قراءة في نصوص شعرية: رقصات النسيم للشاعرة الهام زكي
عندما تطوف في كتاب عادي، تجول بين جمله وعباراته بشكل عادي، تغلقه تغادره لتبقَ قليل من العبارات عالقة في الذاكرة تتفاعل مع خزينها الموجود من عبارات مثيلة وكلمات مشابهة علقت من كتب أخرى.
وعندما تعجب بكتاب تريد أن تقدمه للقراء بغية الاستفادة منه، يسهل عليك تناول بعض من فصوله أو نصوصه التي تعتقد أنها الأجمل والأكثر فائدة وهكذا.
لكن في الشعر بشكل عام وشعر إلهام زكي على وجه الخصوص، المسألة مختلفة، واختلافها حيرة ماثلة فيما تقرأ من نص في ظاهره معنى جميل وخلف سطوره معنى أجمل، والحيرة أكثر عندما تعجب بكتاب لشاعر وتسعى لتقديمه حيث الصعوبة في أن تفاضل بين قصائده وأبيات شعره لتقدمها معبرة عن صورة لما احتواه الكتاب من قصائد.
وهذا ما حصل معي عندما قرأت كتاب الشاعرة الهام زكي رقصات النسيم. إذ وبعد الغوص عميقاً في القصائد والأبيات عجزت أن أقدم واحدة على أخرى، فكل ما كتب منها يستحق أن يُقرأ مراراً، تعلق لوحات على مرأى، لأن تكرار قراءتها استزادة في المتعة وغنى في الاكتساب.
على هذا سأبتعد عن النص وبيت الشعر الذي لا أفقه شيئا في نقده وتقييمه وأقدم الكتاب (رقصات النسيم) بصيغة قارئ، وحسب فهمي لما قرأت أقول أن الشاعرة إلهام زكي بدأت بتقديم مؤلفها إهداءً لأبنائها الذين لا يقرؤون العربية. لقد استوقفني الاهداء هذا كثيراً، شعرت الألم في داخلها من أبناء لا يقرؤون العربية، طَفَتْ على سطح ذاكرتي مشاعر لوم، تحيرتُ لمن أوجهها:
هل للشاعرة العملاقة أوجهها؟.
عدت قراءة القصائد كلها من جديد وقراءة نص الاهداء كذلك من جديد فتيقنت براءتهامن تهمة اللوم هذه وإن طَرحِها المشكلة بصيغة شكوى لا يستحق اللوم.
هي مثلي ومثلك وغيرنا وجدت نَفسَها في مستنقع ظروف خاصة لا يقدر الواحد منا وسطه دفع ابن أو نصف ابن لتعلم حرف باللغة العربية، وتطوقه نصوص لغة جديدة لوطن جديد أجبر أن يعيش فيه هارباً من بلاده العربية، تعلم لغته وطناً آمناً، تكلم بها، قرأ، حلم، غضب، أحب، تجادل، تمنى بها وهكذا أبتعد عن لغة وطن لم يتأمل بها ولم يتمنَ ولم يبق له وطناً في الأصل.
لم أشأ أن أسقط تهمة اللوم التي أثارتها الشاعرة في اهدائها هذا الكتاب بقصائده المفعمة بالعاطفة، ونصوص أشعار لا تخلو من مسحة لوم دفعتني أن أتفق معها في لوم الزمن الذي قسى على الشاعرة وعلينا نحن الذين عشنا الغربة عقوداً منه هرباً من عربيتنا أو من عروبتنا أو من ظروف حكمت علينا بالغربة مكاناً ومشاعراً ولغةً.
لكن الزمن، هذا الزمن بظروفه الصعبة التي أقعدت في الغربة كباراً، شلت حركتهم اكتئاباً وعزلة ودوام شكوى، لم تتمكن بقسوتها المفرطة من شاعرتنا الأصيلة الهام زكي.
لم تقيد حركتها بين جدران الهم.
لم تجلسها حبيسة ذات تئن ألماً.
فهي بشخصيتها القوية وذكائها النافذ غيرت من وقع الظروف وأنبتت على ضفاف مستنقع الغربة أشجار ورد جوري وبصيلات زنبق أبيض لتعيش وسطها شاعرة حساسة، وطوعت الزمن المر الى صالحها عندما أوجدت قدراً من الأمل يغذي شخصها شاعرة عملاقة، وليس كما يفعل البعض بقاءً وسط مستنقعات الغربة نصف أحياء، فكان ما قرأت من شعرها ابداعاً ومن نتاجها الأدبي إضافة الى العربية التي لم تفارقها يوماً.
كثير من الشعراء كتبوا عن الحنين الى الوطن لكني لم أجد أجمل من قصائد إلهام المعبرة عن حنين جارف الى وطن غاب فجأة، ليس بقصيدة واحدة تتراءى لك أبياتها معبرة عن شوق الى بيت قديم أو حارة سكن أو شارع ارتبط مكانه والزمان بعواطف الشباب، بل وكل قصائد الشاعرة كانت فيها نسمات حنين يمكن أن يستشعرهاالقارئ مثل نسمة هواء بارد في صيف العراق القائظ.
فتغريدة الطير عندها في رقصات النسيم أحسستهُ أنا ذاك البلبل الذي كنت أنتظره صباحاً على شجرة بيتنا القديم، وذكراه حنين الى الوطن ما بعده حنين.
وسحر الليل في قصيدة حين تغازلني، ليس هذا الليل الذي أعيشه معفراً بعواصف الثلج التي لا تهدأ، انه ليل بغداد وسطح بيوت الكرخ القديمة، رائحة تراب أسطحها تفوح عطراً زكياً، ونجوم كنت أعدها من على سرير حديدي، متعة النوم عليه لم تدانيها متعة نوم ولا على أسرة نجوم هوليود.
أما سؤال شاعرتنا عن الهوى في قصيدتها وتسألني وعلى الرغم من رجوعي الى أبياتها أكثر من مرة، فقد ابتعدت في نشوتي بقراءتها من عشق الشباب وكثر الانتظار على ناصية الشارع لطرح السؤال، وعدت في طوري الى الوطن كي أسأل مثل حبيبة تسأل حبيبها كم تحبني؟، وبعد كل اجابة تعيد السؤال ذاته، فهي لا تمل، وأنا في قراءتي لحنين الوطن في شعر الهام لم أمل.
ان البحر والرمال وجدائل الموج السابحة والريح والسماء والحب وعطر الياسمين في قصيدتها أنا وأنت والبحر، ومثلها الشك والكآبة والعبوس ومغادرة النوم وتخاريف الظنون وصاحب القلب الحنون في لا تبكي العيون، وجدتها في امكانها بين أبيات القصائد تعبير مجازي عن الوطن الغائب ومشاعر الحنين اليه.
هذا وبالإضافة الى الحنين البين في القصائد جلها تبين لي أن كل قصيدة تعبر عن شيء ما، والشيء عند شاعرتنا الفاضلة ليس موضوعاً محدداً، وأرى أنها تقصدت اختياره في أن لا يكون محدداً، إذ تركت المجال واسعاً للقارئ لأن يحدد من جانبه ذاك الشيء الذي يراه أو بالمعنى النفسي الذي يريد أن تراه، وبالنسبة لي قارئ شعر بسيط وجدت الليل في شعر السيدة الهام ليكون هو الشيء وهو الذي رأيته ماثلاً في عقلي ذاك السكون في أيام بغداد القديمة قبل عصر الفوضى وصخب المكان.
أما الخمر في قصائد الشاعرة إلهام زكي فيذكرني بخمريات الشاعر العراقي الكبيرمحمد سعيد الحبوبي الذي قال:
صب لي كأساً وخذ كأساً اليك **** فلذيذ العيش أن نشتركا
وقال:
خلتها في ثغره قد عتّقتْ*** واعتصرت، زمناً من وجنتيه
قال هذا وغيره في الخمر وهو المتدين الذي لم يشم رائحة الخمر يوماً، وهكذا هي شاعرتنا المبدعة في تناولها الخمر بأبيات أقل ما يقال عنها فن جميل مبني على الدقة التصويرية والتناغم الموسيقي، وخير شاهد على قولي هذا بعض أبيات في قصيدتهاأهوى الحياة التي قالت فيها:
فتعال اليوم قربي
نحتسي خمر الوجود
في كؤوس من عهود
زهرةُ الحب تغني
فأملأ الكأس وخذني
حيث غابات العيون
فيها سحر وفنون
ان القارئ للقصائد التي وردت في كتاب شاعرتنا لا يغرف منها شكل الصور المعبرة عن المعاني والأشياء فقط، ولا أنغام الموسيقى التعبيرية فحسب، بل سيجد في جل أبياتها معانى الالفة والتواد والحب والطيب ومناجاة الخالق وغيرها الكثير لا أريد الخوض في تفاصيلها حتى لا أفسد على القارئ متعة الخوض في اكتشافها بنفسه.
شكراً لشاعرتنا الكبيرة إلهام زكي على كتاب أمتعتني قراءته، ومبروك لها هذا الجهد الأدبي الراقي، ونصيحتي للقراء أن يخوضوا تجربة قراءته كتاب يستحق القراءة بحق.
فؤاد حسين علي
أوربرو- السويد
١٣/١/٢٠١٧
307 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع