جديد الدكتور/ ضرغام الدباغ - نشؤ الولايات المتحدة الأمريكية

   

مقدمة

التاريخ الأمريكي يستحق الدراسة العميقة، ليس بسبب أن الولايات المتحدة الأمريكية تقبض اليوم إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على رقبة العالم، فتشرع ما تريد وتشطب على من تريد، وإلا فنضال سبارتكوسي دام حتى الموت .. ولكن هذا حدث بسبب أن تاريخ ولادة هذا الكيان قد شهد أحداث ودروس وعبر نادرة، وهذه الندرة في الواقع خلقت هذا الكيان النادر ..!

كيف نشأت هذه القوة الخرافية ...!

نشأت هذه القوة العظمى، كأفكار مثالية في الحرية والديمقراطية واحترام لحقوق الإنسان، كانت أفكار لجماهير عزلاء، تركوا أوطانهم ورائهم عبر المحيطات والبحار، جاؤا من كل الديار مضطهدون ليشكلوا دولة الحرية، مضطهدون ملاحقون، تطاردهم التيارات الدينية، والطائفية، والملوك والقياصرة الطغاة، وقاتلوا بكل ما يمتلكون، وكانت وسائل نضالهم قليلة جداً، مقابل عزيمة قوية جداً لا تلين، أجتمعوا من كل الأقطار، وخلقوا ولاءات جديدة لدولة جديدة ومثل ومبادئ جديدة، ومن أصر على ولاؤه القديم (بريطانيا) عزلوه سياسياً واجتماعياً وأطلقوا عليه " الموالون ".

تعالوا إلي أيها المساكين
يا جميع منهوكي القوى
تعالي أيتها الجماهير المختلطة
الضمأى إلى الهواء الحر
وأنت أيتها الفضلات البائسة لشاطئ ضاحك
تعالوا إلى أيها الغرقى ويا من لا ملجأ لهم
فإن مشعلي يلمع أمام أبواب من ذهب

(قصيدة ايما لازاروس محفورة على قاعدة تمثال الحرية نيويورك)

ولكن هذه الثورة الشريفة استولت عليها القوى التي تسعى نحو مصالحها الاقتصادية / الاجتماعية، ولوت عنق الثورة إلى حيث تكمن مصالحها الاقتصادية / الاجتماعية، وحدث كما يحدث في الكثير من الثورات العالمية، ثورات مغدورة تستولي عليها قيادة قد رتبت أوراقها وبرنامجه، وتستغل دائماً أتكالية البعض، وسذاجة البعض، وبساطة آخرين، وبعض من لا يبالي بالحلول المجتزأة، وتخاطب وحشية كامنة في أعماق الإنسان، وتستفز مصالحه الحياتية، وهكذا تحولت ثورة الحرية إلى قطعان من المستوطنين، يطاردون الهنود الحمر في البراري، ويجلبون ملايين العبيد من أفريقيا ويحولوهم إلى قوة عمل / عبودية، وهنا ابتدأ انحدار المبادئ العظيمة إلى ما انتهت إليه الولايات المتحدة اليوم، إلى دركي عالمي، تضطهد كل شعوب العالم لمصالحها وسخرت القوانين لصالحها وشرعت الظلم الدولي.

***********

الاستعمار البريطاني الباحث عن المواد الخام والأسواق قادته أطماعه إلى أميركا وقاده إلى الاستيطان، وهو ضرب من مصادرة للأرض والإنسان معاً، أفتتح العقل الاستعماري القديم (Colonialisim) به هذا النوع من الاستعمار الذي يصاحبه استيطان وتغير ديموغرافي، وقد الاستيطان إلى مجموعة من التفاعلات منها لجوء أعداد غفيرة من البشر إلى الأرض الجديدة، الفقراء، والمعدمون، والهاربون من الاضطهاد الطبقي والعرقي والديني، ومن الثورات الشعبية (الفلاحية بصفة خاصة، ثم العمالية)، من ظلم القياصرة والملوك، وأمراء الأرض وسادة المانيفكتورات، إلى أرض يحلمون فيها بالحرية. ومن حق البشر الهاربون من جحيم الحقيقة أن يحلموا ....... وعندما يتحقق الحلم يقبضوا عليه بالأيدي والأرجل ويعضوا عليه بالنواجذ .. ..

الأرض الجديدة حملت ملامح من الأرض القديمة، فكان هناك المرابون، وملاكوا الأرض، والصيارفة، من الهاربين من ملاحقة الدائنين بعد الإفلاس، إلى من يحسن استغلال واستثمار جهد وذكاء غيره، فنشبت شبكة من العلاقات الجديدة ولكن حلم الحرية لما يزل يراود المهاجرين الذين قذفت بها السفن على هذا الساحل البعيد، في مدن : أبنوها بأنفسكم، وأرض أنتزعوها من غيركم وشيدوا عليها مستوطناتكم أصنعوا حياتكم هنا، واسلبوها من غيركم ..!.

الأوساط البرجوازية الإنكليزية المنشأ والأصل، كانت تدين بالولاء إلى " الوطن الأم ..  شكلوا فئة أطلق عليهم " الموالون " (Loyalisten)، ثم كانت هناك فئة مستوردوا العبيد، ثم تجار العبيد، ومستثمروا العبيد، وهكذا خلق مجتمع عبودي في قلب مجتمع جديد يولد، يحلم أفراد منه بالحرية، وبحقوق متساوية للبشر، ثم هناك أصحاب البلاد الأصليون الذين شنوا عليهم حملات منظمة منها بل جانبها الأكبر تضليلي، وكأن الأمر كان يتلخص بأستصلاح الأرض، وهكذا كان هناك أستيطان، وعبودية، في قلب مجتمع جديد يبنى بوسائل ديمقراطية ...! أي تناقض وكيل بمكيالين ...!

الهاربين من جحيم الحروب الدينية التي عمت أوربا لعقود عديدة، والاضطهاد الطائفي، فروا إلى الجانب الآخر من العالم، وأشهر هؤلاء هم من متطرفي الطائفة البروتستانتية، وجناحها الكالفيني المتعصب(Calvinsm)، ممن أطلق عليهم فيما بعد "الأنقياء أو المطهرين" أو البيوريتانيون (Puritans)، فأسسوا هناك مذهب مذهب التطرف والغلو، واليوم يشاع في الحياة السياسية الأمريكية، أن السياسات الرسمية تخرج من عباءة البيوريتانيون، ومن أشهر ما صدرته للعالم وإنتاجاتها تجلت في رئاسة دموية لجورج بوش وإدارته الذين كان ولائهم خالصاً للبيوريتان.

ألمان هربوا من ظلم القياصرة وأمراء الأرض "اليونكرز" وسحق الرأسمالية الناشئة، هربوا إلى الأرض الجديدة "أميركا"، يهود فروا من ظلم الأوربيين لهم، الثورة الفرنسية بدورها طفح الغليان والبخار وقذف بضحاياه، ملكيين وثوريين، ومن كل الأصناف، التقت على هذه الأرض ليسود قانون يعرفه الجميع وأقره الجميع، لأنها الحقيقة الوحيدة التي لا غنى عنها : هذه هي المحطة الأخيرة، ولا محطة بعدها، هذا هو قاع القدر، هنا بوسعك أن تكون ما تشاء، ولكن القانون الأساسي هو: نحن هنا لنعيش جميعاً، وليس هناك من خيار ثان. الخيارات والفلسفات لتبق في أوربا، هنا يسود قانون ما نصل إليه .. لنحافظ عليه، وأي أسلوب ينجح على الأرض، هو الأسلوب الصحيح، في البدء قالوا لنعيش مع الهنود، أصحاب الأرض، ثم قالوا ليكون مقام الهنود وراء المسسيبي، ثم لاحقوهم وراء المسسيبي وفي كل مكان، وبدأوا بأصطيادهم.... جلبوا ملايين العبيد من أفريقيا وأستخدموهم باستصلاح الأراضي، كل شيئ صحيح طالما يؤدي الغرض ... تطوير مذهل للميكافيلية، تطور إلى براغماتية (Pragmatism) هي جوهر حياة وفكر الأمريكيين، وستسجل كبراءة اختراع للفكر الأمريكي الجديد في عالم جديد.

هكذا ولدت أميركا ... وستتواصل وإلا فإن كل ولاية تصبح دولة، وأميركا بلد مفتوح على كل الاحتمالات


المترجم / ضرغام الدباغ
برلين / تموز ـ يوليه / 2016
ملاحظة:حاليا الكتاب موجود في المكتبات

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1403 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع