الذات تتأرجح بين السؤال والغياب: مريم مشتاوي في: "حين تبكي مريم"
ايلاف:تشكل الأسئلة يقينًا دلاليًّا جليًّا في شعرية الشاعرة مريم مشتاوي. إن صياغة السؤال الشعري هو نوع من اجتذاب عنصرين: الأول: البحث عن يقين، حيث إن صياغة السؤال بمثابة صياغة نصف اليقين، وتظل الأجوبة معلقة في مناط التأويل عند القراءة ، خاصة وأن السؤال – شعريًّا - لا يُدرج بالضرورة فيما هو منطقي، والثاني: جذب آلية التلقي، حيث إن السؤال يشكل – بمعنى أو بآخر – قدرًا من المشاركة ما بين مرسل الرسالة الشعرية (الشاعرة) والمتلقي (القارئ) ، وفي هذه العملية نحن حيال صياغة حيوية لا تفرط في بعدها الدال بل تصبو لجذب يقين ما، أو ربما أسئلة ما جديدة تضاف على السؤال المطروح، وقد توسعه أو تضيقه، لكن يبقى فعل الاتصال والتأويل والبحث صانعا للحيوية واليقظة القارئة.
يضم ديوان :" حين تبكي مريم" ( دار المؤلف، بيروت 2016 ) للشاعرة مريم مشتاوي ( 42) قصيدة، ولنلحظ في البدء أن عنونة الديوان لا تغفل اسم الشاعرة نفسه، ودلالاته الواصلة بعمق ديني، يتخذ من شخصية العذراء خلفية إدراكية بعيدة أو قريبة لتغطي المساحات الخلفية للنصوص .
شعرية الأسئلة:
هل نستهل هنا بشعرية الأسئلة لنسمي مجالا دلاليا بارزا من مجالات الديوان؟
إن الاسئلة تتواتر بشكل قد يشكل ظاهرة في نصوص مركزة كلماتها، وقصيرة جملها الشعرية، وهي في الآن نفسه قصيرة ومركزة. ومع هذا القصر لا تذهب الشاعرة إلى أفق تجريدي لكنها تبسط، وتمهد الطريق للقارئ العام ليرى أكثر، كأنها نصوص وامضة مشعة لتبيان دلالة أو لاحتضان معنى، أكثر من كونها نصوصا موغلة في تجريدها أو كينونتها الداخلية المغلقة.
وهنا يكون البدء بالوجداني، والسؤال الباحث عن تبريرية ما:
لمَ أحبك؟
ألأنك الوحي ونقيضه
أو لأنكَ تلك القصيدة الأقرب إلى الله؟
أو لأنك نقطة في الكون مني
لا طريق إليها أو منها .. / ص.ص 11-12
تفتتح القصيدة بسؤال وجداني معهود:" لم أحبك؟" ومع تكرار السؤال تتفتح الدلالات بين مقطع وآخر يتصدره هذا السؤال: لم أحبك؟! مشكلة ذلك بأجواء في المطلق، لها قداستها: الله، الوحي، الكون.
في القصيدة الثانية، يأتي السؤال: لم استدرتَ وتركتني أمضي وحيدة؟ / ص 15
وتستهل القصيدة الثالثة بالسؤال: كيف واعدتك؟
وظلالُ عينيك
على بعد حضارة مني
كيف؟ / ص 19
وتستمر الشاعرة في طرح أسئلتها الشعرية ما بين نص وآخر، باحثة عن يقينها الشعري:
قل لي...
كيف تسببتَ بالضجر
لوردة الغاردينيا الموغلة في شعري؟! ص 35
إن تعدد الأسئلة وتواترها في عدد كبير من النصوص يفضي إلى رؤية دالة تؤكد على أنه لا يقين أبدي، في الشعر، وأن الذات الشاعرة بأسئلتها المتعددة إنما تعبر عن قلق أو ضجر، أو ارتياب، فيما تعبر عن حاجتها إلى الوصول إلى حالة مثالية من السمو الجمالي الذي يرى في السؤال دربا للوصول إلى حقيقة ما.
لحظات الغياب:
تشكل لحظات الغياب أفقا دلاليا من آفاق الكتابة الشعرية في ديوان مريم مشتاوي، فغياب الشيء حالة من حالات الفقد والانكسار، وحالة من محاولة الاستعادة عبر الحنين والتذكر والتخيل. الغياب ليس مجرد كلمة عابرة لكنه كينونة شيء مفتقد، وهو بمعنى فلسفي نقيض حالة/ ضد، فالغياب يستدعي حضورا ما للشيء الغائب من جهة، وللشيء الحاضر من جهة، فبالحاضر نستطيع تلمس من هو الغائب بالفعل. لولا الحضور ما كان هناك غياب، وبالعكس.
وهي في أحد نصوص الديوان الأولى تستدعي حالة الغياب، وتسمي بها الحب :" حبي لك
تصوفٌ في لحظات الغياب
واستحضار المستحيل في الذاكرة / ص 31
الشاعرة تستدعي أقصى لحظات الغياب، ربما، إذ تجعله تصوفا، والمزج بين حالة الصوفي الغائب، والغياب نفسه هو دنو من أعالي الغياب، واقتراب من اللا مرئي والمتخيل، والمطلق، فالصوفي الذي يسكر من نشوة انخطافه ويغيب أبعد وأبعد يقدم لنا نموذجا من حالة موغلة في غيابها، والغياب هنا لا من أجل الانذهال، أو الدهشة ولكنه غياب من أجل الرؤية، من أجل ابتكار ما يكتنزه المطلق من أفكار ورؤى وعوالم وفضاءات.
وفي نص :" خميرة الغياب" نحن حيال تفصيل سياقي شعري يحوي: الغياب، والذكرى، والطريق الطويل، وفقدان المعنى، وقد استهلت الشاعرة بالسؤال، وتكرار دلالاته، ولعل الغياب يشكل أفقا من اليقين الذي يجيب أبعد. أو يجعل الذات تتأرجح فيما بين السؤال والغياب، ومن شقوق هذا التأرجح قد نعثر على حقيقة جمالية أو دلالية وامضة.
عجنا خمير الغياب معا
كيف تتركني جائعة؟
في الغياب
كل شيء يفقد معناه
أسجدُ لطهارتكِ يا أمي
وأتنشق عبق يديك
وأبكي الغياب / ص 51
وتعبر الشاعرة كذلك عن الثورة على التقاليد، حتى على تقاليد الحب، فلا قمر ولا رومانسية، ولا هدايا، كما في نص :" ثورة حب" وهذه الثورة تنسحب أيضا إلى البحث عن الحرية، كما في نص:" في المعتقل" الذي تختتمه بعبارة مباشرة:" نحن أحرار، نحن أحرار" وإلى جانب هذه الثورة هناك نوع من الرؤيا التي ترى بها الشاعرة ما يتجدد في الآتي،:
رأيتُ الموتَ تعبا
والصغار في ظهورهم حدبة والشيوخ يرضعون
رأيت حصى تطير بدل البالونات
وسمعت صوت أنطوني الصغير:
لم ترجميني يا أمي
لن أموت مرتين / ص 135
هي شعرية مغايرة هنا، ورؤية تعبر عن أمل قادم رغم ذكر الموت، أمل في الغياب/ الحضور، وبالعكس يحدث بالكلمات ويتغلغل في سياقاتها، حتى إن الموت يتعب من حضوره، ولا بديل لديه سوى أن يجعل الحياة تطول، والغياب يُرى، حتى لو حدث ذلك عبر رؤية متصوفة، رابطة بين حالة الغياب والتصوف، فيما تصنع من الذكرى والتذكر أجواء شعرية تستلهم الأفق الزمني الماضوي، تستلهم طفولات الأشياء، تسلتهم صورة الصغير وترصد حركاته بشكل إشاري مركز.
أتعمد بمياه النسيان
لأطرد ذكراك / ص 47
كما يبدي هذا المشهد قدرا كبيرا من استلهام الذكرى والطفولة:
مزج ذكريات الطفولة بطفولة الابن:
أتذكر آخر مرة
وضعت أذني
على يدك الصغيرة
كان نهر التايمز يغني أغنيته الأخيرة
وكانت المراكب يومها
هادئة
هادئة
هكذا يا ولدي تكون البدايات / ص 148
وفي نصوص كثيرة تتوارد دالة:" الغياب" بمعناها المباشر أو المترادف، أو حتى الضدي، مشكلة قسمات دلالية بالنصوص توضح أن هناك ما يدعو إلى الهروب من الذات أو الجسد أو الواقع الحسي إلى واقع المطلق والروح، إلى الميتافيزيقا بالأحرى.
غدا ستلدُ الغيابَ
وتتقمط الخيبة
وتغفو الفجيعة على صدرها / ص59
غدا ستلدُ الغياب / ص 59
يا صغيري
لحظتي ناقصة
وأنا غائبة
غائبة.. غائبة / ص 71
كما تتضمن نصوص الشاعرة إشارات إلى اليومي كما في نصّي :" ليلة الذكريات الشتوية" و" الحذاء الصغير" كما أنها تعبر من جانب آخر عن الثورة على التقاليد، حتى على تقاليد الحب، فلا قمر ولا رومانسية، ولا هدايا، كما في نص :" ثورة حب" وهذه الثورة تنسحب أيضا إلى البحث عن الحرية، كما في نص:" في المعتقل" الذي تختتمه بعبارة مباشرة:" نحن أحرار، نحن أحرار"
إلى جانب هذه الثورة هناك نوع من الرؤيا التي ترى بها الشاعرة ما يتجدد في الآتي،:
رأيتُ الموتَ تعبا
والصغار في ظهورهم حدبة والشيوخ يرضعون
رأيت حصى تطير بدل البالونات
وسمعت صوت أنطوني الصغير:
لم ترجميني يا أمي
لن أموت مرتين / ص 135
حين تبكين يا مريم
سيتنشق وجهك
في القارة الأخرى
وسيبكي
دعية يبكي
قد تبرق من عينيه الحياة / ص 152
ويطال التمرد حتى الذاكرة التي تضرم فيها النار، والتمرد على لحظات الأعياد:
سأصرخ بوجه كل لعبة جديدة
وكل واجهة مزينة
سأصفع كل شجرة تقف أمامي وأقتلع الأجراس
وأحرق نفسي وسط الساحات الكبيرة
يا صغيري
كيف تركتني
أقطّعُ ثياب الأعياد القادمة . / ص 99
وتعتمد الشاعرة على الجمل الخبرية والمباشرة التي لا تتحرك يمينا أو يسارا أو توغل في صنع سياقات أكثر تركيبية وأكثر اشتغالا على جوهر الشعر الذي يفض المباشر، ويأنف من المعهود، ويتسلل لابتكار فرادة عوالمه .
وجنبا إلى جنب بعض الإشارات إلى الأسطوري، والتراثي، عشتار، بابل، الشام، تمثيلا، يشكل اليومي والتفاصيل الصغيرة فضاء بارزا في شعرية مريم مشتاوي، وهي تذكر أدوات الأنثى وأشياءها، وتشكل منها تعبيرات بسيطة يلونها بعض التصوير الشعري المكثف، كما في نص :" مراسم الوداع" :
أجبرتني الحياة أن أتقن مراسم الوداع كي أوهمك أنني بخير
علمتني كيف أتقي حرك تحت قبعة الدانتيل
وكيف أجمّد لمساتنا وأدفنها داخل قفاز الساتين
وكيف أهيم بك سرا من خلف النظارات السوداء وأتابع
سيري شامخة في الاتجاه المعاكس / ص 123
عندما يطول الألم نعتاده
تماما كالأعمى لن تقهره قسوة الليل مهما طالت
رأيت في عينيك بوابة عشتار تنهار فوق المدينة
وكانت بابل تبكي برقة فوق وجنتيك
ورأيت الشام تنشل من شعرها الياسمين لتقصه قصيرا
وترمي به بقسوة فوق البقع الحمراء / ص 175
تترجمُ مريم مشتاوي شعريتها عبر إضاءة قدر من الزوايا الذاتية المهملة، التي تلوذ بما هو تناصي أولا عبر الاسم ذاته:" مريم" في طلاقته الدينية والتراثية والتاريخية، وفي أبعاده الرمزية، من استدعاء صورة مريم العذراء، وما يشكله هذا من أثر في تلقي عنوان الديوان، والحمولات الدلالية التي يومئ إليها ويتضمنها. وتعتمد الشاعرة في إيضاح ذلك على حزمة متنوعة من النصوص القصيرة والكثيفة، ذات الجمل والسياقات القصيرة، كأنها ومضات متجددة.
لكن مع ذلك قد يفقد النص الشعري - في فضاء قصيدة النثر - جموحه وثورته الجمالية والتعبيرية حين يستخدم القافية ، حيث لا تسمى هنا في النثر قافية بل يسميها البلاغيون سجعا، والسجع معطل بالتأكيد لفاعلية النص النثري وسعيه لكثر الإطارات القديمة للتعبير الشعري والنثري معا. كما في نص:" في زمن الحرب أحبك أكثر" حيث ورود كلمات رائية كقافية وهنا مجرد سجع لا أكثر حيث تغيب وظيفته الجمالية دائما، بيد أن النصوص التي تنطلق في تشكيل مزيجها الإيقاعي عبر كثافة العلاقات وتوترها وإيقاعية الأجواء والسياقات تصنع حالات شعرية خصبة ومدهشة وثرية بالدلالة.
968 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع