BBC:لا يخفي جناح العراق في بينالي البندقية هذا العام بعده عن النزاع الحالي في البلاد، حيث شاركت أعمال فنية تتناول تصديها لتنظيم "الدولة الإسلامية" في ذلك الحدث. الصحفي "ألستير سوك" زار ذلك الجناح ويعرض رؤيته في هذا الإطار.
مع مواصلة مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" تقدمه نحو بغداد، فإن الفن المعاصر في بلدهم هو آخر ما يدور بخلد معظم العراقيين. ومع ذلك، يعمل عدد من الفنانين العراقيين الموهوبين بإصرار لتحدي نزيف الدم الذي يعصف ببلادهم منذ أيام صدام حسين.
هذا ما اكتشفته مؤخراً عندما زرت الجناح الوطني للعراق في بينالي البندقية في دورته السادسة والخمسين.
وقد نظمت "مؤسسة رؤيا للثقافة المعاصرة في العراق" ذلك الجناح العراقي. أما ترتيب معروضات الجناح فقد قام به فيليب فان كوترين، المدير الفني لمتحف الفنون المعاصرة في مدينة "غينت" البلجيكية.
ولكي يختار كوترين الفنانين الخمسة للمشاركة في ذلك المعرض، سافر إلى أمريكا، وبلجيكا، وتركيا، والمملكة المتحدة، إضافة إلى العراق. وقد وجد في ذلك البلد العربي، كما أخبرني، أعمالاً تدل على فن معاصر منعزل، وربما يتميز بضيق الأفق، وبالتوجه نحو نزعة محافظة.
يقول كوترين: "خلال بحثي، بدأت بزيارة فنانين في بغداد. وقد وجدت أن أكثر الأعمال الفنية المنتجة في العراق هي عبارة عن رسومات لطيفة تنكر حقيقة ما يجري في البلاد. وقد استرشد رسامو تلك اللوحات بالجمال والحنين إلى الماضي."
ويضيف: "أما من وجهة نظري، فقد كانت الأعمال مملة تماماً. لا أدرك بالضبط لماذا تصر على رسم زهور، أو نهر دجلة، أو شوارع بغداد، ما دمت فناناً تعيش في بلد بمثل هذا التعقيد الذي تشهده البلاد. كنت أبحث عن 10 في المئة من الفنانين الذين توفرت لديهم الشجاعة للتعامل مع الوضع الحالي."
ونتيجة لذلك، كان جميع الفنانين الذين اختارهم كوترين في النهاية قادرين على إنتاج أعمال فنية قاسية، وصريحة، ولا تُنسى. خذ مثلاً الألوان المائية الموحشة للرسام الشاب "حيدر جبار"، الذي ولد عام 1986.
لقد رسم جبار لوحة عن ذكرياته لمشاهد مروعة رآها بأم عينيه. وتمثل اللوحة التي رسمها عدداً من الرؤوس المقطوعة لعدد من الشباب، معظمها معصوب العينين، ومضرجة بالدماء، وترتكز فوق بعض الأوتاد. (جدير بالذكر أن كوترين أطلق اسم "الجمال الخفي" على المعرض العراقي ليجلب الانتباه إلى حقيقة أن الفنانين وأعمالهم غير معروفة حتى لدى المطلعين على الفن من الغربيين.)
تركز أعمال الفنان العراقي حيد جبار على تناول جرائم قطع الرؤوس التي ينفذها تنظيم الدولة الإسلامية
يمثل كل واحد من أولئك الشباب ضحية مختلفة للنزاع الذي ابتلي به العراق في السنوات الأخيرة. وينوي الفنان "حيدر جبار" أن يرسم 2000 لوحة منها. وقد عُلِّقت اللوحة على جدران جميلة لقصر يعود للقرن السادس عشر، وتطل على "القناة الكبرى" لمدينة البندقية. إنها تبدو صارخة وغير لائقة – فهي تجسد تذكيرا مخيفا بالحاجة الماسة إلى حل سلمي لذلك الصراع الدائر في الشرق الأوسط.
ومع أن "جبار" اضطر في النهاية لترك وطنه نتيجة لذلك الصراع، وانتهى به الأمر ليعيش كلاجيء في تركيا حيث يقيم اليوم، إلا أنه على دراية بطبيعة حياة الفنانين في العراق. وقد كتب لي في رسالة إلكترونية: "ليس من السهل العمل كفنان معاصر في العراق. البقاء على قيد الحياة هو التحدي الأكبر."
وبحسب قول "جبار"، لا يوجد إلا عدد قليل من الفنانين الرواد في العراق. لذا، والحال كهذه، فإن المشهد يبدو "محدودا" للغاية. توجد في بغداد ثلاثة معارض "بسيطة" فقط، ولا يوجد أي تمويل للفنانين المعاصرين الذين يجتمعون عادة في بيت أحدهم بالتناوب، أو في إحد مقاهي العاصمة.
إحد المراكز الأخرى لتبادل النقاشات هي كلية الفنون الجميلة في بغداد. غير أن بيئة الكلية، التي تقدم تدريساً تقليدياً للرسامين والنحاتين الشباب، هي بالتأكيد من الطراز القديم.
لا يمكن الحصول على المجلات التي تعنى بالفن. لذا، يستعمل الفنانون الشباب شبكات الإنترنت، وموقع "يوتيوب" للوصول إلى المعلومات، ولكي يواكبوا التطورات التي تحصل في عالم الفن المعاصر في مختلف أرجاء العالم.
ومع ذلك فهم يحسون بانقطاعهم عن تلك التطورات. وبالنسبة للمطّلعين على الفن من الغربيين، فإن الألوان المائية للرسام "جبار" على سبيل المثال تعيد إلى الأذهان فوراً الأسلوب المميز للرسامة المعاصرة "مارلين دوماس"، المولودة في جنوب أفريقيا. لم يكن "جبار" قد سمع مطلقاً عن تلك الرسامة إلا عندما قابل كوترين، ناهيك عن رؤية أعمالها.
إحدى أعمال المصور الفوتوغرافي العراقي آكام شيخ هادي
كما يعرض جناح "الجمال الخفي" صوراً فوتوغرافية عراقية أخرى. ويعرض المصور الفوتوغرافي "عكام الشيخ هادي"، الذي ولد عام 1985، سلسلة جديدة من 28 صورة بالأسود والأبيض تم تحضيرها خصيصاً للجناح العراقي.
ونجد في هذه الصور تجسيداً لنازحين عراقيين عاديين وهم يعيشون حالات مختلفة ومتنوعة. وتشمل كل صورة أيضاً قماشاً أسوداً كئيبا يحيط بالشخص الرئيسي في الصورة وكأنه حبل مشنقة. وبحسب قول هادي، يمثل هذا الحبل الأسود علم تنظيم الدولة الإسلامية.
في الوقت الذي وُجِّهت فيه انتقادات إلى "مؤسسة رؤيا" لعلاقتها بأسرة عراقية مثيرة للجدل، فإن الجناح العراقي يقدم معروضات ينبغي الاحتفاء بها. إن عرض الأعمال الفنية في "بينالي البندقية" مهم بالنسبة للفنانين العراقيين من أمثال هادي. فذلك يعني إيجاد مشاهدين لأعمالهم – وهو أمر يفتقدونه في وطنهم.
وقال لي هادي: "ليس سهلاً بالمرّة أن تحترف الفن في العراق. فنظرة العراقيين تجاه الفن المعاصر هي نظرة قاصرة. إن أصعب التحديات هي تقبّل الناس لها وقدرتهم على فهمها: الجمهور لا يفهمها، فيبدو عملي وكأنه مرفوض، كما لا يلقى تقديرا كبيرا. في أي بلد يعاني أزمة حادة مثل العراق، تكون فيه معاناة الثقافة والفنون على أشدها. الفنانون فقط هم من يهتمون بالفن".
من الطبيعي أن الحال لن تكون بهذا الشكل على الدوام. يكفي مجرد إلقاء نظرة على الصور الرائعة التي التقطها الفنان "لطيف العاني"، المولود عام 1932، والمعروف بـ "الأب المؤسس للتصوير الفوتوغرافي العراقي".
صورة من بغداد في الخمسينيات للفنان لطيف العاني
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان العاني يتمتع بسمعة جيدة ومستقبل ناجح باعتباره مصوراً فوتوغرافياً ذا فن رفيع: في عام 1963، أقام معرضاً شخصياً من 105 صورة طافت أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد وثقت العديد من صوره فترة انتقال العراق نحو الحداثة في منتصف القرن الماضي. في إحدى تلك الصور التي لا تُنسى، على سبيل المثال، نجد إمرأة فاتنة تلبس نظارتها الشمسية وهي تقف مبتسمة على جانب طريق سريع، بينما يمر أحد الرعاة وهو يقود قطيعاً كبيرا من الأغنام، وقد ظهرت على محياه التجاعيد.
غير أن العاني فخور أيضاً بتراث وطنه العريق، إذ تدوِّن العديد من صوره معالم بلاده الأثرية. ونحن نشعر بالقيمة الكبيرة لهذه الصور في يومنا الحاضر أكثر مما مضى، وذلك في الوقت الذي ينهب ويدمر فيه مقاتلو الدولة الإسلامية المواقع الأثرية في عدة مناطق بالشرق الأوسط.
كتب العاني في دفتر زوار معرض "الجمال الخفي" ما يلي: "إن جميع المعالم الأثرية والأعمال الفنية، التي بناها السومريون والبابليون وإلى أيام العباسيين، تعطيني الفخر والاعتزاز. للعراق تاريخ رائع. تتابعت هذه الثقافات واحدة تلو الأخرى، حضارة بعد أخرى، وعلى طول العراق، من شماله إلى جنوبه، ثم بدأ التراجع والتقهقر. أتمنى أن نعود ثانية إلى ذلك التحضر."
لعل ذلك يبدو للقاريء غير ذي أهمية في مواجهة التقدم الذي يظهر وكأنه لا هوادة فيه لتنظيم الدولة الإسلامية. بالرغم من ذلك، ما يثلج الصدر هو أن الفنانين العراقيين الشجعان الذين عرضوا أعمالهم في "بينالي البندقية" لا زالوا متأهبين للوقوف إلى جانب قوى الحضارة والمدنية.
965 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع