مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (9)
تحت سماء الوطن، شــقوا طرقا ورسـموا احلاما لأجيال كثيرة، وأضحت مهنتهم مع الوقت ظلّهم الذي يلازمهم ويصاحبهم، فمنحوها قلوبهم واجمل سنيّهم. فبالرغم من مضي زمنا طويلا منذ ان تركوها، او تقاعدوا منها، الا ان كلمة (سـت) أو (استاذ) مازالت حاضرة في وجدانهم، وقادرة للطوف بهم الى العالم الجميل الذي كان سائدا.
لست مبالغا لو قلت ان المعيار الذي يمكن من خلاله قياس رقي اي بلد، او مجتمع، هو بالحكم على سياسته التربوية، على اساليب التعليم، على المناهج والبنايات ومرافقها المهمة، على الفعاليات التي ينغمر فيها التلاميذ، وربما الأهم من كل هذا وذاك، هو الكادر التدريسي، ان كان بواقعهم الأقتصادي أوحقوقهم ودور المؤسسات المعنية في رفع شأنهم ومستواهم. ورغم اننا نعيش في بلاد جديدة ، الا ان هذا لا يمنع ابدا من تكريم جيل المعلمين والتدريسيين الذين قدموا الكثير، فمسيرتهم تلك تستحق منّا، نحن ابناء العراق الأوفياء، ان نشكرهم ونقدم لهم الأمتنان، اينما كانوا منتشرين في بلاد الغربة، ان كان بالكتابة عنهم، بنشر قصصهم وذكرياتهم وصورهم، والأحتفال والأفتخار والأعتزاز بكل مبدع، خدم بصدق وتفان.
وفي هذه المناسبة، ادعوكم لرحلة قصيرة مع بعض الوجوه العراقية التي خدمت في سلك التدريس في عهود مختلفة. ويقينا ان في جعبة كل واحدا منهم قصصا كثيرة وحكايات وذكريات، وستسمعوهم سوية وهم يصبوها في مجرى واحد كبير، هو حب الأنسان ورفعته.
المربية جوليت ورد شـجر السـبتي
من مواليد مدينة العمارة/محافظة ميسان، محلة "السـريّة" في مركز المدينة عام 1941، كانت متزوجة من الراحل رحيم كشكول حاجم، ولهم 3 بنات وولدان مع 11 حفيد لحد الآن.
اولى خطواتها للتعلم كانت ،
- المرحلة الأبتدائية في "مدرسة حليمة" بمدينة سـوق الشيوخ، ثم اكملتها في،
- "مدرسة الزهراء" بمركز محافظة الناصرية، بعدها في
- "متوسطة الناصرية للبنات"، وبعد ان انتهيت منها التحقت ب،
- "دار المعلمات الأبتدائية" في الناصرية، وتخرجت منها معلمة في العام 1962
ولم تمض فترة طويلة بعد التخرج، اذ حل موسم التعيين عند كانون ثان 1963 في،
1-"مدرسة بثينة" في ناحية الدوّاية – الناصرية – على الحدود مع محافظة ميسان، ثم نقلت الى،
2-"مدرسة البطحاء" في ناحية البطحاء- الناصرية، تلى ذلك الأنتقال الى العاصمة والتنسيب الى،
3-"مدرسة الخلد" في منطقة الوشاش – بغداد – حتى العام 1974، ثم الى
4-"مدرسة الرجاء" – حي القادسية – في جانب الكرخ من بغداد ، حتى استحقاق التقاعد عام 1991.
لم تكن العملية (التعليمية) بعيدة عن مناخ بيتنا، فقد كان المرحوم والدي (ورد شجر السبتي) معلما مرموقا لمادة الرياضيات ولمدة لا تقل عن 30 عاما، لكنها لم تكن من اولى اختياراتي وأنا صبيّة يافعة، لكن حينما كبرت قليلا، فقد دفعتني العائلة لهذا المضمار (وهو بالحقيقة حقل ملائم للمرأة وفق معايير مجتمعاتنا المحافظة)، وبعدما دخلته من اوسع ابوابه، احببت هذه المهنة (بجنون)، خاصة في السنين التي سبقت زواجي، فكنت اقدم للتلاميذ الدروس الأضافية (المجانية) وأقوم بتدريس ما لايقل عن 5 مواد وبضمنها اللغة الأنكليزية والرسم حينما يكون نقص في الملاك التعليمي، وأندفاعي هذا لم يكن بمعزل ايضا من تأثري بمعلماتي ومدرساتي في المراحل المختلفة ومنهن: (روز خليل – من اهالي الموصل) ودرستني مادة الكيمياء، و (برتقالة سوكاوي – من اهالي الناصرية) ودرستني الرياضيات في الصف الرابع، وأذكر زوجها السيد (د.موحان – مدرس في كلية الهندسة ومن خريجي موسكو)، فقد تأثرت بها كثيرا وبطريقتها في التدريس، كما وتطرق سماء ذاكرتي السيدة (مليحة الأطرقجي) ايضا، اما في ذكر المربيات اللواتي تقاسمن معي العمل التدريسي فمازالت بعض الأسماء شاخصة ومضيئة لعالم الذكريات الحلوة وأذكر منهن في (مدرسة الخلد – منطقة الوشاش)، الأخت (سلوى نعوم كساب – من اهالي الموصل) والمعلمة (أمل سعيد ججاوي) و الأخت (سالمة عبد المجيد رسام)، وغيرهن من المربيات اللواتي اكن لهن كل المحبة والأحترام.
كانت الفرحة تزورنا مرتان في السنة، الأولى عند نهاية العام الدراسي وظهور نتائج الأمتحانات والتي كانت بحدود 90%، اما الفرحة الثانية فكانت بمحبة الطلبة الذين نستقبلهم وهم اطفالا بعمر الورود، فقد كنت لهم اكثر من مربية، بل اما حنونة، وقد شاركت بزرع بذورا طيبة عندهم وعلمتهم طرقا سهلة وجميلة لمادة الرياضيات لن ينسوها ابدا، وبالحقيقة هناك مشاهد جميلة تبث في روحي رعشة منعشة كلما تناهت الى وجداني، ففي احدى المرات وكنت حينها اسكن مدينة البياع وقد نزلت للتو من (الفورت) وكانت هناك جمهرة من الناس بأنتظار النزول الى بغداد، وأذا بشاب وسيم من بينهم يتقدم للأمام ويأخذ من يدي (علاليك المسواك) ويوصلها معي حتى باب الدار، وعندما استفسرت منه قال:( ست آني ما انساج، انتي درستيني رياضيات، وآني هســّة مهندس!).
اما الصورة الثانية فحدثت لي عندما كنت ذاهبة لوزارة التربية من اجل تقديم جردا بالحسابات، لأني كنت بمنصب معاونة المدير، فبعد صعودي في باص – التاتا – كنت واقفة بسبب الزحام، وأذا بصوت يأتي عاليا من اعماق الباص ( ست جوليت، ست جوليت لتدفعين، وتعالي مكاني هنا اكعدي، انتي علمتيني رياضيات، وآني اخذت بيها 100% بالبكلوريا)، ولا ادري في تلك اللحظة كم مرة تبدلت الوان وجهي بين الفرح والخجل، لكن هذا هو الثمر الطيب! وطالمنا تحدثنا عن (الثمر الطيب) فأنه لمن دواعي الشرف ان اقول اني منحدرة من عائلة متعلمة ومثقفة، خاصة والدي العزيز، الذي كان معلما للرياضيات وفنانا رساما جعل الوطن والعلم مادتان يوميتان في منزلنا، وهو الذي شجعني لأكون انسانة وطنية بأمتياز، وفعلا ، فقد كنت نشطة في (اتحاد الطلبة العام) و (رابطة المرأة العراقية) ابان العهد الجمهوري والأنطلاقة الجماهيرية، وقد نال والدي(من جراء مواقفه الوطنية) قسطه من التوقيف والسجن والتعذيب، لكنه لم يساوم على مبادئه او قيمه التي كان مؤمنا بها.
المربية جوليت السبتي تقف امام لوحة زيتية للبصرة
كان للمدرسة والمعلم (ايام زمان) منزلة كبيرة في حياة الأنسان والمجتمع، فقد كان التلاميذ يقطعون مسافات طويلة احيانا للوصول الى دار العلم – المدرسة – اما اليوم فهناك حالات العصيان على المعلم وتهديده، وربما هذا ناشئ من المشاكل التي مرت على المجتمع من الحروب والحصار، اضافة الى عدم وجود تكافئ بين الأهل والمدرسة، وأنحراف بعض العوائل. اما بالنسبة للمناهج، فأقولها وللأسف، فانها قد تغيرت نحو الأسوء، وخاصة في هذا الزمن، حيث رفعت بعض المواد وأضيفت اخرى، دون دراسات حقيقية، وبمزاجية من بعضهم احيانا.
لم تكن نيتنا مغادرة الوطن، لكن ارتفاع وتيرة الأعتداءات علينا (نحن ابناء الطائفة المندائية الأصيلة والمسالمة) ووضعنا في فوهة الأستهداف من قبل الميليشيات والعصابات، فغدت حياتنا في خطر، ليس من العدو، بل من ابناء بلدك، وأحيانا من جارك الذي جاورك لسنين طويلة، للأسف!
غادرنا في آب 2008، ووصلنا الولايات المتحدة بعد حوالي سنة، وأنا بالحقيقة سعيدة على الأقل بأني اعامل كأنسانة، بأحترام وتقدير وأدب، وأتقاسم وقتي مع الأبناء والأحفاد اضافة الى ممارسة بعضا من هواياتي المفضلة في متابعة الأخبار السياسية والنقاش فيها، اضافة الى الحياكة، والطبخ والقرأة بللغتان العربية والأنكليزية، وأميل كثيرا للروايات التأريخية والعالمية. وأتمنى دائما ان ارى الأبناء وهم سعداء، وأن يكون باقي افراد عائلتي بصحة جيدة ايضا، وأن تستمر الحياة بحلاوتها، ليس لي فقط ، بل لكل البشر، الذين اعرفهم او لا اعرفهم، اما للعراق الغالي (اووف)، أحلم ان يرجع كما كان، موحدا، وأن تسود مجتمعه الألفة والمحبة تماما كما بين افراد العائلة العراقية الواحدة، وتزال الخلافات الدخيلة علينا، ويمحى الجهل والروح العدائية، ونكون انسيابيين مثل دجلة والفرات حينما يتعانقا في شط العرب، وأتمنى ان يرفرف علمنا عاليا بين اعلام دول العالم بمنجزاتنا العلمية وعطاء علمائنا ومبدعينا.
المدرّس فـاضل هرمز بوتا
ولد عام 1944 في مدينة (تلكيف) التابعة لمحافظة نينوى، وفي محلة (عبرو). متزوج من السـيدة درّة دابش، ولهم 4 بنين وبنتان، و 13 حفيد لحد الآن.
تلقى تعليمه الأول في،
- "مدرسـة تلكيف " الأبتدائية –العليا- ثم اكمل دراسته للمرحلة المتوسطة والثانوية في ذات المدينة وتخرج في العام 1963. بعد انتظار قصير وتردد في الأختيار بين اكمال التعليم او التوجه للأعمال الحرة، وقع اختياره النهائي على مواصلة التعليم وكان قبوله في كلية التربية/ جامعة بغداد، والتخصص في علم الرياضيات، على الرغم من ان معدله العام لأمتحان البكالوريا كان عاليا، لكنه رغب بهذا الفرع، وحصل فعلا على بكالوريوس علوم فرع الرياضيات عام 1968. كان اول عهده في المهنة الجديدة في،
1-"ثانوية دهوك" مدرس رياضيات، ومعاون المدير حتى العام 1971، ثم نقل الى
2-"متوسطة سـميّل" لمدة سنة واحدة، ولتدريس جميع المواد المقررة اضافة الى الرياضيات، بعدها الى
3-"ثانوية الحكمة" في منطقة المنصور، بمدينة الموصل / محافظة نينوى، حتى صيف 1976، اذ قررت العائلة الهجرة الى الولايات المتحدة، والألتحاق ببعض افراد العائلة والبحث عن فرص افضل للعمل والمعيشة والأستقرار! ومنذ ذلك التأريخ وأنا اسكن ضواحي مدينة "ديترويت" وأمارس الأعمال الحرة (يقول الأستاذ فاضل).
الأستاذ فاضل بوتا في سفرة جامعية الى بعقوبة
تفصح بعض تفصيلات الطفولة وحتى في فترة المراهقة عن نفسها لاحقا بجملة من المواقف والتصرفات والأفكار التي تحدد شخصية الأنسان، هذا الترابط العضوي له امتداد آخر يصنعه وينحته الأنسان عبر الخط الثقافي الذي يرسمه لنفسه من خلال منظومة فكرية ومعرفية تكمـّل اللبناة الأولى لعملية صيرورته الشخصية، لكن بالعودة للبدايات، كان لابد من التوقف امام بعض القناديل (الأسماء) التي انارة دروبي اللاحقة ابتداءا من مدير مدرستنا في تلكيف الأستاذ (خضوري) والأستاذ (جميل) والأستاذ (سليم كرّيم) في الأول ابتدائي، والأستاذ (صليوا جدّو) في الخامس، اما في الثانوية فكان مديرنا (بهنام عفاص) ، ومدرس الفيزياء (جورج عبد النور) والمرحوم الأستاذ (كوركيس شمامي) ، اما في المرحلة الجامعية فمازال عطر بعضهم عالقا في مخيلتي ومنهم: د. معين، مدرسنا لمادة الكيمياء، و د.علم الدين فرغلي – مصري الجنسية - لمادة الفيزياء، و د.عريبي الزوبعي، مدرسنا لمادة الرياضيات. على ان فترة التوظيف والتدريس تركت بصمات طيبة ايضا من خلال ملاحظات مدير "ثانوية الحكمة" في الموصل والذي كان يقف مشدوها امام النتائج الباهرة لتلاميذي في مادة (الرياضيات)، باحثا عن السبب في ذلك، وكان جوابي له بأختصار: الأمانة في اداء المهمة والوظيفة، اذ كنت آنذاك آتي للموصل بعد ان اركب 3 وسائط نقل يوم الجمعة، الذي هو عطلة رسمية، وأقدم اسبوعيا ما معدله 6 ساعات تدريس اضافي (بالمجان) من اجل رفع مستوى تلاميذي. وحدث يوما ان واجهني مديرنا السيد (طليع الوتّار) مع ملاك المدرسة الذي كان مؤلفا من 34 مدرسا وقال لهم: (( دحقو بينو، يركب 3 باصات كل يوم ده ايجي للمدرسة، ولا يوم اجا متأخر))، هكذا قضيت عملي التدريسي، وأشعر براحة الضمير حينما تخطر على بالي تلك الأيام، فقد كنت امنح تلاميذي عصارة قلبي، وغالبا ما كنت استعين بمقولة العالم اينشتاين القائلة: (مستحيل ان تقولوا اني شـاطر، بل بالعكس، فأني افكر بطريقة مغايرة) – ما معناه -.
الأستاذ فاضل بوتا مع زملائه بقسم الرياضيات
لم تكن ايامنا تمضي بسهولة في تلك السنين (بعد مجيئ البعث للسلطة ثانية)، فقد زج بالطلبة وبعض المدرسين في مهمات مخابراتية للتجسس وكتابة التقارير بعضهم على بعض، وكان (قسما من) الأخوة يوصلوا لي معلومات حول ما يكتب عني، ومنها بأني اما يساري أو موالي للأكراد، وبالحقيقة لم اكن لا هذا ولا ذاك، لكني كنت حرا في تفكيري، وفي احيان كثيرة كنت اصرّح بآرائي بصوت عالي: ان كل الشعوب لها الحق في حقوقها، ليس الأكراد فقط، بل اي شعب كان، انا ضد اضطهاد الشعوب. وكانت تلك الكلمات مترافقة مع الحرب الظالمة التي كانت تقودها الدولة على الشعب الكردي آنذاك!
ان سعة معلوماتي ورصانة شخصيتي لم تكن بمعزل من التأثير الكبير لأعز اثنان على نفسي وهما: شقيقي الأكبر ســامي بوتا، وأبن خالتي الصديق شبيب ننوشي، واللذان كان لكل منهما دورا في تطور حياتي نحو الأفضل، وأن كان هناك من مقام، فأني في هذا المقام اقدم محبتي وشكري لكلاهما! وأرتباطا بنشأتي ايضا، فقد ترعرعت على هواية (الصيد) والتي كانت منتشرة بين الشباب، خاصة للطيور(المساكين) التي غالبا ما كانت تأتي لقرانا ومدننا في منطقة (سهل نينوى) ، مضافا اليها ولعي الكبير بالقرأة، وهذه لم تنقطع لليوم، اذ مازلت أتابعها عبر الأنترنيت يوميا ولعدة ساعات، كما استمتع كثيرا بالكتب الكنسية والدينية، هذا اضافة الى هواية معظم (المتقاعدين من امثالي) في صرف ساعات من النهار في الحديقة المنزلية وزراعة الورود والخضار.
لي امنية شخصية احاول دائما ايصالها الى اقرب ناسي وأصدقائي، وهي في اتباع المثل والأفكار الأنسانية والأبتعاد عن البغضاء والكراهية، اما تمنياتي للعراق فهي: ان تقود البلد حكومة تمثل كل العراقيين، وأن لا تفرق بينهم على اساس المذهب او الدين او القومية، وأن تراعي وتستفيد من الكفاءات التي يزخر بها الوطن، وعند ذاك سيصبحوا بشرا محترمون!
المدرّس كامل حنا عبّو
في الجهة اليسرى ومحلة "حوش الخان" في مدينة الموصل بمحافظة نينوى ولد عام 1944، متزوج من السيدة بشرى الياس جعدان، ولهما ولدان وبنت واحدة وأثنان من الأحفاد.
مشواره مع المدرسة انطلق من مدينة الموصل، اذ درس،
- الأبتدائية في "مدرسة الطاهرة" والتي كانت واقعة في (سوق الشعارين) بالموصل ثم في،
- "متوسطة المثنى" بمدينة الموصل، وبعدها انتقل الى الى بغداد وأكمل الدراسة في،
- "متوسطة البتاوين" والتي كانت تقع بمحاذاة شارع "ابي نؤاس" تلى ذلك،
- "ثانوية النضال" والواقعة في منطقة (السنك) ببغداد، اعقبها التقديم للكلية وكان اختياره الدخول الى،
- كلية التربية/ جامعة بغداد – قســم اللغة العربية، اذ تخرج منها في العام 1969، وكان اول توظيفه في
1- "ثانوية الصويرة للبنين" والتي كانت تقع في قضاء الصويرة، بمحافظة الكوت وحتى العام 1976، ثم نقل الى،
2- احدى الثانويات في مدينة الثورة، وأستمر فيها لعدة أشهر، غادر بعدها العراق أثر اشتداد حملات (التبعيث) و ملاحقة حملة (الفكر اليساري)، وبعد رحلة قصيرة بين بيروت وأثينا، وصلت العائلة الى مدينة ديترويت في الولايات المتحدة منذ العام 1976.
لم يكن امامي وأمام زوجتي ونحن جدد في هذه المدينة (يقول الأستاذ كامل) الا ان نعمل من اجل تهيئة مستلزمات الحياة لنا ولأبنائنا الصغار، فعملت في حقل (الأعمال الحرة) وأمتلاك احد محلات بيع المواد الأستهلاكية وللحد الذي تمكنت من توطيد اساس اقتصادي جيد مكننا من ايصال ابنائنا الى مستوى اكاديمي طيب، وأنا الآن استمتع بسني التقاعد، والفرح مع احفادي. وعلى الرغم من ساعات عملي الطويلة، لكني كنت اجد الوقت للمشاركة في جميع الفعاليات والنشاطات الوطنية التي جرت في هذه المدينة، ان كان في دعم الدولة المدنية في العراق ضد الحرب ومن اجل السلم او من اجل الغاء نظام المحاصصة، وأشعر ان هناك شوطا طويلا امام العراقيين عليهم قطعه للحاق بركب الأمم، يبدء اولا بألغاء نظام المحاصصة وقبول الأخر وأعتبار معيار المواطنة وخدمة الشعب الأساس في تقييم البشر، ودون ذلك فأن البلد ذاهب نحو المجهول السئ.
عندما تعود بي الذكريات الى ايام التدريس (على قصرها) فأنها تبدو – رغم ما شابها من منغصات – مثل نهار مشمس رائع، فقد كانت علاقاتي مع الهيئة التدريسية جيدة، وتمكنت من مد جسور طيبة مع الطلبة بتقديم نموذج الأخلاص في العمل، وفي حقل اختصاصي (اللغة العربية) فقد كنت ملتزما بالمنهج، وأضفت عليه الكثير من نماذج الشعراء ومن كل العصور، زائدا الكثير من المعلومات التي كانت تفتقر اليها مناهجنا، مما حفزهم اكثر، وبكل اعتزاز استطيع القول ان نسبة النجاح عندي كانت عالية جدا، وفي احدى امتحانات البكلوريا للثالث متوسط كانت 100%. لكن وللأسف، فأن هذا الأخلاص جوبه بعقلية (اقصائية) مقيتة بددت طاقات كثيرة على مر الوقت، فقد حاول بعض منتسبي الأتحاد الوطني لطلبة العراق و - مكتب المدرسين – زج القضايا الحزبية في العملية التدريسية، ولم يمانعـوا من لعب دور (الشقاوة) لمن كان يعارض ذلك، مما جعل اداء الواجب المهني، مقرونا بالخشية والتردد لما يضمره هؤلاء الأشخاص للآخرين. وفعلا جرت عدة تجاذبات، ان كان حول زج (اقوال الحزب او الثورة او القائد) في المنهج التعليمي، او في محاسبة من كانوا بموقع المسؤلية الحزبية التي استخدمها البعض لتغطية فشله الدراسي، وأنتهت كلها عندما قررت مغادرة البلد وأختيار العيش في مكان يحفظ لي كرامتي وأنسانيتي.
يمر شريطا سريعا يحمل صور بعض الأشخاص الذين كانت لهم بصمة جميلة في حياتي (اترحم عليهم ان كانوا قد رحلوا، وأتمنى السعادة والصحة لهم ان كانوا على قيد الحياة) وأذكر منهم استاذي (عبد الكريم العطار – في متوسطة البتاوين) الذي كان متميزا بوقاره وثقافته التي كانت تتعدى مستوى تعليمه، وكان معروفا بأحترامه وتقديره للطلاب، والذي للأسف اقتيد يوما ب (سيارة خاصة) من الصف ولم نسمع عنه! اما في الجامعة، فيصعب عليّ نسيان واحدا من اروع وأشهر اساتذتنا وهو (د.جواد علي) الذي درسـّنا مادة (تأريخ العرب قبل الأسلام)، فلقد كان على درجة كبيرة من الأطلاع، وباحث دقيق وموضوعي ولم يكن منحازا او اسيرا للتأريخ!
لقد علمتني الحياة من تجاربها الحلوة والمرة درسا بليغا وجدته في حكمة اطلقها مرة الفيلسوف اليوناني- سقراط - حينما قال (اعرف نفسك)، وهذه اعتبرها قمة في الثقافة والأدب والتواضع ، وفي هذا السياق ، فأن بحثي عن الحقيقة والعلم كان دائما ما يقودني للتشرب من عيون الأدب العراقي والعربي والعالمي، وفي المقدمة منهم للراحل محمد مهدي الجواهري، الذي اسميه دائما ب – جوهرة الشعر العربي – اضافة الى قراءات في السياسة والأجتماع وحتى قصص المغامرات البوليسية التي استلذ بها وبعالمها الخرافي الساحر! اما نصفي الثاني فأنه يميل الى الرسم، بأختلاف ادواته (الزيتي ، الأكرلك، الألوان المائية والفحم) ففي لوحاتي احاول ان اترجم احلى ما تجود فيه روحي.
لي امنية شخصية أسعى لتحقيقها دائما وهي ان اعيش حياتي بسعادة وهدوء، وأن اكون بصحة جيدة، انا وزوجتي والأبناء والأحفاد وكل الناس ايضا، اما للوطن الغالي، فألخصها بأمنية كبيرة وهي ان يعيش بأمن وأمان وسلام، وأن يحسن الشعب اختيار قادته المخلصين، وأن يحقق الحرية والديمقراطية ويعرف كيف يحافظ عليها ، وأن يسعى لبناء الدولة المدنية العلمانية، ودون ذلك، انتم وأنا نشهد المأزق والمنزلق الخطير الذي اخذوا اليه الناس والبلد!
كمال يلدو
آب 2014
718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع