرائيل" وتغلغل نفوذها نحو دول شرقيّ أوروبا أوائل عام (1951)، ومواقف "تركيا" السلبية وإنعدام تحريكها أي ساكن حيال الإعتداءات الإسرائيلية المسلّحة بإستخدام الدبابات والمدرعات والمدافع والطائرات على المناطق الحدودية المتاخمة مع "سوريا، الأردن، وقطاع غزّة" خلال العام ذاته.
ويعرض وزير العراق المفوض لدى "آنقرة" أمام أنظار وزارة الخارجية العراقية -وسط تقاريره الخاصة والمفصّلة- منذ أوائل عام (1951) مقترحات عديدة عملية وواقعية لمواجهة عربية مشتركة تجاه الدعاية الصهيونية المتعاظمة في "تركيا"، ولكن من دون أن تلقى طروحاته آذاناً صاغية لدى الدولة العراقية القائمة في حينها... بينما تعرض وثائق أخرى معلومات صحافية من داخل "إسرائيل" عن الأوضاع الإجتماعية، الصناعية، التجارية، العمرانية، والعسكرية وسط مجتمعها المؤلّف من ثقافات متعددة ومتعاكسة تجمّعت من الشتات، إلى جانب إحتمالات عقد صفقات وإتفاقيات عسكرية بين "تركيا" و"إسرائيل" تحت ظلال إهتمام واسع تبديه الأخيرة في هذا الشأن.
وإستناداً على وثائق الكتاب، فإن على العكس من الدول العربية القائمة في تلك الحقبة فقد أفلحت "إسرائيل" تماماً في ترسيخ الدعاية لصالح دولتها الفتية وللصهيونية العالمية في عموم "تركيا" لأسباب عديدة، أتت في مقدمتها:-
• إفتقار الممثليات الدبلوماسية العربية المعتمدة لدى "آنقرة" و"إستانبول" إلى موظفين مهنيّين قديرين يتقنون اللغة التركية الحديثة كي يؤدوا مهماتهم كملحقين صحافيين وثقافيين وتجاريين وعسكريين، فضلاً عن محدودية المبالغ المرصودة للدعاية العربية، وعلى خلاف المفوضية الإسرائيلية التي يتقن موظفوها اللغة التركية بجدارة وتبذخ أموالاً طائلة للدعاية من دون تحفّظ.
• عدم إقدام الحكومات العربية على عقد أية عقود أو إتفاقيات تجارية بغية إستمالة "تركيا" إلى جانبها، الأمر الذي جعل التبادل التجاري بين الطرفين غير رائج بالمرّة، فضلاً عن شبه إنعدام للإرتباطات المفترضة بين التجار العرب والأتراك من حيث الأساس لأسباب زرعها الإستعماران الإنكليزي والفرنسي في النفوس.
• كان الـ"دونَمَه" وعموم يهود "تركيا" قائمين بالدعاية للصهيونية و"إسرائيل"، مُؤَدّين كل الواجبات المطلوبة من المفوضية الإسرائيلية قبل إفتتاحها الرسمي نهاية عام (1949)، إذْ كان كل فرد يهودي في هذا الوطن يعدّ شخصه جزءاً من كل يهود العالم وصهاينته.
• إنتشار اليهود في عموم المدن التركية، ومنهم أساتذة جامعيون وأطباء ومهندسون وموظفون ذوو درجات عالية ومناصب رفيعة لدى معظم وزارات الدولة ودوائرها، كما أن التجارة الداخلية والخارجية وأعمال الصَيرَفة وتحويل الأموال كانت -وما زالت- تحت قبضتهم، وقد بات العديد منهم شركاء مع الممولين الأتراك لدى مجالس إدارات كبرَيات الشركات والمعامل والمصانع ذات السمعة والأهمّية.
• تدنّي التعصّب المجتمعي للدين الإسلامي في "تركيا" مقارنة بما كان عليه الحال إبان عهد الدولة العثمانية، وقد أمسى الشبّان الأتراك -منذ تأسيس جمهوريّتهم- يقترنون مع الفتيات اليهوديات، فيما يقابلهم رجال الـ"دونَمَه" بالزواج مع لتركيات المسلمات.
• ترسّخ اليقين لدى القادة الأتراك في الحكومات المتعاقبات أن "إسرائيل" لم تُزرَع بوصفها كياناً في أرض "فلسطين" المقدّسة إلاّ بمساعدة الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأن إفادة "تركيا" من الدعم السياسي وسط المجالات الدولية والمساعدات العسكرية والإقتصادية الأمريكية مقرونةً بمماشاة الأمريكيين من دون مشاكسات مع "إسرائيل" ومعاكسة دعايات المنظمات الصهيونية والوكالات اليهودية في عموم "تركيا".
• أن "شركة الإعلانات الشرقية" -وهي المؤسسة الكبرى الرئيسة والمسؤولة عن الإعلانات في "دولة تركيا"- تشكّلت برأسمال يهودي، وإستحوذت على إيرادات عموم الصحف والمجلات التركية، فغدت من أعظم وسائل الدعاية للصهاينة و"إسرائيل".

وعلى أي حال، فإن وثائق الممثليات الدبلوماسية العراقية الـمُعتَمَدة في "تركيا" خلال (ثلاثة) عقود من القرن المنصرم- لا بدّ أن تُعتَبَر ذات فائدة قصوى للقارئ والمتابع الكريم ولأي باحث عن أمور "تركيا" الحديثة بشكل خاص، كونها تضع نقاطاً لتوضيح الكثير من الحروف المبهَمة في مواقف الحكومات التركية نحو "قضية فلسطين" واللاجئين المشرّدين من ديارهم والقدس الشريف، وعلاقاتها الإيجابية مع اليهود و"إسرائيل" خلال الفترة الحَرِجة للأزمة الفلسطينية في غضون الأعوام (1939-1956).
وسيتلمَّس الباحث كذلك أموراً أخرى عديدة ومفصّلة بين صفحات الوثائق ومُتونها وأوساط سطورها من معلومات وأحداث ووقائع وقضايا وتصريحات لمسؤولين أتراك وإسرائيليين وشخصيات عربية وأجنبية وعالمية تزيد كثيراً عمّا إستطاع السيد الوالد عرضَه، ولربما تفيده كثيراً في إعداد مقالات سياسية وبحوث تأريخية معاصرة ورسائل لطلاب الدراسات العليا وأطاريحهم بما هو متعلّق بـ"تركيا" و"إسرائيل" معاً، وكذلك تلقي ضوءاً على العلاقات الإيجابية والسلبية التي كانت قائمة بين دول منطقة الشرق الأوسط وأقطار الوطن العربي والإسلامي والعديد من دول العالم في تلك الفترة.
وفي الوقت الذي أهنّئ ذاتي وعائلتنا وأصدقاءنا، فإني أرفع عظيم التبجيل والإعتزاز لوالدي الحبيب "العميد الركن الدكتور صبحي ناظم توفيق" -أطال الله في عمره وحفظه ذخراً لنا- لهذا الإنجاز الوثائقي الذي أضاف معلومات غير مسبوقة يَفيد التأريخ المعاصر، مع وافر الشكر والتقدير لـ"مركز شرقيات للبحوث" التركي لتكلّفه بإظهار هذا الكتاب وما يليه بواقع (تسعة) كتب متسلسلة وثائقية أخرى إلى الوجود.
ومن الله -سبحانه وتعالى- التوفيق والسداد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

763 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع