لماذا لا يريد الإطار التنسيقي ولاية ثانية للسوداني؟

 البيت الشيعي يحسم… والسنّة والأكراد منقسمون

العرب/بغداد- بعد الانتخابات البرلمانية العراقية في 11 نوفمبر، دخلت البلاد مرحلة جديدة من المنافسة السياسية المكثفة، حيث تصاعدت المناورات بين الأحزاب حول من سيشغل منصب رئيس الوزراء المقبل، في حين بدا المواطنون العراقيون أكثر غربة عن العملية السياسية، متشككين في مدى استجابات النظام لاحتياجاتهم اليومية.

ولم تكن هذه الانتخابات مجرد توزيع للمقاعد في البرلمان، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام العراقي على التعامل مع التوازنات الطائفية والمصالح المتداخلة بين مكوناته، وعلى إدراك الفرق بين الأداء الانتخابي والشعبية وبين التحالفات التي تحدد تشكيل الحكومة الفعلية.

وفي قلب هذا المشهد برز السؤال الجوهري: لماذا رفض الإطار التنسيقي الشيعي منح رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني ولاية ثانية، رغم شعبيته العالية وفوزه بحجم أصوات ومقاعد كبير؟ .

وعلى الرغم من أن السوداني قاد حكومة حققت استقرارًا نسبيًا على صعيد الأمن والخدمات، وظهر بمظهر الزعيم القادر على إدارة الدولة، إلا أن المنطق السياسي داخل الإطار التنسيقي يضع مصلحة التوازنات الداخلية فوق أي اعتبارات شخصية أو شعبية. فالسوداني، من منظور الإطار، قد يتحوّل في حال منحه ولاية ثانية إلى مركز قوة مستقل، قادر على إعادة إنتاج نفسه خارج منظومة التوافق، وهو ما يُعد تهديدًا لطبيعة الحكم التوافقي داخل البيت الشيعي.

وتاريخيًا، أثارت ولاية نوري المالكي الثانية مخاوف مماثلة، حيث حوّلت السلطة التنفيذية إلى أداة احتكار، مما أضعف الشركاء السياسيين وغيّر ديناميكيات الحكم.

ولهذا السبب، حرص الإطار على تأكيد أن رئيس الوزراء القادم سيكون بمثابة «المدير العام»، ينفذ السياسات ولا يصنعها، وأنه لن يُسمح له بتأسيس حزب سياسي خاص.

وتعكس هذه الإجراءات آلية حماية لنظام سياسي يستند إلى توزيع النفوذ داخل المكونات الشيعية بدلًا من تركيزه في يد شخصية واحدة.

وترى الباحث فيكتوريا ج. تايلور في تقرير نشره المعهد الأطلسي إن رفض ولاية ثانية للسوداني هو إذن تعبير عن سياسة دفاعية، هدفها ضمان استقرار الإطار وتحقيق السيطرة على مسار صنع القرار، وليس مجرد تقييم لنجاح أو فشل رئيس الحكومة.

وأما على مستوى السنّة والأكراد، فقد بدا المشهد أكثر تشتتًا. فالسنّة، الذين يعانون تاريخيًا من ضعف التنظيم بعد عام 2003، لم يتمكنوا من إنتاج قيادة جامعة أو مشروع سياسي موحد بعد الانتخابات.

ورغم اتفاقهم المبدئي مع الشيعة على مبدأ عدم التجديد لرئيس الوزراء، فإن خلافاتهم الداخلية حول شخصية رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، أثرت سلبًا على قدرتهم على توجيه أي قوة تفاوضية.

وبدت محاولة تشكيل تحالف سنّي تحت عنوان «المجلس السياسي الوطني» حتى الآن غير مجربة، ومحدودة التأثير، ما يضع السنّة في موقع ثانوي داخل عملية تشكيل الحكومة.

وأما الأكراد، فقد ظلّت خلافاتهم الداخلية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني قائمة، خصوصًا حول الوزارات السيادية ورئاسة الجمهورية، وهو ما انعكس مباشرة على موقفهم في بغدادرفض ولاية ثانية للسوداني هو تعبير عن سياسة دفاعية، هدفها ضمان استقرار الإطار وتحقيق السيطرة على مسار صنع القرار، وليس مجرد تقييم لنجاح أو فشل رئيس الحكومة.

وجعلهم غير قادرين على فرض حضور موحد.

ومنح هذا الانقسام الإطار الشيعي، الأكثر تنظيمًا واستقرارًا، قدرة كبيرة على التحكم في إيقاع تشكيل الحكومة، ما يؤكد أن القرار الفعلي في بغداد لا يُقاس فقط بحجم المقاعد التي يحصل عليها كل طرف، بل بمدى انسجامه التنظيمي والسياسي.

وفي هذا السياق، تكشف مرحلة ما بعد الانتخابات أن الديمقراطية العراقية ما زالت محكومة بمنطق التوازنات الداخلية للطوائف والمكونات أكثر من البرامج الوطنية العابرة للطوائف.

وأعاد البيت الشيعي، من خلال رفضه ولاية ثانية للسوداني، تأكيد سيطرته على العملية السياسية وحماية مصالحه، بينما يبقى السنّة والأكراد في موقع ثانوي، متأثرين بانقساماتهم الداخلية، ما يجعلهم شركاء ثانويين في عملية يُفترض أنها تعبير عن إرادة الشعب.

ويعكس هذا الواقع التحدي المستمر في العراق بين الاستقرار السياسي للحكومات وبين توفير آليات حقيقية للمساءلة والشفافية.

وعلى صعيد آخر، لا يمكن تجاهل الدور القوي للميليشيات داخل البرلمان الجديد. فقد حققت الأحزاب المرتبطة بالقوى المسلحة مكاسب كبيرة، ما يجعل رئيس الوزراء المقبل أمام تحدٍ مزدوج: الحاجة إلى تحقيق الاستقرار

وضبط السلاح، وفي الوقت نفسه مواجهة تأثير هذه الميليشيات سياسيًا واقتصاديًا، وهي عناصر لا يمكن إهمالها في أي برنامج إصلاحي.

ولا يزال تأثير الولايات المتحدة حاضرًا في المشهد العراقي، إذ يشدد معظم القادة السياسيين، من الشيعة والأكراد والسنّة، على أهمية الحفاظ على العلاقة مع واشنطن ومواصلة الشراكة معها، خصوصًا في ظل استمرار النفوذ الإيراني في البلاد.

ويبدو أن السياسيين العراقيين يديرون المناورات خلف الكواليس بمبادرة محلية، مدفوعين أكثر بالاعتبارات الداخلية منها بالضغط الخارجي، مع سعي متوازن للحفاظ على شراكة قوية مع الولايات المتحدة مع الاستفادة من العلاقات التاريخية مع إيران.

وأما من جانب الشارع، فالوضع أكثر تعقيدًا. فالعراقيون أعربوا عن شعورهم بخيبة الأمل من العملية السياسية. كثير منهم اعتبروا أن الانتخابات لا تمنحهم أداة فعالة لمحاسبة الحكومة، وأنها صُممت لتظل نخبة معينة تتحكم في القرار بعيدًا عن تأثير المواطنين.

وقد أشار الشباب إلى تجربة احتجاجات تشرين 2019، التي قوبلت بالقمع، وإلى فشل المرشحين المستقلين في تحقيق أي تغيير بعد دخولهم البرلمان في 2021، حيث تم استيعاب بعضهم داخل النظام السياسي وانضموا إلى الأحزاب التقليدية التي كانوا يعارضونها.

وفي انتخابات هذا العام، تم إقصاء معظم المرشحين المستقلين ومرشحي المجتمع المدني، ما عزز الإحساس بعدم فاعلية العملية الانتخابية.

ومع ذلك، يمكن رؤية بوادر إيجابية في المشهد الحضري والاجتماعي. ففي بغداد، تظهر مشاريع البناء والنهوض العمراني في مختلف أنحاء المدينة، لتذكّر بالمكانة الاقتصادية والثقافية للعاصمة، وقدرتها على التعافي بعد سنوات من النزاع.

وبينما يبدو الشباب متشوقًا للتغيير، سيواجه رئيس الوزراء المقبل تحديًا مركبًا: إدارة الميليشيات، معالجة الإصلاحات الاقتصادية، التعامل مع أزمة المياه المستمرة، وفي الوقت نفسه، تقليص الفجوة بين النخبة السياسية والمواطنين.

ولن يقاس نجاح الحكومة الجديدة فقط بالقدرة على الحفاظ على استقرار الطوائف والمكونات، بل أيضًا بالقدرة على الاستجابة لتطلعات الناس وتحقيق قدر من الشفافية والمساءلة.

إن ما يميز مرحلة ما بعد الانتخابات هو إدراك الجميع بأن الحكم في العراق لا يمكن أن يظل مجرد توزيع للمناصب والمقاعد، بل يجب أن يدمج بين الاستقرار السياسي ومشاركة الشعب في اتخاذ القرار. فالبيت الشيعي، بحسمه رفض ولاية ثانية للسوداني، أظهر قدرة التنظيم الداخلي على فرض إرادته، في حين يبقى السنّة والأكراد في موقع أقل تأثيرًا بسبب تشتتهم.

وفي الوقت نفسه، فإن مطالب الشباب والشارع، إلى جانب التحديات الاقتصادية والأمنية، تفرض على الحكومة المقبلة العمل على استعادة الثقة الشعبية وتعزيز الشرعية السياسية من خلال خطوات ملموسة.

وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال المركزي: هل سيستطيع النظام السياسي العراقي تجاوز منطق توزيع النفوذ بين النخبة إلى إنتاج حكم مؤسسي فعال يخضع للمساءلة، أم سيستمر منطق «المدير العام» الذي يضمن استقرار النخبة على حساب مصالح الدولة والمواطنين؟ يبقى الشارع العراقي، بمطالبه ورؤيته، مؤشراً حيويًا على نجاح أو فشل المرحلة المقبلة، التي قد تحدد مستقبل العملية الديمقراطية في البلاد لعقود قادمة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1756 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع