الموت قتلاً بالرصاص
أمضى القادمون من جميع المحافظات العراقية الى بغداد، ممثلين عن قيادات فروع حزبهم ، ليلتهم في فنادق خصصت لهم، حسب الدرجات الحزبية، بينها فندقي بغداد وأطلس. آخر تبليغ لهم قبل النوم، هو التجمع في بهو الفندق الذي هم فيه بالساعة الخامسة والنصف صباحاً، وفي تمام السادسة، يكونون أمام بناية القيادة القطرية للحزب.
كان يوم الثامن من آب، حاراً منذ الساعات الأولى لحلوله، حضر الرفاق في الموعد المحدد، لا يعلمون لماذا حظروا في هذا الوقت المبكر بالذات، يسأل بعضهم الآخر، لمَ حضرنا، وما هو المطلوب من حضورنا.
بعضهم كان قلقاً، لأن رفاق لهم حضروا الى قاعة الخلد قبل أيام، ولم يعودوا منها، فأصيبوا بوباء القلق الذي لا يشفى.
أطل على حسن المجيد، بسيارة رئاسية سوداء نوع "مرسيدس"، أقترب من جمهور المتجمعين، أعطى أوامره الصارمة بضرورة الصعود الى السيارات، المخصصة لنقلهم الى مكان محدد.
لم يذكر اسم المكان المحدد، تدخل في تفاصيل توزيع الرفاق مجاميع من عشرة أشخاص، على كل سيارة.
لدى السائق تعليمات بالمكان الذي اليه تذهبون.
المهمة التي تؤدوها اليوم تاريخية، ستبقى ماثلة في سجل الحزب، خدمة جليلة.
تحرك رتل السيارات بقيادة المجيد، وصل المثابة المطلوبة، ساحة الرمي الخاصة بالفوج الثاني لواء الحرس الجمهوري.
ألتفت الرفاق بعضهم الى بعض، لا يعرفون الخطوة الآتية حتى الآن.
نصف ساعة مضت وهم ما زالوا يقفون في أماكنهم، ينتظرون في هذه الساحة، التي شهدت الرمي على آلاف الأهداف الوهمية، الا هذه المرة فالأهداف ليست وهمية، انها من بين قادتهم، كانوا حتى وقت قريب مسجلين كبار الدولة، وكادر حزبها الوحيد والأوحد.
يمر الوقت ببطء شديد، وعند انتهاء النصف الأول من ساعة الانتظار، امتلأت الساحة بأعقاب السكائر.
وصلت في الدقيقة الثالثة من النصف الثاني لها سيارتان رئاسيتان.
ترجل من الأولى رئيس الجهاز، ومن الثانية ولدا الرئيس.
كان وصولهم، إيذانا بالشروع في إكمال المهمة.
اثنان وعشرون شخصاً وقفوا في رهط عريض من صف واحد، عُصبت أعينهم، وكممت أفواههم، وقيدت أيديهم الى الخلف.
رفاق، هؤلاء الواقفين أمامكم خانوا الحزب، تآمروا عليه، حُكُموا بالإعدام من قبل المحكمة التي شكلتها قيادتكم الحكيمة، يستحقون الموت، ويستحقون أن تكون أماتتهم على أيديكم رفاق مخلصين، ليبقى الحزب أكبر من الجميع، هذا ما قاله المجيد قبل بدأ التنفيذ المطلوب للمهمة.
وزعت البنادق على الرفاق الذين شكلوا صفاً يشبه نصف الدائرة، ابتعد الأول من اليسار، ومثله الآخر من اليمين عن الرهط المطلوب، إماتة أصحابه رمياً بالرصاص بحدود العشرون متراً.
هناك على يمينهم، والى الخلف منهم، رهط آخر من الحمايات الخاصة، أيديهم على الزناد.
حسب المجيد ورئيس الجهاز كل الاحتمالات.
أنا لديّ بندقيتي الخاصة، ولا أريد بندقيتكم، قالها عدي الابن البكر للرئيس بصيغة أمر، أصدره الى الضابط الذي أخذ على عاتقه، توزيع البنادق على الحزبيين القائمين بالتنفيذ.
نعم سيدي، أمرك سيدي، قال الضابط في رده على أوامر ابن الرئيس.
أشر عدي الى سائقه، بأن يجلب بندقية الصيد خاصته، وكذلك بندقية شقيقه قصي، وأضاف موجهاً حديثه الى عمه رئيس الجهاز، طالباً أن تكون حصته محمد عايش، فأعقبه شقيقه الأصغر على الفور، بأن تكون حصته عبد الخالق.
حاول اللواء وليد قول شيء ما، لكن الشريط اللاصق على فمه، حال دون خروج الصوت، في محاولة جلبت بوضوح أنظار الجميع، منهم علي حسن المجيد، الذي ألتفت الى رئيس الجهاز، سائلاً عن أمر المجرم هذا وليد، قد يكون لديه قولاً يهم الحزب، في صحوة ما قبل الموت.
لا أعتقد هذا، أجاب رئيس الجهاز، وأكمل القول من أن وليداً معروف بوقاحته، وإن مجرد رفع الشريط عن فمه، سيسمعنا كلام لا يصح سماعه أمام هذا الجمع من الرفاق. ثم أن لديّ توجيه من قبل السيد الرئيس بسد الأفواه، لكي لا ينطقوا الشهادة، ويموتوا كفرة لخيانتهم الحزب والثورة.
تقدم منه الضابط المعني بتوزيع البنادق معلناً، اكتمال التوزيع لجميع الحضور، ووضع اطلاقة واحدة في كل بندقية، باستثناء الرفيقات. سأل عن مدى شمولهن بالتوزيع، والمشاركة في التنفيذ، فأجابه، لا حاجة لمشاركة الرفيقات في الرمي، هذا ما يراه الحزب، خاصة وانهن لم يحصلن على التدريب الكافي للرمي حتى الآن، فوجه بوجوب بقائهن على جنب، والاكتفاء بالمشاركة عن طريق المشاهدة فقط.
تقدم الابن البكر، واقفاً في مواجهة الرهط المعرف بالخونة المذنبين، كمن يفتتح احتفالا من نوع خاص. يحمل بندقية الصيد الانجليزية "بوردي" التي يفتخر باستلامها من المصنع مباشرة منذ شهرين، ويفتخر بأنها بندقية غالية الثمن، تصنع حسب الطلب. التفت صوب عمه رئيس الجهاز الواقف بالقرب، طالباً الشروع بإطلاق الرصاص، فأجابه العم مشجعاً بقوله، هذا يومها، الصيد ثمين، يستحق هذه البندقية الثمينة.
سدد أولا على الساق اليمنى للضحية محمد عايش، فتطاير الدم على الواقفين بجانبه. وقبل أن يتلوى، ويسقط من شدة الألم وتهشم العظام، سدد على ساقه اليسرى.
كتم الضحية أنينه، كأنه يتحدى الرامي، الذي لا يعرف أنه ابن الرئيس، وإنه يتمتع بصيده، وببندقيته الغالية الثمن.
عاود التسديد قبل سقوط الصيد، على هذه الأرض المتربة، فوجه الثالثة الى بطنه.
كان الضحية في طريقه الى السقوط، متماسكاً وإن أسلم الروح في الغالب. جاء تماسكه بتأثير جهاز عصبي، ما زال يمتثل الى أوامر التحدي، رغم انتهاء قدرة العقل على إصدارها. وقبل أن يصل الأرض تلقى الرابعة في رأسه، فتطاير المخ، من بين فتحات جمجمة أحدثتها رصاصات البندقية المشهورة.
يتعالى الهتاف من قبل الرماة المتأهبين للهتاف بحياة الرئيس، وبالموت للخونة أعداء الحزب والثورة.
تقدم من بعده الشقيق الأصغر، حاول تقليد شقيقه الأكبر، وإنهاء مهمته بعدة اطلاقات، وزعها على جسد الملا عبد الخالق السامرائي، من بندقية قنص أمريكية الصنع، هي غالية الثمن أيضاً.
عاود الهتافون، هتافهم بحياة الرئيس وعظمته، بصوت أعلى يسمع من بعيد، وكأنه حشد من آلاف المشاركين في تظاهرة شعبية، لنصرة القضية الفلسطينية، التي تعودوا الهتاف لها بصوت عال وبحماس شديد.
وقف الباقون من الرماة المشاركون بالتنفيذ، ماسكين بنادقهم المحشوة، برصاصة واحدة، ينتظرون الشروع بالرمي، حسب إيعاز يأتيهم من المشرف على العملية، علي حسن المجيد.
ترتجف يدا عضو فرع الشمال فهمي الحمداني، وهو ماسك بندقيته الروسية، يصوب على صديقه غانم عبد الجليل، الذي تصادف ان يكون أمامه مباشرة، حاول حرفها باتجاه آخر، يبتعد فيه عن هذا الصديق الذي نشأ معه طالباً، ورفيقاً في دروب الحزب الملتوية لعشرين عاماً، خاف من ملاحظة الرامي في جواره وافشاء سره، وخاف من المجيد ورئيس الجهاز، ومن صف الحماية المتأهبين من جانبهم، وبعد أن أحس أنه وباقي الرهط المكلف بالتنفيذ موضوعون جميعاً تحت اختبار حزبي من نوع خاص. أدرك حراجة الموقف، وبات بسببها وشدة الخطورة، يكلم نفسه كلاماً غير مسموع:
غانم سيموت حتماً.
ستوجه الى قلبه في هذه اللحظة عدة رصاصات، من عدة رماة موجودون هنا في هذا الصف المتأهب للقتل، فما فائدة أن لا أوجه رصاصتي اليه.
سأوجهها الى قلبه المفعم بالرحمة، لأجنبه وجع الاصابة في أماكن أخرى.
سوف يسلم روحه الى خالقها قبل أن يسمع رصاصتي، وقبل ان يميزها دون الرصاصات الأخرى.
لا، سأنتظر لحظة انطلاق الرصاص، وأطلق رصاصتي الى قلب صديقي العزيز. عساها تصل بعد رصاصات أخرى من غيري، ولا تحسب روحه الطاهرة أني من قتلها.
آه يا إلهي ما هذه الشدة.
لعنة الله على اليوم الذي انتميت فيه الى حزب، يدفعني الى هذا الموقف الصعب.
ردد البسملة، وبدأ قراءة الفاتحة على روح صديقه، التي ستُزهق بعد لحظات، وقبل ان يكمل الآية الأخيرة من سورة الفاتحة، سمع صوت الرصاص قد دوى من كل اتجاه، فأطلق هو رصاصته الوحيدة باتجاه الصديق العزيز، مقتنعاً أن هذا الصديق، قد أسلم الروح قبل وصول رصاصته. وابعد من هذا، كاد أن يكون متأكداً أن رصاصته، لم تطال هدفها أصلاً، لأنه خر صريعاً مع لحظة انطلاق الرصاص.
اتجه مع غيره بعد اتمام المهمة لتسليم بنادقهم، كتم دمعة كادت تخرج من مقلتيه، دعا الله أن تكون الرصاصة التي انطلقت من بندقيته قد أخطأته.
توقف بعدها عن مناجاة النفس.
أعاد قراءة الفاتحة على روح الصديق مع أمنية في أن لا يكون قد أسهم في قتله.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/37816-2018-11-14-07-55-14.html
733 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع