الزحف الإسمنتي على حدائق بغداد ..

نوري جاسم

الزحف الإسمنتي على حدائق بغداد ..

في السنوات الأخيرة، أصبحت مدينة بغداد مثالاً مؤلماً على التحولات العمرانية غير المتوازنة التي شهدتها العديد من المدن العربية، حيث تشهد العاصمة العراقية ما يمكن تسميته بـ"الزحف الإسمنتي" على حدائقها ومساحاتها الخضراء. هذه الظاهرة لا تمثل مجرد تغيّر في ملامح المدينة، بل تعبّر عن أزمة بيئية، اجتماعية، وثقافية عميقة تهدد التوازن الطبيعي والإنساني فيها،

وبدأت ملامح هذا التراجع تظهر تدريجيًا بعد العقود المضطربة التي مرت بها البلاد، حيث فقدت الدولة المركزية قوتها في فرض التنظيم العمراني، وتراجعت الضوابط القانونية التي كانت تحمي الحدائق العامة والبساتين والمساحات الخضراء داخل المدينة، ومع تنامي ظواهر العشوائيات، وارتفاع الطلب على السكن، بدأت المساحات الخضراء تتحول تدريجياً إلى مجمعات سكنية ومراكز تجارية وورش صناعية وحتى ساحات انتظار للسيارات، دون تخطيط بيئي أو حضري حقيقي، وكانت بغداد حتى منتصف القرن العشرين، معروفة بكثافة خضرتها وحدائقها الغنّاء، وكانت أشجار النخيل والبرتقال والصفصاف تنتشر على ضفاف دجلة، في مشهد يضفي على المدينة روحاً من الطمأنينة والجمال، أما اليوم فقد تقلصت هذه المساحات بشكل ملحوظ، فحدائق كانت متنفساً للأهالي مثل الزوراء وحديقة الأمة وغيرها، أصبحت ضيقة، مهملة، أو مهددة بالإزالة لصالح مشاريع استثمارية، والمشكلة لا تقتصر على الجوانب الجمالية فقط، بل تمتد إلى التأثير المباشر على الصحة العامة والمناخ المحلي، فالمساحات الخضراء تساهم في تنقية الهواء، وخفض درجات الحرارة، وتقليل نسب التلوث، وهو أمر حيوي في مدينة تعاني من كثافة سكانية عالية، وازدحام مروري خانق، وصيف قاسٍ تصل درجات الحرارة فيه إلى ما فوق الخمسين مئوية. ومع اختفاء الأشجار والمسطحات العشبية، أصبحت بغداد مدينة أسمنتية خانقة، تزداد فيها درجات الحرارة ومعدلات التلوث سنة بعد أخرى، مما يؤثر بشكل مباشر على صحة السكان، لا سيما الأطفال وكبار السن، ومن الجانب الاجتماعي، فإن ضياع الحدائق يمسّ جانباً من الحياة اليومية لسكان المدينة، ويفقدهم أماكن الراحة والتجمع والترفيه، خصوصاً في ظل انعدام البدائل الآمنة والمجانية. فغالبية العائلات البغدادية، وخصوصاً من الطبقة المتوسطة والفقيرة، كانت تجد في هذه الحدائق متنفساً حياتياً ووجدانياً، ومع تراجعها، تقلّصت أيضاً إمكانيات التلاقي والتفاعل المجتمعي،
والعوامل التي أدت إلى هذا الزحف متعددة، تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والفساد الإداري وسوء التخطيط الحضري، فالكثير من الأراضي التي كانت مصنفة كحدائق عامة أو بساتين زراعية تم تغيي جنسها القانوني بطريقة غير شرعية أو من خلال نفوذ المستثمرين، مقابل مبالغ مالية ضخمة أو بدافع "تنمية المدينة" وفق منظور سطحي يساوي بين التنمية والتوسع العمراني، دون اي اعتبار للبيئة أو الإنسان، ومن جانب آخر، تفتقر المؤسسات البلدية إلى الاستقلالية والكفاءة الكافية للحفاظ على هذه المساحات، في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية للتنمية المستدامة بل إن بعض الجهات الرسمية، في أحيان عديدة، شجعت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هذا الزحف، سواء عن طريق التجاوز على القوانين، أو عبر تهميش أهمية الحدائق في الخطط العمرانية، المؤلم في كل ذلك أن المجتمع البغدادي بات مستسلماً لهذا التغيير، وقد تكيّف مع واقع المدينة الرمادية، دون مقاومة فعلية أو حملات شعبية واسعة لحماية ما تبقى من خضرة بغداد، وحتى المبادرات البيئية التي تظهر بين حين وآخر، فإنها غالباً ما تكون محدودة أو رمزية، وتواجه عراقيل بيروقراطية وأمنية، وان عنلية إحياء بغداد الخضراء لا يمكن أن تتم من خلال قرارات عشوائية أو حملات مؤقتة، بل يحتاج إلى ثورة حقيقية في التخطيط الحضري، وإرادة سياسية صادقة تعترف بأن المدينة ليست فقط أبنية وشوارع، بل كائن حيّ يحتاج إلى التنفس والنمو بتوازن، ويجب إعادة النظر في المفهوم السائد عن الاستثمار، وتحديد ما إذا كانت ناطحات السحاب والمولات أهم من شجرة، أو إن كان الأسمنت أغلى من نهر، فبغداد ليست مجرد عاصمة، بل ذاكرة أمة، وحاضنة حضارة، وأي مساس بجمالها الأخضر هو طمس لهويتها وروحها، وما زال هناك وقت لإنقاذ ما تبقى من الحدائق والمساحات الخضراء، ولكن كل تأخير يعني اقتراب بغداد أكثر من أن تكون مدينة بلا ظل، ولا تنفس، ولا روح. وإذا ماتت الخضرة في بغداد، فهل يبقى فيها شيءٌ يستحق الحياة؟ وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

855 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع