زينب..فنانة الشعب السيرة الاجتماعية والفنية للفنانة العراقية (زينب)
المقدمة
[سنحدث الناس عنك , كل الناس, فسيعرفك كل العراق بكل اطيافه ..... سيبقى اسمك رمزاً للمسرح الهادف الحرُ وفنك شجرة وارفة حيّة في قلوب العراقيين] ..
هذه الاسطر القليلة كتبت على لافتة حملها المعجبون المشيعون لجنازة الفنانة الكبيرة (زينب) وقد لفت بالعلم العراقي الوطني لعام/1958 (علم العهد الجمهوري الاول بعد ثورة 14 تموز / 1958 وزعيمها الراحل عبد الكريم قاسم ودّعها المغتربون العراقيون في السويد, وبعض الاصدقاء من المعجبين من ذلك البلد الى مثواها الأخير في بلاد الغربة, لتستقر هناك صامتة الى الأبد بعد طول عناء وكفاح مرير .هذه العبارة التي تصدرت المسيرة الحزينة استهوتني وتفاعلت معها روحياً وضميرياً .
فقررت مع نفسي ان أكون مع العدد او الجمع الذي كتب عن الفنانة الراحلة, باذلاً جهداً صادقاً ومخلصاً لتسليط الضوء الساطع على حياتها الخاصة والفنية كي يعرفها الناس كفنانة شعبية اصيلة.
زينب فنانة الشعب بامتياز, وهو لقب نالته باقتدار كتقويم لأعمالها الفنية التي قدمتها خلال سني حياتها, وقد اشتركت بهذا اللقب مع زميل دربها الفني المخرج الراحل – خليل شوقي- فنان الشعب.
زينب تلك الفنانة والمناضلة الكبيرة (الوطنية) التي اوقفت حياتها وفنها لخدمة قضية الشعب والوطن, منذ صباها حتى آخر يوم في حياتها المليئة بالعطاء على الرغم من كل المصاعب والظروف القاسية التي جابهتها ... من تشريد واختفاء واغتراب عن ارض الوطن .. واخيراً ذلك المرض الخبيث الذي خطفها منا. كانت تقارع المرض دون ان يقعدها عن مواصلة النضال يوماً واحداً, ولأنها ... فنانة مثقفة واعية تحب الوطن ... وتخدم الانسانية ... وناضلت في سبيل حرية الانسان وساهمت في مسيرة الحركة الوطنية التي عرضّتها الى الجور والظلم ... وقدمت لمحات فنية رائعة من اعمال مسرحية وسينمائية, كان لابد للقلم الشريف الوطني والمخلص ان يكتب عن حياتها وفنها ويقدمها للجمهور الذي قد لا يعرف عنها الا القليل, وقد يجهلها الجيل الحاضر, ونعيد ذكراها الى الجيل الذي عاصرها وشاهد فنها مباشرة..
زينب تلك الطاقة الابداعية المتفجرة بألوان قوس قزح بعد مطر ندي. ان الاعلام العراقي السابق همشها ولم يبرز نشاطها الفني, وهي سيدة المسرح والسينما دون منازع, وحالها هذا كحال بقية الفنانات الاخريات:
- ناهدة الرماح/ سليمة خضير/ غزوة الخالدي/ وداد سالم ... وغيرهن.
في هذا البحث او (الكتاب) سنتناول حياتها مفصلاً, وهي مساهمة متواضعة نقدمها الى روح الفنانة المحبوبة الغالية, والذي ارجو ان لا تغيب عن ذاكرة اهلها العراقيين.
ان البحث في حياة الفنانة –زينب- وتدقيقها يستوجبان اكثر من هذه الوقفة والسطور, انها حياة متفاعلة اجتماعياً وسياسياً وفكرياً.
سيتضمن الكتاب:-
المرور على حياتها الاجتماعية, ولادتها دراستها زواجها.. ثم نتكلم عن دخولها الفن .. وماذا كان يعني لها –ولماذا اختارته حصرياً؟ ثم نتناول اعمالها الفنية: مسرحياً وسينمائياً... ثم معناتاها مع السلطة السياسية السابقة وخروجها من ارض العراق الى بلاد الغربة, كما نذكر مساهمتها في تأسيس فرق عراقية فنية خارج العراق .
واخيراً نأتي الى معاناتها مع المرض الذي توفيت به, وتشييعها من قبل الجالية العراقية في السويد والاصدقاء والمعجبين .
ثم نأتي على كلمة الختام.
ونحب ان نشير الى الصعوبات التي واجهتني عندما عزمت على تأليف الكتاب وهي تنحصر, كما في المرات السابقة, الى ندرة المصادر والمراجع التي ينهل منها البحث, لكن تمكنا بعون الله تعالى ان نجتاز هذه الصعوبة, وهيأ لنا بعض الاصدقاء ما يفيد البحث, حتى استطعنا انجاز الكتاب. نرجو ان يلاقي الرضا والقبول.
وشكراً المؤلف بغداد/ 2017
الفصل الاول
الولادة ... البداية
ولدت ... فخرية عبد الكريم [وهو اسمها الحقيقي] في محافظة واسط لواء الكوت عام/1931 "وسط عائلة كبيرة يعيلها موظف حكومي يعمل –مدير زراعة الكوت- وهي عائلة وطنية عرفت في مقارعتها الظلم والتعسف والاستعمار , وكان بحكم عمله يتنقل بين محافظات العراق الجنوبية, صاحباً معه عائلته, فسكنت العائلة اولاً: الناصرية, ثم العمارة ... واخيراً استقرت في بغداد.
في مدينة الناصرية –مدينة الفن والسياسة والأدب, نشأت وترعرعت وعُرفت افكارها السياسية [الشيوعية] من أحد اشقائها الذي كان منتمياً الى الحزب الشيوعي العراقي. وكذلك من اخيها الآخر المنتمي الى حزب الاستقلال. اما والدها فكان بعيداً عن السياسة, إذ غلب عليه طابع التدين وممارسة الطقوس الدينية, فكان رجلاً متسامحاً لا يختلط مع أحد.
اكملت دراساتها الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في مدينة الكوت, ثم رحلت مع عائلتها الى بغداد لتدخل كلية الآداب جامعة بغداد قسم اللغة العربية للعام الدراسي: 1948 – 1949 .
اثناء دراستها الجامعية تعرفت على زميل لها في الكلية يدعى (نوري اكبر) فتزوجته لفترة قصيرة ثم حدث انفصال بينهما. بعد ذلك عملت مدرسة بعد تخرجها وحصولها شهادة البكالوريوس (لغة عربية) بدرجة عالية في إحدى مدارس لواء (الحلة).
تزوجت ثانية من الفنان (لطيف صالح) مخرج ومصور. في بداية السبعينات, ومن كلا الزيجتين لم ترزق بأي طفل ولأنها تحب الاطفال فقد ربت بنت اختها واهتمت بها وعاشت معها في بيتها.
كانت تسعد عندما ينادوها بـ [أم تأميم], وصار بيتهم ملتقى الأحبة وحاملي الفكر الماركسي [اي الافكار الثورية اليسارية] إضافة الى نجوم المسرح وعشاقه وبعض الفنانين الآخرين والأدباء والشعراء ونخبة من المثقفين, وكانت تجرى حوارات ونقاشات كثيرة بين هذا الجمع, وكانت تريد للمسرح ان يكون نبراساً مشعاً وألقاً ينشر المحبة ويقارع اللاإنسانية والبربرية, لقد قدم لها زوجها الفنان [لطيف صالح] كثير من الأعمال الناجحة والمميزة واستمرا معاً في حياتهما الزوجية حتى ساعة رحيلها عام 1998، أثر اصابتها بمرض السرطان ، فكان يكن لها الحب والاخلاص وعاش معها في معاناتها من المرض، فوقف معها وأخذ يرافقها لعيادات الأطباء والمستشفيات لإجراء التحاليل المختبرية الشهرية ، والفحص الدقيق .. فكان نعم الزوج والرفيق .لم تكن الفنانة (فخرية عبد الكريم) عاملة في حقل التمثيل فقط ، بل كانت مناضلة ومكافحة للظلم ومعارضة نشطة ضد السيطرة الاستعمارية والسلطة الرجعية الحاكمة السائرة في ركاب سلطة الاحتلال البريطاني, وناشدة الحرية لشعبها العراقي المظلوم. كانت تكره الظلم وتقييد الحريات بأنواعها المختلفة. لذا قررت ان تدخل الحياة السياسية عام/ 1948, حيث يمثل هذا العام تشريد الشعب الفلسطيني من قبل الصهاينة وقرار تقسيم فلسطين ودخول الجيوش العربية لمحاربة الكيان الصهيوني [شكلياً] كذلك نراها قد ساهمت بشكل فاعل في المظاهرات الجماهيرية التي نددت بمعاهدة [بورت سموث] المعقودة بين الحكومة العراقية [صالح جبر – رئيس وزراء العراق آنذاك] وبريطانيا, وقدم الشعب العراقي فيها شهداء بررة .
وعرفت هذه الموقعة بـ [وثبة كانون] 1948.
ان المظاهرات الجماهيرية الصاحبة ظلت مستمرة, حتى افشلت المعاهدة, وكانت القوى الوطنية والديمقراطية التقدمية هي القائدة لهذه المظاهرات.
في العام/1950 انتمت الى تنظيم الحزب الشيوعي العراقي رسمياً, متأثرة بأفكاره التقدمية والديمقراطية, حيث عاشت في محيط عائلي يتسم بالوطنية والشيوعية.
فكان شقيقها هو معلمها الاول الذي كان يلقي عليها دروساً عن افكار ومبادئ الحزب الشيوعي, وقد اعجبتها تلك الافكار الثورية وشعار الحزب الخالد.
وطن حر وشعب سعيد
لقد أيّدت هذه الافكار والمبادئ بصدق واخلاص, بعد ان اصبحت واحدة من جيش الحزب الشيوعي الثوري.
عملت على نشر افكاره ومبادئه بين النساء, وسرعان ما التفت نسوة كثيرات حول السيدة [فخرية] وهي تشرح وتوضح لهن بأسلوب مبسط نظرية الحزب.
كانت ديناميكية الحركة, فكان نشاطها السياسي الثوري جزءاً من نشاط الحزب الشيوعي العراقي, الذي كان في ذلك الوقت يتبنى المواقف الوطنية الديمقراطية, وهو يمثل الحركة الوطنية العراقية المناهضة لسياسة النظام الملكي الرجعية والتي يديرها رئيس الوزراء [نوري السعيد] حينذاك.
ذهبت وهي بسن صغير الى سجن الكوت, بعد ان اندلعت مظاهرة جماهيرية كبيرة في العام/ 1948 وقد اشتركت في هذه المظاهرة التي تطالب بإطلاق سراح السجناء السياسيين, وقد رفعتها الجماهيرية الكبيرة على الاكتاف, ثم زارت بعد ذلك الرفيق [فهد] مؤسس الحزب الشيوعي العراقي في سجنه, وقال لها:-
[لا فض فوك يا ابنة الرافدين]
لقد كان تأثير هذه الجملة على المناضلة [فخرية] كبيراً واعتزت بها واعتبرتها وساماً فوق صدرها لأنها صدرت من مناضل كبير قدر موقفها وشجاعتها وانها تمثل ابنة العراق, وكانت لها ايضاً حافزاً لتحمل الراية الحمراء وتنتصر لكل من لا حول له ولا قوة.
لقد كانت الرفيقة [فخرية عبد الكريم] صوتاً مدوياً في وجه السلطة الحاكمة. لقد كان عام/ 1952 حافلاً بالأحداث المهمة في حياتها. فقد عينت مدرسة في مدرسة [الكوت] وزاد نشاطها السياسي ومتابعتها للأحداث السياسية الجارية في البلاد... وبسبب هذا النشاط تعرضت الى الكثير من المضايقات والمراقبة البوليسية, فأخذت تنتقل الى العديد من محافظات العراق هرباً من عيون وملاحقة الشرطة السرية, حتى وفدت مدينة الهادي, فكانت محطتها الاخيرة قبل بغداد. في هذه المدينة قدمت اول اعمالها الفنية وهي مسرحية [زواج بالإكراه] من تأليفها واخراجها, مثلتها مع نخبة من طالبات المدرسة وبعض المعلمات, وقد تصدت هذه المسرحية لظاهرة مهمة في المجتمع العراقي الذي خيّم عليه الجهل والتخلف والمرض والفقر وأثارت حفيظة السلطة الحاكمة, حيث اعتبروها محرضة للنساء على العادات والتقاليد السائدة, فأخذوا يتساءلون .... من هذه؟ التي اثارت البلبلة [حسب رأيهم]. فتعرضت بسببها الى القذف والتشهير وأبعدت عن مدينة الرمادي منفية الى ناحية -الشطرة- في محافظة ذي قار –ناصرية- .
وفي عام/ 1954 فُصلت من وظيفتها بسبب نشاطها السياسي, في اثناء الحملة الشرسة التي شنها النظام الحاكم آنذاك. وشملت هذه الحملة اكثر كوادر الحزب التقدمية وبعض العناصر الوطنية المتعاطفة مع الشيوعيين. وبالنسبة الى المسرحية, فقد حققت نجاحاً فنياً كبيراً وضجة اعلامية واسعة, وذهب ريع المسرحية الى الطالبات الفقيرات في المدرسة. بعد ان فُصلت من وظيفتها, لازمت البيت وأخذت تطالع النشرات والكتب الماركسية, فقرأت كتاب [رأس المال] لكارل ماركس, والبيان الشيوعي, لذات المؤلف انجلز.... ومجلدات لينين] مثل: ما العمل؟ ومرض الشيوعية الطفولي وأدبيات الحزب الشيوعي العراقي وغيرها.... وما زالت مستمرة في عملها السياسي وحضورها اللقاءات والاجتماعات الحزبية التي تعقد بين حين وآخر, ولم يحد الفصل من عملها الوظيفي على نشاطها الثقافي والسياسي, ولم تستلم للبطالة والكسل, بل وجدت او اعتبرت هذه الفترة فرصة جيدة لتغذية فكرها وتنشيطه, كانت تقرأ بنهم..... وتشارك في المظاهرات الجماهيرية كالمظاهرة الكبيرة التي جرت في العام/ 1956 التي نددت بالعدوان الثلاثي على مصر، وتطالب الحكومة العراقية الوقوف إلى جانب مصر ضد العدوان.
في العام 1958 حدثت ثورة 14 تموز واسقطت الملكية واعلنت الجمهورية, وكانت المناضلة [فخرية] يومها في مدينة الحلة وسمعت نبأ الثورة من المذياع, فغمرها الفرح وانطلقت مسرعة الى الشارع وخلعت عباءتها السوداء ووقفت من احد مراكز الشرطة وصادف وجود أحد باعة [الشلغم] ولظرافتها المعهودة وفرحها بانتصار الثورة, أخذت قبعة أحد رجال الشرطة ووضعتها على رأسها واعتلت عربة بائع الشلغم وهتفت للثورة ولقائدها الزعيم [عبد الكريم قاسم]. لقد حولت العربة الى خشبة مسرح وهي تهتف بسقوط النظام الرجعي الملكي وبحياة الزعيم [عبد الكريم قاسم] والناس الثائرة من حولها يرددون نفس الهتاف الثوري, فكان يوماً سعيداً في حياتها السياسية. ولكن هل تستمر في سعادتها بعد هذا...؟ ذلك ما سنراه في الصفحات القادمة. استمرت الهتافات وخروج ابناء الشعب الى الشوارع, في جميع محافظات العراق وهي ترقص فرحاً بانتصار إرادة الشعب, هذه الهتافات التي استمرت الى ساعات طويلة تحت دوي النشيد الثوري العربي [الله اكبر... فوق كيد المعتدي] والبيانات لحكومة الثورة الجديدة وهي تعلن القبض على الرؤوس الفاسدة, مع تكرار قراءة البيان الاول للثورة, اعلن الشعب العراقي بأجمعه تأييده الكامل للثورة واهدافها النبيلة. بعد نجاح الثورة واستقرارها داخلياً, حظيت باعتراف الدول الاجنبية, فقامت حكومة الثورة الوطنية بتقديم الخدمات الكبيرة للشعب العراقي, فأنجزت العديد من الاعمال في مجال السياسة والاقتصاد والزراعة وتنظيم المجتمع على اسس ثورية وشرعت قوانين اجتماعية مهمة من ضمنها:
إعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم. وبموجب هذا القرار عادت المناضلة [فخرية عبد الكريم] الى عملها الوظيفي كمدرسة... فانتقلت الى بغداد بعد ان أعيدت خدماتها الوظيفية, فمارست عملها في مدرسة ثانوية الرشيد للبنات الكائنة في منطقة [العيواضية] فأخذت تدرس اللغة العربية, وحازت على حب المدرسات والطالبات على حد سواء, لما تملكه من اخلاق راقية وشخصية محبوبة وقوية تفرض احترامها على الجميع, وقد اخبرتني احدى الطالبات في المدرسة:
إننا [اي الطالبات] كنا نحب الست فخرية ونفرح كثيراً عندما تدخل الصف, تعلوها الابتسامة الجميلة ومشيتها الرائعة المتزنة في قوام رشيق متناسق, وعيون واسعة سوداء ذو اهداب طويلة وحاجبان رفيعان, وكانت انيقة في مظهرها تختار الالوان والموديل ما يناسب عمرها ومركزها التربوي كمدرسة, واضافت الطالبة بعد وصف السيدة [فخرية] بأنها كانت امرأة ذكية ولبقة في الكلام وتشرح المادة بطريقة علمية واضحة مع التبسيط وكنا نفهم منها كل شيء نقوله, ولم يظهر انها تشتغل بالسياسة, لانها كانت في اثناء عملها التدريسي لا تتطرق الى النواحي السياسية, لا من قريب ولا من بعيد, مع العلم اننا نعرف ماضيها السياسي, وانا شخصياً عندما تمكنت من الاقتراب اليها بعد نهاية مسرحية [النخلة والجيران] التي عُرضت على مسرح بغداد والتي كانت بطلتها حيث ادتها بنجاح مدهش وتلقائية, دفعني اعجابي بها ان القي عليها السلام والتحية, فردت عليَّ بكلام مهذب ولطيف وبلهجة شعبية محببة, وصوت جميل, رقيق, عذب, وابتسامتها فوق شفتيها الدقيقتين: [هلو عيوني... الله يخليك] ... لم انس هذا اليوم المهم الذي حظيت به وشهدتها عن قرب فكم فرحت.... بعد ذلك غادرت السيدة [فخرية] مكان المسرح والجمهور يودعها بعاصفة من التصفيق والاعجاب, وهي ترد عليهم بيدها مودعتهم كم أنتِ بسيطة ومتواضعة ايتها الراحلة الكبيرة, لا يمكن لغيرك ان يحل مكانك.. فأنتِ في القلب وفي الذاكرة.
تقول السيدة فخرية عبد الكريم: [في البداية وانا في خضم العناء الروحي والشتات النفسي وتغلب نزعاتي القوية بين كتابة الشعر والقصة والرواية, اتجهت ولكن برؤية واضحة نحو المسرح... هذا العالم الصاخب, عالم الخشية المسحورة والتي شدتني بعمق الى ذراتها المتماسكة لأكوّن جزءاً منها, لصيقة بها, لان هذا المكان يشكل انسجاماً متناغماً مع انفاسي لأقول كلمتي الصادقة]. وعن حياتها ومحيطها الذي نشأت فيه, تتحدث قائلة:
[بدأ احساسي بالحياة الحقيقية... عندما كنت طفلة في المدرسة الابتدائية ايام الحرب العالمية الثانية, كنت أرى قنابل الانكليز تحرق الاخضر واليابس في مدينة (الناصرية).... من معسكرات الجيش الى الشوارع في المدينة, كنت أرى جموع الناس تهرب من نيران التهديد والتخريب الى الحقول والى الريف هرباً من القصف الجوي.... لكننا بقينا في المدينة لم نهرب, رفض الوالد الهرب, قائلاً ليكن ما يكون... وقتها شاهدت المجاعة ماذا تفعل... وكيف جاء أحد الفلاحين ليبيع أبنته الجميلة بدينارين ومن هنا تيقظت انسانيتي, وعندما لفني تيار الحركة الوطنية وأنا في سن السابعة عشر من العمر, لم يكن غريباً عليَّ ان اسير في خضم التيار الوطني الغاضب, فقد عشت فصول مأساة مرة منذ طفولتي وذقت طعم الجوع والحرمان ورأيت صنوف العدوان على ابناء شعبي... وعندما اكملت دراستي الثانوية ودخلت الجامعة وتخرجت منها لم أعش في الوظيفة سوى سنتين دراسيتين, ثم فصلت, وكان مجموع ما تعرضت له من الفصل السياسي نحو (11) سنة. ان الحركة الوطنية امدتني بالفعل الحقيقي لحياة انسان وعلمتني كيف احقق انسان].
مارست السيدة [فخرية عبد الكريم] الكتابة اولاً ثم القصة القصيرة والشعر ونشرتها في الصحف والمجلات الوطنية بأسماء مستعارة منها [زينب] وسميرة الفقراء, ولم تستطع جمعها في كتاب واحد, وبعدها كتبت التمثيلية الاذاعية والفت للتلفزيون اربع تمثيليات (منعتها الرقابة من العرض) ولاطلاع القارئ الكريم على مقدرة السيدة [فخرية] في كتابة الشعر ننشرها باعتبارها وثيقة تكشف عن موهبة اخرى وقد وجهتها الى الاستاذ [فخري كريم] لما كان بين الاثنين من روابط صداقة ونضال في سبيل حرية الشعب العراقي:
تحية رفاقية ... وبعدُ
ابا النبل ما تعني بحجزي رهينة؟
بزنزانة ... وحدي ... بلا اسم , ولا رقم
اموت بها حيناً لأحيا هنيهه
ومن ثم اسجي النفس في نومة غم
فلا الأكل يعنيني ولا الفرش جيداً
ولكن بما هو قد يرقى لفكري ومن همي
على مسرح حرُ شريف يضمني
مع صحية في البعد في الفكر والدم
لنحكي ما في القلب من جور غادر
تمادى بطغيان وشر الظالم
هناك حياتي لا اريد بديلها
خذوني اليها ذلكم هو مضمني
وفي القلب آيات من الشكر تنطوي
على حب قلب مخلص مترنم
مع وافر الاعتزاز
زينب
5/11/1989
لقد كانت السيدة [فخرية] فنانة بالفطرة, فهي لم تدخل معهدا او كلية فنية متخصصة, بل كانت روحها واحاسيسها رومانسية, احبت فن التمثيل وعشقته وفضلته على عملها الوظيفي. كانت تخزن طاقة فنية كبيرة وتفكر في طريقة اظهار هذه الطاقة الى العلن, وكانت لها رغبة جامحة في ممارسة التمثيل, برغم ان الوضع الاجتماعي والثقافي في العراق لم يكن يسمح بأن تلعب المرأة العراقية دورها في المسرح والسينما لذلك عندما نشأت السينما العراقية في الاربعينات كانت تستعين بالمطربات العاملات في الملاهي لكي يلعبن ادواراً درامياً في السينما, وكان المسرح في بدايته هو مكان للتسلية في الملاهي الليلية وبعض منصات دور السينما, وكانت النساء اللواتي يلعبن ادواراً في تلك المسارح يعطين سمة للمسرح غير مقبولة لدى المجتمع العراقي, وكان العمل النسوي في المسرح يعطي فكرة غير لائقة في الحياة الاجتماعية العراقية, لذلك كانت الفرق المسرحية العراقية في بدايتها تعمل على تقديم المسرحيات التي تخلو من العنصر النسائي ويعتمد الكاتب المسرحي على شخصية نسائية واحدة, وقد اضطر بعض الممثلين الرجال الى ان يلعبوا دور المرأة الشعبية وبرز منهم مثلاً:
عبد الجبار عباس الذي اشتهر بشخصية (ام علي) وكذلك الفنان (ناجي الراوي) رئيس فرقة الزبانية, مثل دورا نسائيا في المسرح, ان سبب ذلك هو عدم وجود عناصر نسائية تعمل في هذا الوسط, بسبب العادات والاعراف الاجتماعية وسيطرة العائلة بصورة قسرية, وإذا ما تجرأت المرأة وتحدث هذه التقاليد والعادات العشائرية فتعتبر منحرفة وخرجت عن الطريق ومنبوذة وربما تواجه اقسى من هذا [تغيرت النظرة هذه بتطور المجتمع والوعي الثقافي].
في مثل هذه الاجواء الاجتماعية الصعبة والمتخلفة, ظهرت الفتاة المثقفة [فخرية عبد الكريم] كممثلة اثبتت جدارتها وشجاعتها وجرأتها, واختارت لنفسها اسم [زينب] لأنه يحوي رنيناً موسيقياً جميلاً وأحست انه يصلح لمسيرتها الفنية اكثر من اسم فخرية. لقد فتحت السيدة [فخرية عبد الكريم] الباب الثقافي المسرحي ثم السينمائي امام المرأة العراقية الذي كان مغلق تماماً للأسباب المذكورة سابقاً, وأدرك المجتمع العراقي والعائلة العراقية المحافظة ان هناك مسرحاً جاداً هادفاً, هو غير مسرح التسلية في الملهى الليلي.
البداية:
لقد احبت السيدة [فخرية] ان تكون فنانة وتدخل العمل الفني من اوسع ابوابه وتحطم الممنوع والجدار العازل الذي يقف امام المرأة. وصادف ذات مرة ان قرأت موضوعاً كتبه الفنان (يوسف العاني) في صحيفة الاخبار, تحدث فيه عن أزمة الممثلة العراقية, فأثار فيها الخبر قضية العمل كممثلة, وهي التي تخزن احساساً كبيراً بأنها ممثلة في داخلها وتنتظر من يفجر الابداع في داخلها, فكتبت رسالة طويلة للأستاذ يوسف العاني, تعلمه فيها عن استعدادها للعمل كممثلة, برغم انه لا صلة بينهما. لقد كان الاستاذ يوسف العاني يشكو من عدم وجود ممثلة تقاسمه البطولة في الفيلم العراقي الذي يتهيأ له مع المخرج [كاميران حسني] سعيد افندي. فأرسلت له رسالة تقول فيها:
استاذي الفاضل المحترم
تحية كريمة كلها احترام وتقدير
لقد قرأت في جريدة الاخبار الغراء موضوعاً يبحث عن عدم اشتغال الفتاة العراقية بالتمثيل وخاصة المسرح, فقرأته واستوعبته, فوجدته مطابقاً لشعوري الفياض بحبي للتمثيل وخاصة المسرحي... لأنني اعتقد كما يعتقد كل مثقف ان المسرح مدرسة الشعب الكبرى, فباستطاعتي ان ادخل مدرسة اعظم واكبر وهي المسرح, لا سيما اذا كان القدوة فيها يوسف العاني بالذات, تلك الشخصية التي اجلها واحترمها بدرجة لا حدود لها. انا ارغب في الانضمام تحت لواء فرقتكم –المسرح الحديث- التي احترمتها ... ولكن هناك عقبات كثيرة, ارجو ازاحة الغموض عنها وتبسيطها لي بالقدر الذي تستطيعونه, هل هناك شروط فيما يتعلق لعمر الممثلة وجمالها؟ هي يجب ان تكون انسة ام سيدة...؟ هذان السؤالان مهمان... لا ادري طبعاً ردكم عليهما.. فأنا في السابعة والعشرين من العمر... متوسطة الجمال, اي اني لست بدرجة جمال صوفيا لورين او مارلين مانرو, وانا اعتقد ان الجمال ليس ضرورياً الى هذا الحد في التمثيل وخاصة المسرح فالمهم هو شخصية الممثل وتعابيره وحركاته التي توضح لنا شعوره واحساسه بدقة وبلا غموض, والمهم عندي ان اكون انا الاولى التي تتقدم للاشتراك مع اخواتها في تقديم المسرحيات فأكون بذلك قدوة لأخواتي الفتيات, فتكون هناك ثانية, وثالثة, ورابعة, فهي تضحية مني لبلادي ولكنها ستعود عليه بالخير, ولأثبت ان المرأة المثقفة باستطاعتها ان تدخل كل ميدان دون خوف او وجل ما دامت واثقة من كرامتها. هناك عقبة اخرى ... هي ارضاء ذوي الامر واعتقد انت تعرف شقيقاي, فهل باستطاعتك اقناعهما..؟ وعقبة اخرى هي زوجي الذي هددني بالطلاق في حال اشتغالي معكم. ثم تسأل الاستاذ العاني... كيف اعيش...؟ لأنني مفصولة سياسياً من الوظيفة ولا املك شيئاً من المال... ثم ان وضع عائلتي مرتبك جداً ولا يسمح لي بأن اكون عالة عليهم... فأين اسكن...؟ ومن اين اصرف لأعيش...؟ هل بإمكانك ان تجد لي عملاً اعيش منه؟ فإني ان وجدت العمل في بغداد هان كل شيء واصبح سهلاً. اني انتظر ردكم على ودمتم وارجو لك كل فوز وانتصار.
المخلصة
فخرية عبد الكريم
من فحوى رسالتها يتبين لنا ان السيدة [فخرية] لها رغبة كبيرة وصادقة في العمل الفني.... وهي تتمنى ذلك بكل جوارحها وظلت تنتظر اياماً للرد على رسالتها من قبل الاستاذ يوسف العاني الا ان الانتظار طال قليلاً وهي تريد ان تعرف النتيجة بسرعة لأنها تكره الانتظار والروتين وهي تنجز كل اعمالها بسرعة حتى اطلق عليها من قبل صديقاتها لقب [فخرية المستعجلة] على وزن [عباس المستعجل]. دفعها شوقها ولهفتها ان تبعث برسالة ثانية تعقيباً على الرسالة الاولى للأستاذ يوسف العاني. فكتبت له:
وبعدُ.... فقد طال انتظاري لتسلم رسالة منك تخبرني فيما تم من امري الذي يتعلق باشتغالي معك في المسرح والسينما. فقد كان من الاحسن ايها الأخ العزيز ان تبحث الامر سريعاً مع اخوتي... ولا ادري هل واجهتهم ام لا ...؟ وماذا قالوا لك؟ اني مستعدة لتلقي الجواب بصبر وثبات ثم ختمت رسالتها بأن قالت له: انها جادة في طلبها وسوف تبحث عن عمل عند حضورها الى بغداد. ان السيدة [فخرية] كانت جادة كل الجد في اشتغالها بالسينما, والمسرح لكنها كانت تواجه ثلاث مشاكل (عقبات) امامها الاولى: انها بحاجة الى مصروف يومي, لأنها فصلت من الوظيفة واصبحت بلا مورد مالي... فكيف تعيش وتمضي في حياتها واهلها غير ميسورين, فيجب ايجاد فرصة عمل لها لكي تعتاش عليها, والمشكلة الثانية: ضرورة موافقة اخوانها على العمل, والمشكلة الثالثة والمهمة: هي ضرورة موافقة زوجها, من سيحل هذه المشاكل المعقدة....؟ ليس هناك غير الاستاذ يوسف العاني, حيث طلبت منه السيدة [فخرية] ان يتولى حلها... فماذا فعل الاستاذ (العاني) ازاء هذه المشاكل؟
لنقرأ ماذا قال الاستاذ يوسف:
(بصراحة امتلأت بأمل كبير, وانا اقرأ الرسالة, من الاصرار فيها والايمان بجعل كل الصعوبات التي اشارت اليها.. اموراً يمكن التغلب عليها, بل تجاوزها ما دام الامر الاول قناعتها وثقتها الكبيرة بنفسها, وبحثت عن اخويها.. والتقيت بأحمد (اخوها) فكان موقفه ايجابياً من حيث المبدأ, فكلا الاخوين من الشباب المنفتح الواعي بطبيعة واهداف عملنا الفني كله, لا سيما تجربتنا السينمائية الاولى لقد ظل الحل بيدها هكذا قال أخوها (أما زوجها فقد لا يقبل وقد يطلقها... هذا امر يخصه هو. فقلت لها (الكلام ليوسف العاني): دعوا هذا الامر لي فأنا سأحاول. وهيأت نفسي للإجابة على رسالتها تفصيلاً وتشجيعاً مع تحفظات لا تحط من عزيمتها, وقرأت الرسالة على الاستاذ ابراهيم جلال فسر بها كثيراً, وفي اليوم نفسه وصلتني رسالة منها قرر الاستاذ يوسف العاني ارسال رسالة الى السيدة [فخرية] لكن حدثت مفاجأة له في ذلك الصباح, وكانت المفاجأة هي صوت السيدة فخرية تتصل به تلفونياً وتخبره انها الآن في بغداد. التقى بها الاستاذ يوسف واستفسر منها عن كيفية مجيئها الى بغداد فقالت له بمنتهى الشجاعة والفخر: شعرت ان العمل معكم في المسرح والسينما مسؤولية وطنية فجئت متحملة المسؤولية, فقلت لها: وزوجك .... قد يطلقك...؟ قالت: لا تخف... انه يحبني وهو رجل مخلص لوطنه (وضحكت). لقد تم اختيار السيدة [فخرية عبد الكريم] من بين مجموعة من الفتيات ونجحت في الاختبار والمقابلة.
انظمت بعد ذلك الى العائلة الفنية التي عملت على انتاج فيلم (سعيد افندي) عام 1957. قرأت السيدة [فخرية] سيناريو الفيلم الذي اعطاه لها الأستاذ يوسف العاني، وأعجبت بالفكرة والهدف الذي يهدف له الفيلم..
المصدر/ المشرق
الكاتب/ راشد خلوصي
1203 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع