صخب قاعة الخلد
يعم الهدوء قاعة جلس أصحابها جميعاً على مقاعد الاتهام، لا يعرفون ما يحصل من حولهم، ولا يمكنهم التنبؤ بما سيحصل لاحقاً. مزاجهم خليط من الدهشة والذهول والخوف، وهستيريا متناوبة بين الضحك، وبين البكاء، وكذلك من الصراخ المتكرر لمجموعة شعارات، أمام قاض وحيد، أخذ مكانه أعلى وسط المنصة مزهواً بالانتصار.
مزاجٌ، وزمن ضاعا في ذاكرتهم ما بين دخول القاعة، وانتهاء السيد محي عبد الحسين من قراءة الأسماء.
ومع هذا استعادت وجوههم لونها الحقيقي، بعد التأكد من ضمان الحصول على صكوك الولاء المطلق للرئيس.
كلم الرفيق عزام صاحبه، بعد ان أغدق على نفسه بقدر من الهدوء والسكينة، عن أن الزمن في داخله قد أنكمش حداً، لم يعد يحسب فيه الساعات التي مرت من عمر، أنقصته سويعات الاجتماع هذه عدة سنوات. رده طالباً السكوت حتى الخروج من القاعة بسلام، فصكوك الولاء لا تشبه ضماناتها صكوك الغفران.
في الجانب الآخر من القاعة، قفز الرفيق عواد من وسطها فاقداً السيطرة على ذاته المضطربة، كأنه أصيب بصدمة العفو من حكم الاعدام، قبل التنفيذ بلحظات.
هتف بحياة الرئيس حامياً الأمة العربية من المحيط الى الخليج.
منقذاً العراق من كل تآمر خسيس.
نصير المظلومين في العالم.
باني الحزب من جديد.
أستمر هكذا في الهتاف، وبمواصفات للرئيس، غالبيتها تُذكر لأول مرة، حتى جف حلقه من شدة الحماس، فأغميَّ عليه. تقدمت اليه الحماية باشارة من المقدم رباح، وضعته جانباً في ممر للتيار الهوائي، تاركة حاله الى الرفاق، آخذين على عاتقهم افاقته، بسبب انشغاله واياهم بقضايا أهم، من فقدان الوعي لموالٍ مضمون للرئيس.
يعود الهدوء من جديد، فاستغله علي حسن المجيد من مكان له متميزاً في الصف الأول. انتصب واقفاً بقامة طويلة، تشاهد من كل أركان القاعة. طلب الحديث لملاحظة صغيرة. فأذن له الرئيس مرحباً فقال:
"هذه الفقاعة التي ذكرتها ما أظن إنها تسبب لنا انكسارات نفسية، ولكن لو نرجع الى الخلف، ولا أريد لوم القيادة ولا أريد ألوم نفسي ولا أي أحد مهما يكون لأن كل ما عملته القيادة صحيح وكل ما ستعمله هو صحيح ومؤمنين به ايمان مطلق. لكن وجود عبد الخالق السامرائي حياً يشم الهوا أكو عناصر لازم ترجع مرة أخرى وتعيد الكرة وتعمل على إعادة عبد الخالق السامرائي مرة أخرى ... فآني أرجو تنبيه أو أنتباه القيادة ... عفوا مو تنبيها لهذه المسألة...وضرورة أن يحاكم مجدداً عبد الخالق السامرائي وضرورة أن يعدم عبد الخالق السامرائي".
يتعالى التصفيق تأييداً لملاحظة المجيد، ومطالبته اعدام عبد الخالق، المسجون مدى الحياة. فيرد الرئيس قائلاً:
"على أية حال عبد الخالق مثل ما حجولكم ... بعد الآن ما نرحمو... ما أكتمكم سر إذا ما كلت ... آنو أنا المسؤول الأول عن بقاء عبد الخالق السامرائي حيا".
والذي عملته سيدي صحيح، قال المجيد معقباً. ومن بعده أكمل الرئيس:
" وكلها ضمن قيم ... يعني القيم البعثية هذي .... ونگول لا كون خاف نخسرنا بعثي صغير بسببه هل البعثي الصغير هذا ما لازم نخسره ... بس لا ... قضية أمن الثورة والحزب هي أكبر من اي شيء رفيق علي".
لابد وأن نقطع رأس الأفعى سيدي، رددها المجيد بصوت مسموع، وأضاف بأن انجازنا الجبار هذا سيبقى ناقصاً، إن لم نقطع رأس الأفعى.
عفيه رفيقي، رأيك صحيح، الحزب لابد وأن يعمل على قطع دابر الأفاعي في هذا البلد الأمين، رد الرئيس، وأكمل رده مسترسلا في الكلام الذي يتقنه ارتجالا:
عبد الخالق، لم يتعظ، بقيَّ يتآمر على الحزب والثورة، على الرغم من عفونا عنه، وتخفيضنا لحكم الإعدام الذي صدر بحقه الى المؤبد.
يسكت ثوانٍ معدودات، ثم يواصل الكلام:
أبشر سوف لن يفلت أحد من العقاب، مهما كان موقعه، وفي أي مكان يكون من هذا العالم. الثورة اليوم بعون الله وهمة الرفاق الخيرين من أمثالكم، قادرة أن تصل الى كل بقاع العالم. العراق اليوم ليس هو عراق الأمس. ستسمع رفيق، وسيسمع كل الرفاق والعراقيون العظماء أخباراً تسرهم في القريب العاجل.
بعدها وقف في مكانه، ردد الشعار إيذاناً بانتهاء الاجتماع، ثم أكمل ما قاله طالباً من الرفاق الاتكال على الله.
يملأ الهتاف قاعة الخلد، بوقع أشد من المرات السابقة.
يحس الرئيس زهواً بنصره على المتآمرين.
التفت بجسمه الممتلئ الى جمهور الرفاق الغاط بالهتاف، كأنهم يقفون جميعاً على خط محدد لسباق خاص بالهتاف، أو أنهم قد أصيبوا بعدواه النفسية، وهو الاحتمال الأكثر. اتجه نحو الممر المؤدي الى باب القاعة بموكبٍ، تضاعفت أعداد الحمايات في سيره، وأتجهت نحوه الحناجر هاتفة لاسمه العلي، وأخرى تردد أهازيج شعبية، ومعها مناداة بأعلى الأصوات "الموت للمتآمرين".
يلوّحُ بيده اليمنى راضياً بما تحقق، وبوعود لتحقيق المزيد، كأنه ينتظر المزيد من الهتاف والتأييد، بإيقاع القصاص على كل من يتطاول على الثورة والحزب، وعليه قائد وحيد.
الحمد لله على السلامة، قالها الرفيق جمال عضو فرع بغداد الكرخ، لصديقه غازي، عضو مكتب تنظيم الوسط، الماشي الى جانبه أثناء الخروج من القاعة مقترحاً بقاءه في بغداد، وعدم عودته الى بابل هذا اليوم، وتحويل الوجهة صوب مكان يستطيعون فيه الاحتفال معاً بهذا اليوم العظيم، ثم استمر بالقول:
أحس برغبة شديدة، لأن أتكلم، منابع القلق في داخلي، تكاد تقتلني، دعنا نخرج الى أي مكان، نحتسي فيه خمراً، يساعدني في أن أتكلم.
لكن بغداد في رمضان، تغلق حاناتها، ونواديها في هذه الأيام لا تقدم مشروباً يساعد على فتح منافذ الذاكرة، ويطلق عنان الكلام.
ساجد حلاً لكسر هذه القاعدة، سيغفر الله عصيانه في كسر القاعدة بهذا اليوم، عصيان قابل للغفران سيدي، خير من الموت كمداً بلا ذنوب آتية من عصيان.
وكيف سنقضي الوقت من الآن حتى الليل؟.
أتذكرُ صديقنا نوفل من أيام الدراسة الجامعية؟. لقد عمل في التجارة، وبات ميسور الحال، اشترى مزرعة، من الرفيق حازم الذي حصل عليها هبة من الحزب، محاذية للطريق العام بغداد - سلمان باك، بنى فيها بيتاً جميلاً، جهزه بكل لوزم الراحة، خارجه مسبح طوله خمسين متراً، داخله بار يحوي انواع من المشروبات، أعتدنا الذهاب اليه في بعض الامسيات التي نجد فيها أنفسنا مشدودين، محتاجين الى الكلام، دعنا نقصده.
لكنني لم أره منذ عشر سنوات، ثم أني صائم.
هو يَذكُركَ دائما، سيفرح بوجودك. وبالنسبة للصوم، أنا عن نفسي سأفطر حالاً، لم أعد قادراً على الاستمرار بالصوم، سنذهب اليه في مكتبه بالكرادة، ونأخذه معنا الى المزرعة، نتغدى، ونسبح، ومن ثم نبدأ مشوار الترويح مع بداية الليل.
الساعة الثامنة ليلاً، جلس ثلاثتهم على حافة المسبح، استذكروا أيام دراستهم في كلية التربية قبل عقدين من الزمان، ومسيرتهم الحزبية فيها شباب متحمسون، ومعه أخذ الويسكي من النوع الخاص مأخذه، في سهرة استمرت حتى الرابعة صباحاً.
سأل نوفل صاحبيه قبل التوجه الى النوم عما حدث في قاعة الخلد؟.
أجاب جمال، لقد تهاوى الرفاق مثل الهشيم، كنت محموم في داخلي، شعرت وقد أرتفعت حرارتي، خفت أن أنفجر، المحكمة الحزبية ستبدأ بعد أيام، ومن هذا اليوم الى ذاك، الذي ستطوى فيه صفحة المؤامرة ألف عمامة ستميل، كما يقول أهل المثل.
فردد نوفل عبارة "الله في العون".
إني لا أعتقد أن محيي سيبقى صامداً الى يوم المحاكمة. كنت أراه في القاعة، وكأنه في عالم آخر بعيد عما يجري، قال غازي. فأفصحَ جمال عن حقيقة سَرهُ بها يوم أمس، نسيبه المدير في جهاز المخابرات، كان قد حضر آخر جلسة تحقيق، مع محيي المشهدي، قال، لقد كان محيي عنيداً، لم يعترف بذنب اشتراكه في المؤامرة، على الرغم من وضعه عارياً في حوض ماء، انخفضت حرارته دون الصفر، وكان غير آبه لضغط يديّ الرفيق رئيس الجهاز على رأسه الأصلع من الأعلى، لإغراقه حد الاختناق، وتكرار الأمر عدة مرات قربته من الموت. كان صلباً لم يعترف، ولم يعترف ايضاً عندما عرضوه لصعقات كهربائية. بقيَّ مصراً على براءته، لكنه لم يصمد دقيقة واحدة بعدما سمع رئيس الجهاز، يصدر أمراً بجلب زوجته الى الحاكمية، عندها أيقن بعدم جدوى الإصرار على التحدي، وأقر بالاستسلام والتوقيع على ورقة بيضاء. طلب أن يملي عليه رئيس الجهاز ما يريد، فاكتفى سيادته، بوضع توقيعه على اعتراف المشاركة في المؤامرة، وإن محمد عايش هو الرأس المدبر لكل شيء، وإن لعبد الخالق السامرائي علم بها.
وهل حقاً كان يمكن أن تُجلب الزوجة الى الحاكمية، سأل نوفل، فأجابه جمال بعبارة قصيرة:
في هذا اليوم الذي تبرر فيه الغاية الوسيلة، كل شيء ممكن، وأضاف، سيأتي محيي الى المحكمة، وسيحاكم، لكنه لم يعدم، هناك وعد قال عنه نسيبي من السيد الرئيس بإعفائه من الاعدام، إذا ما أعترف بالمشاركة، وقد أعترف فعلاً، وهو المطلوب.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/34543-2018-03-13-08-04-37.html
326 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع