الماضي يلتقي بالحاضر: تشكل صخور يانارتاش المحترقة جزءًا من منتزه أوليمبوس بيداغلاري الوطني، حيث تلتقي الأساطير القديمة بالحياة الحديثة.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- إنّ الأساطير اليونانية غنية عادة بالخيول البيضاء المجنّحة، والوحوش العملاقة ذات الرؤوس الضخمة، وأحصنة طروادة، والآلهة المنتقمة.
لكن الكاتب القديم باليفاتوس حاول في ما بعد دحض بعض هذه الأساطير الغريبة، لكن عندما وصل إلى الأساطير المتصلة بما يُعرف الآن باسم "أوليمبوس" في تركيا الحديثة، لم يكن أمامه خيار سوى استنتاج أنها صحيحة جزئيًا.. على الأقل.
كتب في كتابه "حول الأمور المذهلة": "هناك فتحة كبيرة في الأرض، تخرج منها النار. اسم هذا الجبل هو كيميرا".
لقد كان محقًا. هذا المكان حقيقي. يقع في جنوب غرب تركيا، فوق الساحل الجميل بالقرب من مدينة أنطاليا، وهناك بالفعل ثقوب في الأرض حيث تحترق النيران.. تحترق إلى الأبد، تمامًا كما كانت في زمن باليفاتوس.
تعتبر صخور يانارتاش المحترقة، الاسم الحديث لما يُعتقد أنه جبل كيميرا، جزءًا من منتزه أوليمبوس بيداغلاري الوطني، وهي منطقة ذات جمال متوسطي سامي حيث تبدو أساطير العصور الغابرة أقرب إلى الواقع.
هنا، ازدهرت المنطقة البحرية القديمة في ليقيا، وهنا اندثرت، وبقيت أنقاض مدنها المزدهرة في مهب الرياح منتشرة حول الساحل، وتختبئ جدران المعابد المهجورة منذ فترة طويلة بين الأشجار، وتحرسها الجبال العالية.
تمتلئ الحديقة بالقمم الصخرية، والخلجان الفيروزية الخلابة، والشواطئ الصخرية مترامية الأطراف. لكن أكثر مناظرها تميزًا بلا شك هي يانارتاش. إذ نادرًا ما تصادف ثقوبًا في الأرض حيث لا تنطفئ النيران أبدًا.
في حين أن مشهد الحرائق الدائمة أمر غير مألوف، لكن هناك تفسير علمي لهذا الحدث الغريب.
تنتج النيران عن خروج غاز الميثان من الأرض وعند وصوله إلى الغلاف الجوي يتسبب له تأثير انفجاري.
يُعتقد أن منطقة يانارتاش إحدى أكثر البيئات القابلة للاشتعال جراء انبعاثات الميثان الطبيعية إلى الأرض. الصخور النارية تحت الفتحات مليئة بالروثينيوم وتعمل المادة كمحفز قوي لتكوين الميثان.
يقول إبراهيم جينك، مرشد سياحي محترف منذ 25 عامًا ويرافق مجموعات بانتظام لرؤية الموقع المذهل: "اكتشفت هذا المكان لأول مرة في عام 1997، وأذهلني. كتركي، تبادر إلي ذهني فورًا أننا نستطيع شواء كباب لذيذ هنا".
من المؤكد أن يانارتاش لديها عامل إبهار. يقترب الزوار على طول مسار مغطى بالحجارة أسفل جبل تاهتالي داغي، قبل الخروج إلى موقع مساحته فدان واحد، حيث تستقبلهم نفحات نارية متناثرة حول السطح الصخري، ملفوفة برائحة خفيفة من الغاز وأنين حشرات السيكادا الإيقاعي.
إنه مشهد سريالي، لكن مهدئ أيضًا، وذلك بفضل أشجار الصنوبر المحيطة، واللون الأزرق اللامع للبحر الأبيض المتوسط البعيد. وأطلال معبد هيفايستوس.. من الصعب التفكير في موقع أفضل لعبادة إله النار اليوناني.
الصخور المحترقة هي جزء من منطقة ثقافية محمية بمدخل على الحدود الشمالية لقرية تشيرالي الساحلية. الوصول إلى يانارتاش عبارة عن مسار مشي سهل إلى حد ما لمدة 30 دقيقة صعودًا عبر مناظر طبيعية جميلة.
يوصي جينك بأن "أفضل وقت للحضور هو من منتصف سبتمبر/ أيلول حتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني، أو من منتصف مارس/ آذار حتى نهاية مايو/ أيار"، مضيفًا أن الأمسيات تجعل الزيارة أكثر سحرًا. تحترق النيران بشكل أكثر وضوحًا، ويعانق الشفق المناظر الطبيعية الملهمة لحديقة أوليمبوس.
من الأفضل تجنب منتصف النهار خلال أشهر الصيف الحارة عندما تكون حرارة جنوب تركيا وأشعة الشمس المباشرة مضنية. ومن غير المستحسن محاولة شواء أي كباب، فالصخور تحت حماية الدولة وقد يترتب عن ذلك عواقب قانونية.
من السهل أن نرى كيف أصبح هذا المكان مصدرًا للأساطير. تخيل أنك من سكان ليقيا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وترى النار منبثقة من تحت الجبال أثناء التنزه بسلام في الغابة.
تحكي الأساطير اليونانية قصة كيميرا، الوحش ذات الرؤوس الثلاثة الذي ينفث النار والذي أرعب ليقيا. كتب الشاعر اليوناني القديم هسيود: "كانت في مقدمتها أسدًا، وفي مؤخرتها تنينًا، وفي وسطها عنزة تنفث انفجارًا مخيفًا من النار المشتعلة".
إذا كان هناك وحش في الأساطير اليونانية، يقتله البطل عادة. وكان هذا مصير كيميرا.
كتب الشاعر اليوناني القديم هوميروس في ملحمته "الإلياذة" أن الملك الليقي إيوباتيس كلف بيليروفون (المعروف بركوب الحصان المجنح بيغاسوس) بقتل كيميرا.
كتب هوميروس: "قتلها بيليروفون، واثقًا بعلامات الآلهة". لم يكن للوحش أي فرصة.
في حين أنه من الممتع أن نتخيل معركة مدوية بين بطل يمتطي حصانًا طائرًا والوحش ذات الرؤوس الثلاثة وسط مناظر طبيعية في منتزه أوليمبوس الوطني، فيرجح أن كيميرا لم يكن مخلوقًا بل الجبل الذي ربما عاش فيه الأسود وتجول فيه الماعز. وفي الوقت ذاته تم توفير نار الوحش من قبل يانارتاش.
كتب عالم العصور الوسطى في القرن الأول إيزيدور من إشبيلية في كتابه "علم أصول الكلمات" أن "بيلروفون جعل (الجبل) صالحًا للسكن، ومن ثم قيل إنه "قتل كيميرا".
تعد حديقة أوليمبوس بايداغلاري الوطنية بمثابة متعة لعشاق الطبيعة وعشاق التاريخ على حد سواء.
كما أنها موطن للآثار الرائعة لمدينة أوليمبوس القديمة. تقع المدينة في وادي نهر مهيب بين البحر والجبال، وهي نافذة على الحياة القديمة في ليقيا. يعود تاريخ الموقع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، ويضم مسرحًا، وكنيسة، وحمامًا، وسلسلة من المقابر.
تعتبر أوليمبوس قوة ليقيا البحرية، وتنتهي بشاطئ صخري طويل وواسع. ورغم قربها من تشيرالي، إلا أن الامتداد يبدو معزولًا وحميميًا للغاية، وهو ما يميز المغناطيسية البرية لمعظم الساحل الفيروزي في تركيا. وتجعل بقايا الجدران التي تعود إلى العصور الوسطى لقلعة جينوفيز، المنحوتة في المنحدرات الصخرية، المشهد أكثر رومانسية.
بواسطة تلفريك أوليمبوس الذي يرتفع 7759 قدمًا (2365 مترًا) حتى قمة جبل تاهتالي يمكن للزوار أخذ صورة بانورامية رائعة، وللمغامرين تجربة الطيران الشراعي.
939 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع