الحياة اللندنية/حمّود حمّود:العراق، اسم يدل على أرض أكثر مما يشير إلى هوية، أكثر مما يشير إلى مجتمعات تحمل هوية وطنية، إلى أمة ما، أو هوية أمة، أياً تكن هذه الهوية! فضلاً عن أنّ أرض هذا الإسم، وإنْ استخدمها تاريخياً كتاب مسلمون تراثيون، إلا أنها لم تكن تشير إلا إلى «عراق السواد» (المنطقة المثلثة: من مدينة الحديثة حتى عبادان) كما أفاد بذلك الماوردي في مخطوطه «الأحكام السلطانية».
ليس بدعةً، بالتالي، القول أنّ العراق الحالي هو بدعة معاصرة، أدرجت، من بين ما أدرج، ضمن بدع الدولة الحديثة، والتي حاولت تجميع شتات مجتمعات هوياتية ضمن إطار هوية واحدة في ظل هيكل كرتوني سمي بـ «الدولة العراقية». وليس بدعةً القول، كذلك، أنّ مثل هذه البدعة فشلت في أدنى مهماتها التي تقتضي بناء الدولة - الأمة محلّ الدول أو بالأحرى الهويات الأسطورية العراقية التي كانت قائمة، وما زالت.
قصة فشل بناء الدولة - الأمة يخبر بها عراق اليوم، لا على أيادي الحكام الذين تعاقبوا على حكمه في العصر الحديث فحسب، بل على أيادي الحكام الجدد، وخصومهم كذلك، الذين يكملون فشل ما لم يفشل بعد. ما بين «عراق السواد» و «الدولة العراقية» ثمة عراق ثالث، هو «عراق الهويات»: عراق التفكك، عراق الصراع على الهويات أو الصراع بين الأمم المخيالية للعراق. هذا هو جوهر الكتاب الجديد «الهوية والأمة في العراق» للكاتب شيركو كرمانج (دار الساقي، 2014، ترجمة عوف عبدالرحمن عبدالله).
ما تقتضيه فكرة أنّ العراق قائم بتكويناته الأنثروبولوجية أساساً على اللاأمة في إطار دولة جامعة لكل العراقيين، هو «مخيالية» من يقول أنّ العراق كان أمة واحدة قبل استيلاء البعثيين على السلطة سنة 1968. تمثل هذه المخيالية أحد الهدفين الأساسين لكرمانج في الرد عليها وتشريحها، من خلال سردية تاريخية للتطور الاجتماعي والسياسي للعراق سيطرت على مجمل الكتاب. أما الهدف الثاني، فيتمثّل في تحليل أنّ عدم قدرة العراق على التحوّل إلى أمة موحّدة متماسكة بدءاً من عام 1921 حتى إسقاط البعث في 2003 وصولاً إلى الصراعات الأهلية اليوم، إنما يعود إلى الصدامات المتنامية بين مختلف الجماعات القومية والدينية. وبالفعل، كتاب كرمانج قائم في هذا الإطار على الكشف السياسي عن الأحداث المؤلمة التي تكوّن العراق الحديث في كنفها. إنه يندرج ضمن إطار التحليل السياسي للمكونات العراقية، والصراع بين هذه المكونات التي قامت على أسس طائفية بين البعثيين السنّة الذين سيطروا على مجمل تاريخ العراق الحديث، وبين الشيعة الذي يسيطرون اليوم، وبين المكوّن الكردي المتصارع إثنياً مع هذين المكوّنين، والذي ما زال يحاول انتزاع دولة له منهما.
كرمانج، لكي يدلل على سرديته التاريخية، فإنه يستخدم اصطلاح «الصراع» لا «الحرب» بين هذه المكونات، ذلك أنّ «العداء العراقي لا يظهر دائماً في هيئة حرب، بل يتم التعبير عنه غالباً في صورة عدم اتفاق، توترات، تمرد، وعنف متقطع أو مستمر، من دون أنْ يتمثل بالضرورة في عمل حربي» (ص 38). والحال أنّ مثل هذا الحذر المفاهيمي جيدٌ هنا، وإنْ كان يفتقر إلى أرضية فكرية تسنده طالما أنّ صراع الهوية يمثل أحد أهم التعبيرات التي يقوم الكتاب في تحليلها (كما سيأتي لاحقاً). هكذا، فإنّ الكتاب يناقش صراع الفضاءات الطائفية والإثنية الثلاثة: من المتخيل الإثني الكردي إلى المتخيل العروبي والسني الذي عمل على «تسنين» العراق سياسياً أو تبعيثه أو تصديمه (من البعث والصدامية)، إلى المتخيل الشيعي الذي يعمل على تشييعه كما يجري اليوم، فضلاً عن الصراعات الدموية بينهم، وبخاصة بين السنة والشيعة. وهذا إنْ دل على شيء، فإنما يدل على فشل كل الادعاءات التي تقول بهوية عراقية واحدة كانت موجودة قبل صدام حسين أو يجب أنْ تكون موجودة بعده. وبالإمكان التدليل على هذا لا من الحروب الطائفية وغير الطائفية التي خاضها صدام ضد المكونات العراقية الأخرى فحسب، بل أيضاً مما هو مستقر لدى العراقيين في تخيل هوياتهم وعدو هذه الهويات: حينما تتحول صورة هذا العدو من «الآخر الصهيوني» أو العدو الخارجي، إلى آخر في «الداخل» والصراع ضده.
معظم فصول الكتاب بحث في هذه الإشكاليات الصراعية (الهوياتية الطائفية)، منذ تأسيس الدولة العراقية في الربع الأول من القرن العشرين إلى سقوط البعث الصدامي وما أعقبه من استكمال للحروب، لكن بنكهات ومعايير صراعية أخرى. كرمانج يرى أنّ ما وراء تلك الصراعات يكمن غياب عامل الثقة بين هذه المكونات، فالشيعة اليوم يكتنفهم خوف من العودة إلى الماضي، الماضي الصدامي، والسنّة يخافون من الحاضر، أما الطرف الكردي الثالث، فإنه يخاف من الاثنين. هكذا، فإنّ «بناء الثقة في مجتمع يعيش الماضي أكثر مما يعيش المستقبل، صعب جداً إنْ لم يكنْ مستحيلاً، فالعراقيون يميلون إلى العيش في الماضي أكثر من الحاضر، والمستقبل شبه معدوم» (ص 346).
هنا، يمكن أنْ نسجل نقداً صغيراً. الكتاب على رغم تحليله التاريخي الواسع للصراعات العراقية، إلا أنه يفشل في التأسيس، من الناحية الفكرية، في ضبط المفاهيم التي يستخدمها. ذلك أنه من المنتظر للوهلة الأولى من عنوان «الهوية والأمة في العراق»، أنْ نقرأ تحليلاً أنثروبولوجياً لمفهوم الهوية ذاته وتجسيده على أرض الواقع سوسيولوجياً، خصوصاً أنه لا يمكن تقريباً أنْ تفوت القارئ صفحة من الكتاب إلا ويجد ألفاظ الهوية والصراع تسيطر عليه. الكتاب أبدع في التحليل السياسي لتلك الصراعات (أنظر ص 181 وما بعدها في نقاش «عملية التفكك الوطني»)، إلا أنه للأسف فقير معرفياً من الناحية الأنثروبولوجية. ربما يقال، وهذا صحيح، أنّ ميدان الكتاب لا ينصب في هذا الإطار المعرفي، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أنْ يغتفر لمؤرخ يجسد دراسةً له في تاريخ ما وهو نفسه لا يعلم ماذا تعنيه لفظة التاريخ! أو ربما يكون كتابه في التاريخ إلا أنّ ذهنه وفكره غير تاريخيين! لا نقول هذا الكلام تماماً عن هذا الكتاب، إلا أنه أيضاً ربما كان ينبغي عليه الاستناد الى قواعد فكرية متينة في تحليل المفهوم الأنثروبولوجي المعقّد للهوية ثم يدرسه على الأرض.
مثل هذه النقطة لم يقم بها الكتاب، على رغم إشارات فقيرة بين هنا وهناك إلى بعض إشكالات هذا المفهوم، لكن يبقى ذلك غير كافٍ طالما أنّ العنوان الرئيس للدرس هو عن الهوية.
يعجّ الكتاب بكثير من الإشكاليات، إلا أنه، وعلى العموم، يبقى من المحاولات الجيدة في التحليلات السياسية لتاريخ العراق الحديث المؤلم جداً في الواقع. لهذا ليس غريباً أنْ ينتهي الكتاب بتشاؤم نتيجة الدماء التي أهدرت في العراق وعلى العراق وبأيادي عراقيين. إنه من المفيد هنا، أنْ نختم بما ختمه الكتاب: «يبدو هذا البلد موحداً على الخريطة، لكنه منقسم على الأرض، وعلينا أنْ ننتظر لنرى هل أنّ الخريطة ستوحّد شعب هذا البلد أم أنْ الشعب سيمزق الخريطة». إلى الآن، الصورة جدّ قاتمة: كل مكونات الصورة تقول إنّ أمم العراق وهوياته ماضية في تمزيق الخريطة!
1108 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع