كنت في بغداد /ظاهرة خطيرة (الحلقة السابعة)- زحف المباني
كنت كلي عيون تتفحص الطريق من مطار بغداد الدولي وتحاول احتضان بغداد الحبيبة ببناياتها ، شوارعها واشجارها المتعبة التي اصفرت اغصانها ، وكأنها تشارك ما يحيط بها من بؤس وشقاء.
جلب انتباهي بعد ان تجاوزنا شارع المطار وعلى طول الطريق حتى وصولنا الى منطقة راغبة خاتون حيث كنا نقصد.. ان الكثير من البنايات زحفت الى الأمام وضمت الرصيف اليها ، بل أن بعضها ضم قسما من الشارع العام ، وهي تزهو بألوانها الصارخة وزخرفها الخارج عن الذوق ، متميزة عن البيوت القديمة الرصينة التي جار عليها الزمن واتلفتها الشمس والغبار، فبدت قميئة تستصرخ طالبة بعض الاهتمام ، كما لاحظت انتشار الكثير من البيوت الصغيرة المساحة والمتلاصقة ببعضها ، بألوانها المتنافرة المثيرة الاشمئزاز..
اين بغداد التي في خاطري؟ اين الحدائق الغناء المحيطة بالبيوت الجميلة بورودها العبقة ونباتات الجهنمي بألوانه الزاهية المتدلية من أسيجة الحدائق ؟
اين النرجس بعيونه البراقة اين الرازقي أين عبير القداح اين الجوري والقرنفل اين الأشجار أين النخيل الزاهية الخضرة ؟.. واين (مراجيح الحدائق) تطرب المارة بموسيقاها مصحوبة بقهقهة البنات ؟ لا أمامي إلا منظرا بائسا وبيوتا عفى عليها الزمن تبكي ماضيها الجميل وتشكو بؤسها الحاضر في وطن المعذبين والجياع ، بلد الثروة النفطية والميزانيات الفلكية التي تعدت 170 مليار دولارا سنويا .
لقد تريفت بغداد الرشيد بغداد الحضارة والتمدن ، اسفي عليك يا حبيبة العراقيين وفخر الحضارة وأعجوبة التاريخ.
تذكرت مدينة عمان بشوارعها الجميلة المنسقة ومبانيها البيضاء ومولاتها الكبيرة واسواقها المزدحمة ، عند زيارتي لها مؤخراً كل هذا العمران والتقدم بميزانية سنوية قدرها (9 ملياررات دولار) ، طفرة هائلة من التطور أعادتني الى ذكرى مؤلمة يوم استقبلتني في فترة الثمانينات من القرن الماضي .
فقد كانت مدينة فقيرة كل ما فيها منطقة (وسط البلد) ، عندما وصلت اليها متلفعة بعباءة ، وضعتها اختي على رأسي ، بعد أن اودعتني سيارة مغادرة الى عمان ، في الوقت الضائع .. بعد ان منع السفر في وطني (فقد سمح السفر لمن اشرت جوازات سفرهم فقط) خدمني الحظ مرات .. عندما اشـَّـرت جواز سفري عازمة على الرحيل بسبب الحزب اللعين ، في اية لحظة طارئة .. بعد المضايقات التي تعرضت لها في دائرتي ، ومحاولة اقناعي بود اولا ، ومن خلال زملاء العمل ، للتسجيل في (حزب لا يمثلني) ثم تصاعد الضغط باستدعائي الى مركز شرطة منطقة سكناي (لإرغامي على الإنظمام الى ذلك الحزب) وحالفني الحظ مرة أخرى وبمساعدة مدير دائرة كتاب العدول الأستاذ (حامد الصگبان له الرحمة والذكر الطيب) حيث وقع لي على طلب إجازة لمدة يوم واحد (لازلت احتفظ به) لكي انفذ من الحدود البرية في منطقة (طريبيل) ان هم سألوني ، كيف اسافر وأنا موظفة
سافرت قبل موعد مثولي الذي بلغت به للمثول في مركز الشرطة .
في المنطقة الحدودية بين العراق والأردن حالفي الحظ مرة أخرى بسبب سفري ضمن گروب سياحي كان في طريقه الى عمان ، فلم يلتفت مسؤول الجوازات الى هذا الأمر
وصلت عمان وتركت اختي المسكينة تواجه تبعات فراري وتتحمل زياراتهم المرعبة المتكررة للسؤال عني ، وعن اخواتي بعد ذلك أيضا لغاية اصابتها بالمرض اللعين ورحيلها قبل الأوان ، تودعها دموع سبعة أخوات موزعات على ارض المعمورة..
أيا وطني كم فيك من ظلم وشقاء ؟ والى متى كل هذا العناء ... ترى أيأتي اليوم الذي يرتاح فيه هذا الشعب المنكود .. ومتى...؟
تركت وطني و دموعي تغسل وجهي واللوعة مغروسة في روحي ، فقد انتزعت من وظيفة احببتها ولم امكث فيها طويلا ، وماذا أقول لقد انتزعت من بغداد عشقي الأبدي....
-----------------
أكتوبر / 2017
ســــــــــــــتوكهولم
1789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع