ذكريات عن الحركة الكشفية في العراق
نجدة فتحي صفوة/ مؤرخ ومترجم*
(الكشافة) نظام شبه عسكري للفتيان والفتيات يهدف الى غرس روح النظام والطاعة، ومساعدة الغير، والاعتماد على النفس، ونجدة الضعيف والعاجز، وحب الوطن والدفاع عن حياضه، اسسه رجل انكليزي اسمه "السر روبرت بادن ـ باول".
اما في العراق فيعود ابتداء حركة (الكشافة) الى اواخر عهد الدولة العثمانية التي كانت قد ادخلت هذا النظام على مدارسها اقتداء بحلفائها الالمان، واودعت امرها الى ضابط من الجيش التركي، تحت اشراف كولونيل الماني يدعى "فون هوف". واول فرقة كشافية في العراق كانت فرقة "المدرسة السلطانية" ببغداد التي تشكلت في عام 1915، الا انها اهملت واختفت خلال الحرب العالمية الاولى دون ان يكون لها اثر كبير.
وبعد الاحتلال البريطاني تولى شؤون المعارف (التربية) في العراق انكليزي اسمه المستر (غاربت) الذي كان بنفس الوقت "ناظر للمالية". وفي سنة 1918 دعا "غاربت" مديري المدارس الرسمية والاهلية في بغداد وفاتحهم في موضوع تشكيل فرق الكشافة، في مدارس العراق، ثم عهد الى بعض افراد الجيش البريطاني ممن سبق لهم العمل في منظمات الكشافة، بتشكيل بعض الفرق في العاصمة بمساعدة بعض المعلمين الوطنيين، فتشكلت فرق كشافية، منتظمة في مدارس البارودية والحيدرية والفضف وباب الشيخ والكرخ ورأس القرية والكردان الاهلية، وارتبطت كشافة العراق بمقر "الكشاف البريطاني لما وراء البحار" في لندن.
وخلف "غاربت" في ادارة (المعارف) بريطاني آخر هو "الميجر بومن" الذي استقدم من مصر، وكان يعمل في (وزارة المعارف) المصرية منذ سنوات عديدة (وله كتاب بعنوان "نافذة على الشرق الاوسط" يتضمن مذكراته في فلسطين ومصر والعراق) وواصل "بومن" ما بدأه سلفه من نشر نظام "الكشافة". وفي سنة 1919 دعا بعض اعيان البلد، وكلفهم بتشكيل جمعية لمساعدة الكشاف العراقي، فعقد الحاضرون اجتماعا وانتخبوا هيئة ادارية مؤلفة من الساد: ابراهيم الراوي (اللواء الركن فيما بعد) وفخر الدين آل جميل (رئيس مجلس النواب فيما بعد) وعبد الجبار خياط (مدير الزراعة العام فيما بعد)، وداود فتو، وكريكور اسنكندريان، كما انتخب "الميجر بومن" رئيسا فخريا للجميعة، فعقدت بضعة اجتماعات وسعت في جمع التبرعات لنظام الكشافة، ولكن هذه الجمعية لم يطل عمرها، بل تفرقت بعد مدة قصيرة.
وبعد تشكيل الحكم الاهلي في العراق تولى ادارة (المعارف) الاستاذ ساطع الحصري، فأعاد تنظيم التعليم في العراق على اسس جديدة تقوم على المبادئ التربوية الحديثة من جهة، وتوجيه الناشئة توجيها وطنيا وقوميا من جهة اخرى، وكان بين الامور التي اولاها عناية نظام الكشافة. فقد شجع الحركة الكشافية تشجيعا كبيرا، واصبح سكرتيرا فخريا لجمعية الكشاف العراقي، وجعلها جمعية عراقية مستقلة عن "مقر الكشافة البريطاني"، واسس في (وزارة المعارف) مديرية سميت "مديرية التربية البدنية والكشافية" وعين المرحوم جميل الراوي مفتشاً للكشافة، وكان قد انتدب لبث فكرة الكشافة من الالوية (المحافظات) فقام بتأسيس فرقة كشافية في الموصل وكركوك والبصرة والعمارة والناصرية، وبلغ مجموع فرق الكشافة العراقية 62 فرقة، وانتشرت الحركة في مدارس العراق انتشارا واسعا، وبلغ عدد المنتمين اليها بين سنتي 1930-1931 حوالي اثني عشر الف كشاف، وهو عدد كبير بالنسبة الى عدد طلاب المدارس في العراق في تلك السنوات.
وتبنت جمعية الكشاف العراقي نشيدا خاصا لا يحضرني اسم ناظمه في الوقت الحاضر، ولعله كان الرصافي، ولكن الحانة لا تزال ترن في اذني لكثرة ما كان ينشد في المدارس في الثلاثينيات، ويتردد على لسان كل تلميذ في المدارس والشوارع والبيوت، وهو يبدأ بالبيتين الآتيين:
نحن كشافو العراق
خير ركن للوطن
تحت ظل الحق نمشي
لا نبالي بالمحن
وقد شجع انتشار حركة الكشافة في العراق. وما لقيته من دعم وتشجيع، على اصدار مجلة ثقافية مدرسية اسمها (الكشاف العراقي)، وكان مدير شؤونها (المحامي) محمود نديم اسماعيل (الذي كان في ذلك الوقت مدرسا في دار المعلمين). وقد صدر العدد الاول من هذه المجلة في حزيران سنة 1924، وتوجد مجموعة منها في (المكتبة الوطنية) ببغداد، وآخر اعدادها الموجودة هو العدد الصادر في شباط 1927، وكانت تصدر مرتين في الاسبوع، وقيمت النسخة الواحدة منها 4 آنات، اي حوالي 16 فلسا، وقد وصفت المجلة نفسها بأنها "مجلة علمية ادبية تهذيبية تحتوي على كل ما يهم الكشاف معرفته من المواد العلمية والعملية"، كما وصفت غايتها بأنها "نشر حركة الكشافة ومساعدة نهضتها في العراق"، وكانت ادارتها في (دار المعلمين) ببغداد.
ويظهر من تصفح اعداد هذه المجلة، وهي نادرة جدا، انها تحتوي على مقالات قصيرة عن حركة الكشافة في العالم وفي العراق ومعلومات عن المخيمات والرحلات التي تقوم بها بعض الفرق الكشافية داخل العراق وخارجه، فقد قامت بعض الفرق برحلات الى سورية وفلسطين ومصر، وفي المجلة عدد من القصائد الوطنية، بينها قصيدة عنوانها (سوائح كشاف) لشاعر شاب اسمه (مصطفى جواد الدلتاوي) ـ العريف البحري الجوال سابقا بدار المعلمين وهو الدكتور مصطفى جواد اللغوي والمؤرخ المعروف فيما بعد، ومن ابياتها
امن السعادة ان اكون جمادا
واروم من هذي الحياة رقادا
لا، ما خلقت لان اكون مقيدا
والى احافير الردى منقادا
ومنها:
سميت كشافا واني مصلح
نقص الحياة، وناشرا ارشادا
روحي تعودت اللطافة والعلى
وعلى ربي بالفضيلة جادا
وقد نشرت هذه القصيدة في العدد السادس من المجلد الاول، الصادر في تشرين الثاني 1924.
وقد استمرت حركة الكشافة في العراق نشيطة حتى اواسط الثلاثينيات وفي سنة 1936 استبدل بها (نظام الفتوة) الذي وضعه الدكتور سامي شوكة، وكان مديرا عاما فوزيرا للمعارف، واصبح هذا النظام شاملا لجميع المدارس العراقية على اختلاف مستوياتها، وكذلك موظفي (وزارة المعارف)، وكان نظاما عسكريا له درجات، وزي عسكري، ورتب وشارات، وكان شعاره الحديث النبوي الشريف: "اخشوشنوا فان الترف يزيل النعم".
وبقي (نظام الفتوة) معمولا به الى سنة 1941 وقيام "حركة مايس" في تلك السنة. ولما عاد النفوذ البريطاني الى العراق قويا بعد فشل الحركة، وسيطر على (وزارة المعارف) خلال سني الحرب العالمية الثانية خبراء بريطانيون (هملي وسكيف وغيرهما) الغي نظام الفتوة الذي اعتبره شبيها بمنظمات الشبيبة الفاشيستية والنازية، في ايطاليا والمانيا وغيرهما، وهو في الحقيقة لم يكن كذلك، وانما كان نظاما يهدف الى غرس الروح العسكرية والقومية، ومبادئ الوحدة العربية في نفوس الناشئة وذلك لم يرق للانكليز في تلك الفترة، وكان مناقضا لسياستهم التعليمية ومصالحهم، وخاصة في ظروف الحرب.
وهكذا الغي (نظام الفتوة) ونسيه الناس او كادوا، كما نسوا من قبل (نظام الكشافة) .
عن كتاب (احاديث في التاريخ)
677 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع