«سيّد اللعبة» يكشف أصعب اللحظات في دبلوماسية كيسنجر

            

مارتن إنديك يرصد في كتابه كيف تعامل وزير الخارجية الأميركي السابق مع الصراع في الشرق الأوسط

الشرق الأوسط/واشنطن: معاذ العمري:حينما ترد كلمة «عرّاب السياسة» العالمي في العصر الحديث، تتبادر إلى أذهان الكثيرين أسماء متعددة من الشرق إلى الغرب، إلا أن الغالبية تكاد تجمع على أنه هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق. ربما تعد هذه النظرة من صيغ المبالغة، فلا يجمع الكل على حبه، ولا على كرهه أيضاً، إلا أن الجميع يحفظ له حقوق «ملكية الفكرية الدبلوماسية»، في التعامل مع أحلك وأصعب الأحداث السياسية في العالم العربي، وكذلك التعامل مع أصعب «المنعطفات» في العالم الغربي.

ويحق للقارئ التساؤل، لماذا هذه «الهالة» التي تحيط بالوزير كيسنجر ولا يزال يتردد صداها إلى يومنا هذا؟ ولماذا لم تنتهِ في حقبة السبعينات من القرن الماضي؟ للإجابة عن هذه «التساؤلات المشروعة»، كتب مارتن إنديك السفير الأميركي السابق في إسرائيل، ومساعد وزير الخارجية للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى، ومبعوث الرئيس باراك أوباما للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، كتاباً بعنوان: «سيد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»، يسرد في كتابه قصصاً عن مشاركة الدكتور هنري كيسنجر في دبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، بصفته مستشاراً للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون، ووزيراً للخارجية أيضاً، والذي ظل في منصبه كذلك في عهد الرئيس جيرالد فورد كوزير خارجيته.

كان لأستاذ العلوم السياسية الألماني المولد، واليهودي بجامعة هارفارد كيسنجر تأثير كبير على علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب، وهدف المؤلف إنديك سرد الكثير من القصص حول تعامل كيسنجر مع العرب والإسرائيليين، إذ يصور إنديك كيف تعامل كيسنجر مع العديد من الشخصيات بوضع الأساس لمحادثات السلام في الشرق الأوسط، متتبعاً فترة ولاية هنري كيسنجر من يناير (كانون الثاني) 1969 حتى ترك البيت الأبيض بعد ثماني سنوات حتى 1977. ويقر المؤلف باهتمامه بعملية السلام في الشرق الأوسط باعتباره يهودياً وُلد في أستراليا، وعاش أيضاً في إسرائيل خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973.

ولم يخفِ إنديك الذي يتشارك مع كيسنجر الديانة اليهودية، والاهتمام بالمنطقة العربية، ميوله وإعجابه بالوزير الأسبق، بل كشف أن زوجته كانت تعمل سكرتيرة شخصية لكيسنجر، وتتعامل مع الكثير من الأمور الشخصية والعملية، وكذلك الإدارية أيضاً.

استخدم الكاتب أسلوباً في كتابة الكتاب يتحدث فيه عن مهمة دبلوماسية لكيسنجر في الشرق الأوسط، تليها حلقة أخيرة في المفاوضات المعاصرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ثم يقارن بين هذين الحدثين في تاريخ العلاقات الخارجية للولايات المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، مقسماً الكتاب إلى خمسة أقسام ولكل قسم عدة فصول يبلغ مجموعها 17 فصلاً، و672 صفحة، نشر برعاية مجلس العلاقات الخارجية ومقره نيويورك، ودار النشر «ألفريد أ. كنوبف»، في خريف عام 2021.

- كيسنجر استطاع إدارة الصراع في الشرق الأوسط كما تعامل مع معاداة نيكسون للسامية

بدأ الكتاب بأداء كيسنجر اليمين الدستورية كوزير خارجية للولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) 1973. وكيف أجرى مكالمات هاتفية عاجلة ومبكرة يوم السبت 6 أكتوبر 1973، إلى السفير السوفياتي في واشنطن أناتولي دوبرينين، ووزيري خارجية مصر وإسرائيل الذين أكدوا جميعاً أن المصريين والسوريين يهاجمون إسرائيل، وأن هناك حملة عسكرية لعبور قناة السويس، إذ أرسل على الفور رسالة إلى الرئيس نيكسون يخبره فيها أن أميركا ستشهد اليوم حرباً في الشرق الأوسط.

وسلط الكاتب الضوء على بعض الصعوبات التي واجهها كيسنجر في التعامل مع الرئيس نيكسون، كاشفاً أن حقيقة كون كيسنجر يهودياً أعاقت رغبته رئيس للولايات المتحدة في تحسين علاقات أميركا مع الدول العربية، إذ يشير إنديك أيضاً إلى معاداة نيكسون للسامية وكيف أنه غالباً ما كان يضايق كيسنجر بشأن يهوديته في محادثاتهما الخاصة، ومع ذلك، فقد شارك الاثنان في رغبة قوية في الحفاظ على مواجهة الاتحاد السوفياتي، باعتباره توجهاً أساسياً في العلاقات الخارجية لأميركا، وفي الوقت نفسه لاستبعاد السوفيات من الشرق الأوسط قبل وبعد حرب أكتوبر رمضان عام 1973.

- العلاقة بين كيسنجر ومائير لم تكن سهلة لكنه انتزع منها تعهداً حول البرنامج النووي الإسرائيلي

يروي المؤلف كيف أن العلاقة بين هنري كيسنجر ورئيس الوزراء الإسرائيلي غولدا مائير لم تكن سهلة أيضاً، أولاً، في ربيع عام 1969 انتزع كيسنجر من مائير تعهداً بعدم الكشف علناً عن مدى تقدم البرنامج النووي الإسرائيلي، ورفض خيار حكومة الولايات المتحدة بعدم إرسال «طائرات فانتوم» العسكرية لإسرائيل، مقابل الاحتفاظ بمعلومات سرية حول أنشطتها النووية. وذلك لأن نيكسون وكيسنجر خشيا من أن السوفيات سيساعدون العرب في الحصول على قدرات نووية، وذلك لو أصدرت إسرائيل مثل هذا الإعلان. ثانياً، كرهت غولدا مائير توصيف كيسنجر لضحايا حرب إسرائيل في عام 1973، على أنه شيء مشابه لخسارة الأميركيين في الأرواح في حرب فيتنام، إذ شعرت أن ذلك كان محبطاً لإسرائيل. وأخيراً، كانت رئيس الوزراء الإسرائيلية قلقة للغاية من رغبة كيسنجر في إطالة أمد الحرب في أكتوبر 1973، لأن هذا قد يعني دخول السوفيات إلى الحرب جنباً إلى جنب مع السوريين والمصريين.

وربما يلاحظ القارئ للكتاب، كيف أن مارتن إنديك أسهب في تقدير كيسنجر لدور مصر في الحرب والسلام في الشرق الأوسط، ففي فبراير (شباط) 1973، التقى كيسنجر مع مستشار الأمن القومي المصري حافظ إسماعيل في نيويورك، وساهم الاجتماع في فهم كيسنجر لرغبة مصر القوية في استعادة سيادتها على شبه جزيرة سيناء، إلى جانب ذلك كانت أفكار كيسنجر حول كيفية منح إسرائيل عدة إجراءات أمنية لضمان أمنها في سيناء محل فهم وإدراك للمصريين أيضاً.

يحدد المؤلف نقطة الانطلاق لسلام كيسنجر في الشرق الأوسط عندما ذهب للتفاوض على وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل في أواخر أكتوبر وأوائل نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، حيث اضطر كيسنجر لزيارة موسكو والتحدث في الكرملين مع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، ليونيد بريجنيف، وكانت الأولوية القصوى والملحة لكيسنجر هي التعاون مع السوفيات لفرض عدم استمرار النزاع المسلح، أو الاتفاق على هدنة بين المصريين والسوريين والإسرائيليين، وكيف أن ذلك ساهم في مقاربة وزير الخارجية الأميركية بإقامة علاقة ودية مع الرئيس المصري محمد أنور السادات لاحقاً.

ويجادل الكاتب، بأن المقاربة بين كيسنجر والسادات أدت إلى قيام كيسنجر بالتفاوض على اتفاق فك الارتباط بين القاهرة وتل أبيب في يناير 1974. وسبتمبر 1975 على التوالي، ومع ذلك، فإن العلاقة بين كيسنجر والرئيس السوري حافظ الأسد لم تكن وثيقة وناجحة كما هي الحال مع السادات، وكانت جهود كيسنجر متواضعة فيما يتعلق بالمسألة السورية كما يتضح من توقيع اتفاقية فك الارتباط السورية - الإسرائيلية في مايو (أيار) 1974.

- «أوبك» تفشل مساعي كيسنجر

ومع ذلك، فإن أصعب جوانب دبلوماسية كيسنجر للسلام في الشرق الأوسط كانت محاولاته لإنهاء منظمة «أوبك» لسياسة تسعير النفط المرتفعة أثناء وبعد اندلاع حرب أكتوبر، والمراسلات بين الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية ووزير النفط السابق الدكتور أحمد زكي اليماني. ويشرح المؤلف كيف كان كيسنجر يتصارع مع الفلسطينيين، حيث رفض كيسنجر الدفاع عن حقوق الفلسطينيين بشكل مباشر. وبدلاً من ذلك، فوّض هذه المهمة إلى هارولد سوندرز، مساعده لشؤون الشرق الأوسط، لمعالجة مواضيع الاستحقاقات الأساسية للفلسطينيين في عملية السلام، كما أشار إنديك إلى كيفية تعامل كيسنجر مع الملك حسين ملك الأردن، ووصف كيسنجر بأنه متردد في تأييد دور أكثر حزماً للأردن في الضفة الغربية.

لكن كيسنجر كان أيضاً داعماً للملك حسين، ولم يكن يريد للولايات المتحدة أن تتدخل عسكرياً في الأردن في سبتمبر (أيلول) 1970 أثناء مواجهة العاهل الأردني مع الفدائيين الفلسطينيين، وفي الواقع، لم يمانع كيسنجر من أن تقف إسرائيل إلى جانب الملك حسين لدحر التمرد ضده، والجزء الأكثر روعة في الكتاب هو شهادة الجالية اليهودية الأميركية على مشاركة كيسنجر في ترتيب مفاوضات، بشكل مباشر أو غير مباشر، بين الدول العربية وإسرائيل.

كان هناك خوف واضح ومتزايد بين العديد من اليهود الأميركيين من أن كيسنجر كان يقدم الكثير من التنازلات للعرب، وكان رئيسه الجديد الرئيس جيرالد فورد، مستاءً للغاية من مثل هذا الضغط اليهودي المتصاعد حول كيفية صياغة إدارته لدبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، التي كان العقل المدبر لها هنري كيسنجر، ويشير مارتن إنديك إلى أن اللوبي اليهودي في أميركا نجح في تجنب صراع مفتوح مع إدارة الرئيس جيرالد فورد، من خلال الحفاظ على القنوات القوية التي كانت لديه مع العديد من المكاتب في حكومة الولايات المتحدة، ومن خلال الثقة في أن فورد وكيسنجر يحافظان على الاتصالات مع إسرائيل والدول العربية، وأنها لن تكون متحيزة ضد إسرائيل أو اليهود.

- ملك المغرب أوصى السادات بالتعامل مع كيسنجر وأنه «يمكن الوثوق به»

وبشكل عام، يُظهر إنديك أن كيسنجر كان ناجحاً في كسب ثقة العرب، وهو ما يفتقره العديد من وزراء الخارجية الذين جاءوا من بعده وتعاملهم مع هيكلة عملية السلام في الشرق الأوسط، والتي يعززها دور ناشط للولايات المتحدة، وحاز هذا الانفتاح الشامل على ثقة الملك الحسن الثاني ملك المغرب، كما كتب المؤلف، قائلاً: «كان الحسن الثاني قادماً. لقد قبل حجة كيسنجر بأنه ليس من المنطقي إضاعة رأس المال الدبلوماسي الثمين في تحديد خط 22 أكتوبر وأنه من الحكمة الانتقال مباشرة إلى فك الاشتباك الأوسع للقوات».

كما بعث الملك المغربي برسالة إلى الرئيس أنور السادات مفادها: «انطباعنا الرئيسي، هو إذا التزم كيسنجر بالتزام فسوف يحترمه... يمكنك أن تضع ثقتك فيه»، ويجسد الكتاب كيف جسّد كيسنجر البحث الأميركي عن السلام بين مصر وإسرائيل، وإصراره على دعوة السوفيات إلى مؤتمر السلام في جنيف، وهذا من شأنه أن يثبت التزامهم بالسلام في الشرق الأوسط من حيث المبدأ. وبعد ذلك، سيعزز وزير الخارجية الأميركية دوره في لعب دور الوسيط بين مصر وإسرائيل، وجاء في الكتاب، «سعى كيسنجر بشكل غير مباشر إلى تقديم فكرة أنه سيكون الشخص الذي يدير هذه المفاوضات مع السادات ومجلس الوزراء الإسرائيلي».

- فشل كيسنجر بنقل نظام الأسد إلى المعسكر الأميركي

كان هذا انتصاراً دبلوماسياً آخر لكيسنجر، لأن مصر وإسرائيل وافقتا على دبلوماسية الوساطة الخاصة به، وتعاونتا معه للعمل أكثر نحو السلام بين الاثنين. وحاول كيسنجر أيضاً تحييد سوريا، كما كتب مارتن إنديك، قائلاً: «بدأ كيسنجر المفاوضات مع الأسد على أمل أن تنتهي في لحظة شبيهة بلحظة السادات عندما ينقلب ضد الاتحاد السوفياتي وينتقل بالكامل إلى المعسكر الأميركي. لكنه لم يعمل حقاً لتحقيق هذه النتيجة، أو يعتقد أنها ضرورية. كان كافياً لنظامه الجديد في الشرق الأوسط أن يحسب الأسد من الآن فصاعداً أنه من مصلحة سوريا تجنب الصراع مع إسرائيل».

ومع ذلك، يلخص الكتاب حدود ما يمكن أن يحققه كيسنجر، ونقلاً عن المؤلف، «كان كيسنجر ملتزماً جداً باستراتيجية التدرج هذه، ومع ذلك، فقد فشل في إدراك أنه بحلول عام 1975 وصل السادات إلى نقطة الإنهاك. وسيكون عملاً دراماتيكياً أحادياً من جانب السادات في هذه الحالة، وقراره بالذهاب إلى القدس بعد عامين لإثبات استعداده للسلام. بحلول ذلك الوقت، كيسنجر كان خارج المكتب. ومع ذلك، فإن رحلة السادات إلى القدس أثبتت صحة نهج كيسنجر».

وذكر الكاتب أن كيسنجر كان رائداً في استراتيجية الدبلوماسية المكوكية التي تلبي الاحتياجات الملحة للمصريين والسوريين والإسرائيليين لإنهاء حالة الحرب فيما بينهم. رغم ذلك، فشل في تضييق فجوة كبيرة بين إسرائيل وفلسطين كانت تتسع يوماً بعد يوم، كما فشل أيضاً كاتب الكتاب مارتن إنديك في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال فترة الرئيس باراك أوباما، الذي عمل عن كثب مع قادة البلدين والدول العربية في المنطقة.

- السعودية تسببت بخلق «أصعب لحظات» في حياة كيسنجر

وتطرق مارتن إلى تعاملات كيسنجر مع السعودية، مشيراً إلى الدور الحاسم الذي لعبته الرياض قبل وبعد حرب أكتوبر عام 1973، وذكر أن كيسنجر اتبع تقليد «الواقعية في السياسة الخارجية»، ومن ثم، اعتبر السعودية قوة أساسية لموازنة نفوذ جمال عبد الناصر في العالم العربي، ولاحظ لاحقاً أن الرئيس أنور السادات كان يتخذ خطوات منسقة للتخطيط للحرب مع سوريا، وللحصول على الدعم المالي من الملك فيصل بن عبد العزيز لتمويل المجهود الحربي الوشيك في وقت واحد.

في 14 أكتوبر 1973، كتب كيسنجر رسالة إلى الملك فيصل يخبره فيها أن قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بإنشاء قناة جوية تزود إسرائيل بالأسلحة، كان رداً على تسليح السوفيات للقوات العسكرية لمصر وسوريا، وقال وزير الداخلية آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، لكيسنجر إن الملك فيصل بن عبد العزيز لم يعجب من مراسلات كيسنجر، لأنه صوّر السعودية وكأنها تقف مع دعم أميركا لإسرائيل خلال الحرب، على افتراض أن واشنطن والرياض كانا في تحالف مناهض للشيوعية، وبالطبع، لم يكن هذا هو الحال.

- كيسنجر على خلاف نيكسون لم يكن يتوقع أن الملك فيصل سيستخدم سلاح النفط

بالمقابل قلل كيسنجر من شأن إمكانات السعودية، ولم يتوقع استخدام النفط كسلاح في حرب أكتوبر، حيث كان على خلاف بشأن هذه المسألة مع نائب وزير الخارجية كينيث راش، كما كتب إنديك، مستطرداً: «كان نيكسون مثل شليزنجر وراش قلقاً بشأن النفط. ومع ذلك، كان كيسنجر غير متوقع بشأن احتمالية فرض حظر نفطي عربي، ليس لأنه كان متجاهلاً للقلق، بل لأنه كان يعتقد أن جهوده لاستخدام الأزمة للتوصل إلى تسوية سياسية ستبقى في أيدي منتجي النفط».

وحصل ما لم يتوقعه كيسنجر، لتصدر منظمة منتجي النفط المعروفة بـ«أوبك» قراراً بوقف تصدير النفط إلى الولايات المتحدة في 19 أكتوبر 1973، حيث وافق أعضاء «أوبك» الـ12 على الحظر، وخلال الأشهر الستة التالية، تضاعفت أسعار النفط أربع مرات، وظلت الأسعار عند مستويات أعلى حتى بعد انتهاء الحظر في مارس (آذار) 1974، إلا أنه خلال الحظر النفطي لمنظمة «أوبك»، ارتفعت أسعار النفط المعدلة حسب التضخم من 25.97 دولار للبرميل في عام 1973 إلى 46.35 دولار للبرميل في عام 1974.

- «حظر النفط» غيّر المعادلة السياسية خلال «حرب أكتوبر» وأربك الأسواق

نتيجة لذلك، بدأت أصعب المواقف الدبلوماسية في حياة المخضرم هنري كيسنجر، وصناعة السلام في الشرق الأوسط مما دفعه إلى البدء في محاولات لإنهاء تكتل «منظمة أوبك»، والسياسة التي اتبعتها في تسعير النفط المرتفع أثناء وبعد اندلاع حرب أكتوبر، وقال إنديك إن الكثير من المراسلات جرت خلال تلك الفترة بين الملك فيصل بن عبد العزيز ووزير النفط السابق الدكتور أحمد زكي يماني من جهة، وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي من جهة أخرى.

وأفاد في كتابه، بأن دائماً ما كان كيسنجر يناشد الاثنين لإنهاء مقاطعة النفط التي تضر بالاقتصاديات الصناعية للولايات المتحدة، والغرب إلى حد كبير، إلا أنه كانت هناك شروط قاسية على كيسنجر، ولم تجدِ محاولاته بحث منظمة أوبك على إنهاء حظرها النفطي، وفي البداية، كان حل وضع القدس أحد المطالب التي قدمتها «أوبك» لإعادة مستوى إنتاجها إلى ما قبل الحرب، كما كانت هناك مطالب بمنح الفلسطينيين حقوقهم وإجبار إسرائيل على منح الأراضي التي احتلتها.

وفي تطور الأحداث، لا يمكن أن تتحقق الأشياء الثلاثة التي هي الأبرز بالنسبة لـ«أوبك»، وكما هو متوقع، تغيرت السياسة النفطية الجديدة لـ«أوبك» بعد أن أدرك أعضاؤها حدوث درجة من التقدم في العلاقة بين مصر وإسرائيل، لأن مثل هذا التطور الجديد يعني أن أميركا أصبحت أقل انحيازاً لإسرائيل، على الأقل في علاقة ذلك البلد بمصر، وفي مواضع أخرى، وصف مارتن كيف أخبر كيسنجر أن الرئيس السوري حافظ الأسد على استعداد للقائه، حيث كرر مراراً لكيسنجر أنه «إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية، فإن جاذبية الشيوعية في المنطقة سوف تتضاءل».

- الملك فيصل شديد الحذر والدهاء لكنه منفتح في علاقته مع كيسنجر

ونقل إنديك، عن لقاء الملك فيصل مع كيسنجر بينما كان الحظر النفطي ساري المفعول، حيث وُصف الملك فيصل بأنه شديد الحذر في كلماته مع كيسنجر، وفي مرة من المرات قال لوزير الخارجية الأميركي إن «إبرام اتفاق فك الارتباط بين مصر وإسرائيل، سيجعل الصنابير تفتح مرة أخرى»، أي خطوط إنتاج النفط، وفي الواقع، كان هناك انقضاء شهرين عندما تم توقيع اتفاقية فك الارتباط الأولى، وعندما استأنف إنتاج النفط حصصه السابقة، كانت السعودية أكثر صرامة مع كيسنجر، مما كان يعتقد في السابق.

ورأى الكاتب، أن هذا كان له علاقة بإقامة الملك فيصل للربط بين اتفاقية فك الارتباط بين سوريا وإسرائيل، قبل إلغاء ارتفاع أسعار النفط، ففي يوم السبت الموافق 2 مارس (آذار) 1974، ذهب كيسنجر إلى السعودية والتقى بالملك فيصل مرة أخرى، وقال له إن الوزير عمر السقاف (وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية) اجتمع بشكل جيد مع الرئيس نيكسون، واتفقا على إنهاء الحظر النفطي، وبحسب الكاتب، «فاجأه الملك فيصل بقوله إن فصل القوات في الجولان يجب أن يأتي أولاً»، ووصف الملك فيصل هذه الخطوة بأنها «العقبة الأخيرة».

ويصور إنديك الملك فيصل على أنه منفتح وممتعض لكيسنجر، ففي مرة من المرات، «اصطحبه (الملك فيصل) إلى الباب بينما كان يغادر الاجتماع، في لفتة لطيفة منه، وتحدث معه عدة مرات باللغة الإنجليزية، وأخبره بينما كان يودعه، بأنه كان يدعو الله أن يبارك في كيسنجر ويساعده على تحقيق النجاح في دبلوماسيته المكوكية».

وبمزيد من التفاصيل، وبينما كانت أميركا لا تزال تمنح إسرائيل أسلحة بحرية، بينما كان الحظر النفطي لا يزال سارياً، صرّح مارتن إنديك أن «الملك فيصل أحبط محاولة كيسنجر في ربط إنهاء الجسر الجوي بتخفيف الحظر النفطي، وبدلاً من ذلك، أشاد بدهاء الملك فيصل»، ويوضح الكاتب أن كيسنجر أدرك إذا لم يرض الملك فيصل، «فيمكنه دائماً العودة إلى فرض حظر النفط مرة أخرى»، إلا أن ردود الملك فيصل على كيسنجر كانت دائماَ تشير إلى أن «الحظر هو قرار عربي مشترك»، والهدف من ذلك، أن الملك فيصل أراد من كيسنجر أن يفعل المزيد قبل رفع الحظر النفطي.

- استشهاد الملك فيصل نزل بشعور من الكآبة على البيت الأبيض

ويكرر الكاتب ما كتب من قبل في وسائل الإعلام الأميركية، من أن اغتيال الملك فيصل نزل بشعور من الكآبة داخل البيت الأبيض اجتاح الجميع بمن فيهم كيسنجر، وادّعى الكاتب، أن يهودية كيسنجر لم يكن لها قبول كبير في أوساط الدبلوماسية العربية آنذاك، ولكن كيسنجر حصل أيضاً على العديد من الامتيازات المماثلة لمكانته كرجل دولة أميركي بارز، ومسؤول حكومي كبير جداً، وبالتالي، كانت حكمة الدبلوماسية السعودية هي معرفة الأرضية المشتركة التي يمكن العثور عليها في الأصول الدبلوماسية مع كيسنجر. وكان هذا في تناقض مباشر مع معارضة كيسنجر المبكرة لمخاوفه من أن يتم رفضه في السعودية، لكونه يهودياً من خلال العقيدة الدينية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

569 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع