الدكتور محمد صبحي العايدي
صراع الأديان (١): توظيف الدّين في معارك النفوذ والمصالح
في ظل التطورات المتسارعة التي تعصف في منطقتنا يظهر سؤال عميق حول جوهرية الصراع العربي والإسلامي من جهة والاحتلال الاسرائيلي من جهة أخرى، حيث أخذ هذا الصراع منذ بداية القرن العشرين أبعاداً دينية خطيرة، واستمر الصراع متدحرجاً حتى وصل إلى المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، والذي لم يهدد منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل العالم بأسره، وكأن الدين هو المحرك لصراعات الشرق الأوسط، ولكن الحقيقة أكثر تعقيداً من صراع بين الأديان، حيث يعدّ الصراع الإيراني الإسرائيلي من أبرز النماذج على خطورة توظيف الدين في معارك النفوذ والمصالح.
لا يخفى أن الإسلام لا يؤسس لصراع مع الآخر على أساس الدين، فحرية الدين مكفولة ومصانة بنصوص القرآن الكريم بشكل قطعي وواضح، والقتال في الإسلام مشروع ضد الظلم والاعتداء، وليس لمجرد المخالفة في الدين، ولو تأملنا خطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف لوجدناه يتقن اللعب على وتر الدين، ويقدم نفسه للعالم كدولة يهودية تواجه خطراً وجودياً، من "عرب ومسلمين متطرفين" يريدون القضاء على دولتهم لأنها فقط يهودية، الخطاب الصهيوني استطاع أن يحول القضية محلياً وعالمياً من كونها قضية احتلال مجرّم حقوقياً وأنسانياً، إلى قضية صراع ديني وجودي، من أجل الدفاع عن النفس في ظل التهديدات المحيطة به.
والشاهد على ذلك كتاب نتنياهو الشهير: "مكان تحت الشمس" الذي يكشف بوضوح هذا التصور، حيث يربط بين البقاء اليهودي في فلسطين، وبين السرديات التوراتية عن "أرض الميعاد"، و"المعركة المقدسة"، فيصورها على أنها مسألة دينية، يقصد منها الحفاظ على الهوية اليهودية المهددة وجودياً، مستنداً إلى الوعد الإلهي الذي لابد من المضي به إلى النهاية، مهما كانت النتائج والعواقب، والذي يعطيه الحق المطلق في إقامة دولتهم الكبرى من النهر إلى البحر، وقتل وإبادة كل من وقف في وجه مشروعهم التوراتي.
وفي المقابل نجد الخطاب الإيراني بنزعته الشعبوية، يوظف الدّين من أجل التمدد الفارسي في المنطقة، ويغلف الصراع بلغة طائفية وشعارات دينية، مع أن الصراع في جوهره هو معركة نفوذ إقليمي، حيث تتخذ إيران من القضية الفلسطينية مظلة لخطابها السياسي والتحشيد الجماهيري، وفي نفس الوقت تمارس براغماتية واضحة، فهي تتحرك ضمن مصالحها وأهدافها التوسعية في المنطقة، وليس من منطلق التزامها الديني بالقضية الفلسطينية.
للأسف أن بعض الخطابات الإسلامية تسقط في الفخ نفسه حين يتم الترويج لفكرة أن المعركة مع اليهود "معركة وجودية " أو"معركة دينية" فإنهم بذلك يعيدون إنتاج الرواية الصهيونية ذاتها، ويمنحونها مسوغاً للاستمرار والبقاء القوة.
لا يخفى أن تيارات الإسلام السياسي استثمرت وجود الاحتلال الصهيوني الظالم للأرض الفلسطينية، من أجل تمرير أجندتهم الخاصة وأفكارهم المتطرفة، وكسب تأييد جماهيري كبير مبنيّ على رواية "الحرب الدينية" وتعبئة الوعي الجمعي العربي والإسلامي بهذا المنطق، حيث أن هذا الفكر أوجد حالة من التوتر المتصاعد لدى الجماعات المتطرفة، وخلق حالة في الوعي الجمعي على أن العداء مع الكيان الإسرائيلي هو عداء ديني، وليس عداء من أجل استرداد الحقوق ورفع الظلم عن الشعب الفلسطيني.
فالمطلوب منا اليوم أفراداً وجماعات أن نكون أكثر وعياً، وأدق في استخدام لغة خطاب متوازنة تعيد تعريف معركتنا مع الاحتلال بوصفها معركة حقوقية إنسانية ضد الظلم والعدوان، لا حرب أديان.
يجب أن لا نجعل من أنفسنا " الضلع الثالث" الذي يسوغ لعبة الصراع الديني بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، فحين نحول الصراع مع الاحتلال إلى صراع ديني وجودي، ونصنع "عدواً دينياً" فنحن نكون بذلك سوغنا الرواية الصهيونية، وساهمنا في تعزيز الغلو اليميني المتطرف.
وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي يستثمر في الخطاب الإسلامي من أجل إقناع العالم بمخاوفه، وتثبيت جمهوره على الأرض، وإذا كانت أيران توظف القضية الفلسطينية لخدمة أجندتها الإقليمية، فإن واجبنا أن نخرج من هذه الدوامة، ونؤسس لخطاب عقلاني إنساني أخلاقي حقوقي، يعيد الاعتبار للحقوق الفلسطينية باعتبارها قضية احتلال ظالم مدعوم من قوى استكبار عالمية ضد شعب أعزل مظلوم، هذا الخطاب سيجرد الاحتلال الصهيوني من نقاط القوة التي يستند إليها في تسويغ حربه الوحشية الدينية على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، ويكون خطاباً مقنعاً بأحقية الشعب الفلسطني في البقاء على أرضه، وإقامة دولته الفلسطينية على ترابه الفلسطيني، بعيداً عن أوهام الصراع الديني المفتعل، فإن معركتنا ليست مع دين، بل مع ظلم واعتداء.
849 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع