مقتل الملك غازي والخط الأحمر في العلاقة بين العراق والكويت
لم يوقف الموت الغامض والمشكوك فيه للملك فيصل الأول وريثه على عرش العراق أبنه الملك غازي الاول (1933- 1939)، من المطالبة بعودة الكويت إلى العراق ودخوله هو الآخر منطقة الخطر المحرمة وسيدفع الثمن الذي دفعه والده جراء هذه المطالبة كما سنرى.
أعلن الملك غازي بعد اعتلائه عرش العراق في سنة 1933م، رفض الطلب البريطاني في ترسيم الحدود مع الكويت وطالب بضم الكويت إلى العراق ، وفي منتصف سنة 1938م دعا الملك غازي في إذاعته الخاصة في قصر الزهور إلى تأييد مطالبة بعض الصحف العراقية بضم الكويت إلى العراق وريث الحكومة العثمانية وله الحق في امتلاك الكويت لكونها أرضاً عراقية وان، الإنكليز قد سلبوا الكويت من ً العراق بالقوة، وعليهم أن يعيدوا هذا الجزء إلى الوطن الأم،
ففي عام 1935 سبق وأن طالب وزير الدفاع العراقي جعفر العسكري بإعادة جزر بوبيان ووربة الى الاراضي العراقية. كذلك اعتبرت الصحف العراقية بما فيها صحيفة "الاخاء" لسان حال "حزب الإخاء الوطني" بزعامة ياسين الهاشمي، وهي من صحف المعارضة، في مايو 1934 وصحيفة "الثغر" في البصرة، في اغسطس 1934 الكويت بانها جزء من ولاية البصرة وطالبتا باستعادتها. وعلى نفس المنوال وفي عام 1938 بدأ الملك غازي الأول التفكير باستخدام القوة العسكرية لإعادة الكويت الى البصرة لكن الفكرة قوبلت باعتراضات من قبل بعض أعضاء الحكومة العراقية والحكومة البريطانية.
واعتبر رستم حيدر وكيل وزارة الخارجية العراقية امام المجلس الاستشاري العراقي، الكويت بانها جزء من ولاية البصرة.
وقد لاقت دعوة الملك غازي لضم الكويت تأييداً من المجلس التشريعي الكويتي الذي قرر الشيخ أحمد الجابر الصباح (شيخ الكويت 1921- 1950)، رفض ذلك وأمر بحل المجلس التشريعي بناءً على توجيه من بريطانيا، بعد أن ظهر تيار داخل المجلس نفسه يؤمن بالوحدة مع العراق، وخصوصاً بعد أن تشكل نادي كتلة الشباب الوطني الذي عمل على عقد الاتفاقات معه بشأن إصلاح البلاد وبخاصة تأسيس مشروع مد الكويت بمياه الشرب هن طريق ايصال انابيب تصل الكويت بشط العرب، وبغية المحافظة على المصالح البريطانية هناك عارضت الأخيرة فكرة الوحدة التي تقدم بها أعضاء الحركة الوطنية متذرعة، بأن من واجبها حماية استقلال الكويت والحفاظ على سيادته من دواعي خطر العراق للمطالبة بضم الكويت ، وقد طلبت من وكيلها في الكويت بعدم تشجيع الشيخ أحمد الموافقة على هكذا خطوة .وقد تأزمت العالقة بين الشيخ أحمد الجابر واعضاء الحركة الوطنية أكثر من السابق، في كانون الأول/ ديسمبر عام 1938 عندما طالب عشرة أعضاء من المجلس التشريعي المكون من اربعة عشر عضواً بريطانيا الانضمام إلى العرق، الأمر الذي اثار امتعاض بريطانيا، ووجدت أن مصالحها أصبحت مهددة بالخطر وأخذت تخشى أن يستغل العراق تلك التطورات ويتحول الموقف لغير صالحها هناك وبدأت تفتعل الأقاويل التي تقلل من شأن الحركة الوطنية الكويتية، حينما ذكرت عن طريق وكيلها (دي كوري)، بأن أعضاء الحركة الوطنية الذين يطالبون بالانضمام إلى العراق كان دافعهم شخصي وليس وطني معللاً ذلك بأن لهم املاك وبساتين في العراق يرومون الحفاظ عليها، وأضاف دي كوري، بأن الكويتيين الذين يرغبون بالانضمام إلى العراق لا يتجاوز عددهم الثمانين شخصاً وأنه لا وجود لتلك الأقاويل في الكويت بل كانت مجرد دعاية عراقية ضد الشيخ أحمد الجابر ولخص دي كوري هذا الأمر، بمذكرة رفعها إلى حكومته زاعماً بأن زعماء الحركة الوطنية كانت بذمتهم ديون للشيخ أحمد الجابر وأنهم بحركتهم الوطنية، كانوا يأملون بأن يتخلصوا من تلك الديون، من خلال التهديد بالإطاحة بالشيخ أحمد، ويبدو بأن تلك الأسباب غير مقنعة وأنها مفتعلة من قبل الوكيل البريطاني لتسيس القضية الوطنية وتصويرها للشعب الكويتي بصورة مشوهة للتقليل من شأنها والإيهام بأنها تعبر عن مصالح شخصية وليست وطنية.
وهنا التقت رغبة الحاكم الشيخ أحمد الجابر الذي سلبت صلاحياته مع مصالح بريطانيا التي اتخذت من تدخل المجلس في امتيازات النفط، الذريعة للإطاحة بالمجلس التشريعي وافشال الحركة الوطنية، وبغية تقوية موقف الشيخ أحمد إزاء الحركة الوطنية سارع الوكيل البريطاني دي كوري أرسال سفينة حربية بغية إعادة سلطة الشيخ المسلوبة بحسب اعتقاده بطلب الدعم من حكومته والقضاء على الحركة الوطنية بحل المجلس التشريعي، وانهاء التيار المطالب بالوحدة مع العراق مما أدى إلى حدوث احتجاجات وأعمال عنف، إلا أن الحكومة الكويتية سيطرت على الموقف بمساعدة بريطانية وأعدمت قائد المظاهرات محمد عبد العزيز عبد الكريم المنيس أحد قادة الحركة الديمقراطية الإصلاحية في الكويت والتي كانت تعترض على تسلط البريطانيين على مقدرات الكويت وشؤونها من خلال اتفاقية الحماية المفروضة عام 1899م ومن خلال اتفاقية التنقيب عن النفط التي ابرمت عام 1934م.
تم اعتقال محمد المنيس في آذار/مارس 1939 على خلفية نشاطه السياسي الرافض لتعطيل أعمال المجلس التشريعي الثاني، وجرى اقتياده مخفورًا إلى السجن في منطقة «بهيتة» قرب قصر السيف حيث مقر شيخ الكويت مرورًا بالسوق الداخلي الأمر الذي أدى إلى حدوث الاشتباك وسط المتجمهرين في الساحة والذي على أثره تم إطلاق الرصاص وقُتل فيه رفيقه محمد عبد العزيز القطامي وجرح فيه يوسف المرزوق، وفي اليوم ذاته تم تنفيذ حكم الإعدام بالرصاص في ساحة الصفاة. وهرب البقية إلى العراق. وهناك من يروي خروج تظاهرات شعبية في الكويت في شباط 1939م، مؤيدة لمطالبات الملك غازي بضم الكويت للعراق، وقد رفع المتظاهرون العلم العراقي ولافتات كتب عليها الكويت جزء من العراق. لم تكن هذه المظاهرات مجرد حدث طارئ على الساحة السياسية الكويتية، وإنما مثّلت الشكل الأكثر حماسة لنشاط التيار القومي الكويتي الذي احتلَّ مكانة كبيرة في الشارع الكويتي، ونال جُل ثقتهم، وهو ما دفع أقطابه للسعي إلى مقارعة الأمير أحمد الجابر وإطفاء تجربته في الحكم، بعد أن اعتبروا أنه يسير بالكويت بعيداً عن جادة الصواب.
لأكثر من 62 سنة، وتحديداً منذ سنة 1899 حيث فرضت اتفاقية الحماية، وحتى 1961 بقيت الكويت تحت الحماية البريطانية بحسب تعهدٍ قدّمه حاكم الكويت الشيخ مبارك الصباح (من عام 1896م حتى وفاته عام 1915م)، لممثل المملكة البريطانية، وكان مبارك الصباح طلب تلك الحماية في أيلول/ سبتمبر من عام 1897، بهدف مقاومة الدولة العثمانية وتجنباً لهجوم أبن رشيد (1) ، ومحاولات يوسف بن عبدالله آل إبراهيم أحد كبار تجار اللؤلؤ الذي كانت تربطه مصاهرة مع آل الصباح وله نفوذ قوي في إدارة المشيخة، وأبناء أخوَي مبارك، الذين كانوا مصدر خوف وإزعاج له لكن بريطانيا امتنعت عن منحها إياه في البداية، إذ كان لا بدّ أن يُعلن استقلال الكويت عن الدولة العثمانية، حتى يتسنى لها إبرام معاهدة معها. وحين وصلت أنباء عن تعيين لجنة عثمانية، لبحث الشكاوى المقدمة ضد مبارك، وانتشرت شائعات بإرسال قوات عثمانية إلى الكويت، عاد مبارك وكرر طلب الحماية من بريطانيا، في نوفمبر 1897. وعندها، كتب (لوخ)، القنصل البريطاني العام في بغداد، إلى حكومة الهند في 22 ديسمبر/كانون الأول 1897، موضحاً أن لديه معلومات عن حشود عثمانية في بغداد، يشاع أنها ستتوجه إلى الكويت، وأن احتلال العثمانيين للكويت وتثبيت نفوذهم فيها، سيصيبان المصالح البريطانية في شبه الجزيرة العربية، بأبلغ الضرر. فضلاً عن ذلك، فإن العثمانيين سيسيطرون سيطرة كاملة على مدخل شط العرب. ولذلك، قبِلت الحكومة البريطانية طلبه هذه المرة. ثم عادت ومنحتها له في إطار نزاعها مع الدولة العثمانية، حيث رأت لندن أن التواجد في الكويت من خلال اتفاقية حماية يرجّح موقفها ضد إسطنبول، وبالفعل عقدت الاتفاقية بشكل سري في 23 كانون الثاني/ يناير 1899 وباتت الكويت محمية بريطانية اسماً وفعلا. والحقُّ أنه منذ ذلك الحين حوّلت هذه الاتفاقيةُ الكويتَ ليس إلى محميةٍ بريطانيةٍ تديرُ لندن كل شؤونها الخارجية فحسب بل إلى مصدر خطرٍ يهدّد العراق بالغزو والاحتلال أيضا، وهذا ما حدث بالفعل مرتين خلال تسعة عقود.
في مطلع القرن العشرين ازدادت أهمية الخليج العربي نتيجة لاكتشاف النفط في عبادان وكانت حماية هذه الحقول إحدى الأسباب التي تذرعت بها بريطانيا عند احتلال البصرة. وبدأت بريطانيا تهيئ قواتها العسكرية للحفاظ على احتلالها للخليج العربي. وفعلاً أرسلت قواتها الى المنطقة في (2 تشرين الأول 1914) وفي اليوم التالي اسندت قيادة القوات البريطانية الى العميد والتر سنكلير ديلامين، وحدد أطار عملها باحتلال عبادان وحماية مصافي النفط. وفي يوم 6 تشرين الثاني من العام نفسه صدرت التعليمات الى ديلامين بالتوجه الى الفاو وفعلاً نزلت قواته فيها ورفع العلم البريطاني فيها بعد مقاومة طفيفة. وفي 22 تشرين الثاني احتلت القرنة من قبل القوات البريطانية وكان لاحتلالها أهمية كبيرة لموقعها العسكري ولصلاحية الملاحة. وهنا وطأت أرض العراق أقدام أول جندي بريطاني غازٍ من بقعةٍ جغرافيةٍ تقع بين الكويت والبصرة ومنها بدأ الزحف نحو باقي أراضي العراق، حتى تمكنوا من دخولٍ صعبٍ لمشارف بغداد في آذار/مارس 1917 ليحتلوا بعدها العراق كله، ولتبدأ مرحلة جديدة من حياة العراق وهي وقوعه تحت الاحتلال البريطاني المباشر ثم تحت الانتداب، وهو ذات السيناريو المرير الذي تكرّر في الغزو الأميركي البريطاني المشؤوم سنة 2003 ولكن على نحوٍ أخطرَ وأعمقَ في تأثيراته الكارثية.
الأساس الواهي الذي تستند عليه الكويت في مسألة الحدود:
تستند الكويت في كل مباحاتها حول ترسيم حدودها المزعومة مع العراق على رسالة منسوبة لنوري السعيد، يمكن اعتبار هذه الرسالة بمثابة "الوثيقة الأم" التي يستند إليها كل ما يليها، ولأنها كذلك ينبغي البحث عنها وفيها وفي تفاصيلها بدقة وبإسهاب وبموضوعية.
هذه الوثيقة هي رسالة مزعومة من رئيس الوزراء العراقي، الواقع تحت الانتداب البريطاني، نوري السعيد إلى المعتمد السامي لحكومة صاحب الجلالة البريطانية في العراق السير فرنسيس هـ. همفريز مؤرخة في 21 تموز/ يوليو 1932، وهي رسالة قصيرة تتضمن وصفاً لخط مبهمٍ ينطلق من "نقطة تقاطع وادي العوجة ووادي الباطن ويسير شمالاً وصولاً إلى نقطة في جنوب صفوان ثم يسير نحو الشرق باتجاه أم قصر وجبل سنام". هكذا ورد وصف الحدود بلا إحداثيات ولا خرائط، وهي مستلزمات ضرورية لا غنى عنها في أي ترسيمٍ للحدود، فهل يجوز هذا؟!
حينما نقول إنها رسالة مزعومة فإننا نستند في ذلك إلى جملةٍ من الحقائق منها:
1. إنها مكتوبة باللغة الإنجليزية فقط ومرفقة بترجمة عربية ركيكة.
2. إنها تضمُّ مصطلحاتٍ غير صحيحة لا يمكن أن تمرّ على داهية السياسة العراقي حينها الباشا نوري السعيد.
3. إن الكويت وقتها لم تكن دولة ذات سيادة ولها حدود، وإنما محمية بريطانية، وأن الشيخ مبارك الصباح الذي وقّع على اتفاقية الحماية لم يكن يحكم سوى ما هو داخل سور الكويت ولا نفوذ له على ما يقع خارجه الذي كان يتبع والي البصرة مباشرة.
4. إن شيخ الكويت هذا هو في الحقيقة قائم مقام يتبع ولاية البصرة العثمانية التي أصبحت عراقية بعد زوال الدولة العثمانية.
بالإضافة إلى ذلك فإن شكوك كبيرة جداً لدى المؤرخين تنسف رسالة السعيد المزعومة هذه وتعتبرها مزوّرة، يؤكد الدكتور محمد مظفر الأدهمي (اكاديمي وباحث في التاريخ السياسي) أنه لم يجد في الارشيف البريطاني ما يشير الى وجود رسالة رسمية باللغة العربية موقعة من نوري السعيد، وأن اثنين من طلابه بحثا في موضوع الكويت ولم يتمكنا من العثور على الرسالة بتوقيعه لا باللغة العربية ولا بالإنجليزية، كما ينقل عن السيد ناجي طالب رئيس وزراء العراق ووزير خارجيته في العهد العارفي (الرئيس عبد السلام والرئيس عبد الرحمن عارف 1963- 1968)، أنه "بذل كل جهده للبحث في ملفات وزارة الخارجية العراقية عن أصل الكتاب الذي قال البريطانيون إن نوري السعيد قد كتبه بشأن توصيف الحدود مع الكويت سنة 1932 لكنه لم يعثر على أصله".
ونقرأ في مذكرة لوزارة الخارجية العراقية في 25 حزيران/يونيو 1932 ناقشت المطالب البريطانية لتثبيت حدود العراق الدولية مع جيرانه، كجزءٍ من متطلبات دخوله عضواً في عصبة الأمم كدولة مستقلة، أنها قالت فيما يتعلق بالكويت:
1. إن وضع الامارة الكويتية لم يتعين من الناحية الدولية تعييناً قانونياً ولذلك فإن حدودها لم تُعرَف بعدُ بالضبط.
2. إن تحديد الحدود يتمّ بموجب اتفاقٍ يُبرَم بين دولتين ذاتي سيادة، ولم يحصل مثل هذا الاتفاق بين العراق والكويت.
3. يكون التحديد بين لجانٍ تمثل الدولتين، وعليه فإن قيام أحدهما بوضع علامات على نقاطٍ معينةٍ واعتبارها كإشارة حدود تلتزم بها الدول المجاورة انما هو أمرٌ لم يسبق أن أقرّته قواعد الحدود الدولية. وجديرٌ بالذكر أن هذه المذكرة صدرت قبل أقلَّ من شهرٍ من رسالة نوري السعيد المزعومة.
وبذلك لم يتم توصيف الحدود مع الكويت عندما أصبح العراق دولة مستقلة وعضواً في عصبة الأمم عام 1932، مع ملاحظة أن الفقرة الثالثة في أعلاه تلمّح إلى قيام الكويت بسابقةٍ لم تعهدها القواعد الدولية هي وضع إشارات حدودية من جانبها فقط وتفرض على العراق الالتزام بها، وهو ما سيتكرّر كثيراً في العقود التالية وحتى اليوم.
ولو كانت وثيقة رسالة نوري السعيد المزعومة صحيحة فلماذا لم يُعتمد خط الحدود الوارد فيها كخطّ حدودٍ للعراق عند تقديمه وثائق الانضمام إلى عصبة الأمم وبقيت حدوده الجنوبية غير مرسّمة في وثائق الانضمام؟!
ومع اعتبار كلّ هذه القرائن التي تطعن في الرسالة، فإنه حتى لو كانت وثيقة نوري السعيد صحيحة فإننا يجب أن نضعها في سياقها الصحيح لا أن ننظر لها باعتبارها وثيقةً معلقةً في الهواء، فهذه الوثيقة المزعومة، إن صحّت، لم تكتب بإرادة عراقية، ولم تكتب والعراق دولة تتمتع بالاستقلال، بل كتبت بإرادة بريطانية وبلغة إنجليزية وبينما كان العراق يقع تحت الانتداب البريطاني طيلة الفترة من عام 1920 ولغاية استقلال العراق وقبوله عضواً في عصبة الأمم عام 1932، وهي تخصُّ شأناً يتعلق بالكويت التي هي محمية بريطانية، كما أسلفنا في أعلاه.
وبعبارة أخرى، فإن هذه الوثيقة هي رسالة كتبها موظفون بريطانيون يعملون في بلدٍ يقع تحت الانتداب البريطاني (العراق) وجّهوها إلى المندوب السامي البريطاني المعتمد في ذلك البلد الذي يقع تحت الانتداب البريطاني (العراق) بشأن حدودِ بلدٍ واقعٍ تحت الانتداب البريطاني (العراق) مع محميةٍ بريطانيةٍ (الكويت) فأين هو العراق السيد ذو الإرادة المستقلة من كل ذلك؟! وهي فوق هذا وذاك، ومرة أخرى إذا كانت هذه الوثيقة صحيحة، رسالة وقّع عليها نوري السعيد، وهو تحت الانتداب البريطاني، مدفوعاً برغبةٍ مُلحّةٍ من جانبه ومن جانب القوى السياسية الوطنية العراقية ومعزّزاً بشعورٍ شعبيٍ وطنيٍ عارمٍ بإنهاء الانتداب البريطاني، والاستقلال والانضمام إلى عصبة الأمم وهو ما حصل في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1932، أي بعد شهرين ونصف من الرسالة المزعومة. والانتداب كما هو معلومٌ يعني أن تتولى الدولة المنتدَبة، وهي بريطانيا هنا، الإشراف على شؤون الدولة المنتدَب عليها، وهي العراق هنا، وتسيير أمورها لأنها "قاصرة عن إدارة شؤونها بنفسها" فهل يحقّ للقاصر أن يُبرم اتفاقيات خارجية يرسّم بموجبها حدوده مع كيان آخر، علماً أن كلاهما تحت التاج البريطاني، وأن الكيان الآخر حينها لم يكن دولة ولا حتى شبه دولة بل مجرّد محمية مقتطعة من الأرض الأم؟!
وفضلاً عن كل ما تقدم، فإن إبرام دولةٍ ما لاتفاقية من أي نوع لا يعني بقاءها تحت ربقتها إلى أبد الآبدين، فالاتفاقيات ليست صكَّ عبوديةٍ دائمةٍ ولا نصوصاً مقدسة، بل هي وثائق بشرية قابلة للنقض عندما تختلف الظروف الموضوعية أو الذاتية للدولة التي أبرمتها أو للطرف أو الأطراف المقابلة لها، والتاريخ مليءٌ بالشواهد على ذلك بما لا يُحوِجُنا إلى سرد.
بحسب كتاب "أسوار الطين في عقدة الكويت وأيدولوجيا الضم لحسن العلوي الصادر عام 1996"، فإن نهاية الثلاثينيات مثّلت ذروة انجذاب المجتمع الكويتي للنموذج العراقي، وهو ما استغلّه الملك العراقي غازي، في تجييش الكويتيين المفتقدين لخدمات الصحة والتعليم التي يجدونها في جارتهم الكبرى. سعى الملك غازي لتحقيق حلمه بضمِّ الكويت إلى العراق، ليكون أول حاكم عراقي يُعرب عن هذه الرغبة علناً، وهي الرغبة التي ستُشكّل حجر زاوية في العلاقة بين البلدين لاحقاً، بعدما يمضي على ميراثه الذي يدعوا إلى إعادة جزء مقتطع، حكام العراق اللاحقين، عبد الكريم قاسم وصدام حسين.
وبحسب دراسة "الحركة القومية العربية في القرن العشرين " لهاني الهندي، فإن الكويت كانت أبرز ساحات العمل الوحدوي العراقي، الساعي لصهر البلاد العربية بأسرها في دولة واحدة تكون بغداد هي عاصمتها الأم.
كما أن كتاب "تأثير الفكر الناصري على الخليج العربي" لنور الدين النحلاوي الصادر عام 2003، يذكر إن هرولة الكويت اقتصادياً نحو العراق نتجت عن الحصار التجاري الذي فرضته السعودية على الكويت بسبب الخلافات الحدودية بينهما، وعجز بموجبه الكويتيون عن التجارة أو الاستثمار مع السعوديين، فأقبلوا على العراقيين بدلاً منهم، وهو زاد من العمق الثقافي العراقي في نفوس الكويتيين .وفي الوقت الذي لم تعرف فيه الكويت أي صحافة أو إعلام مؤثر بعد، كانت الصحافة العراقية المتطّورة، بمقاييس ذلك الزمان، تصبُّ جام غضبها على الشيخ أحمد الجابر، بأسلوبٍ رنّان بليغ على ورقٍ لامع مصقول، وتدعم الكُتل السياسية المُعارِضة للأمير، مثل "كتلة الشباب الوطني" التي داومَت على نشر بياناتها وبرامجها السياسية الإصلاحية وأسست لها نادياً في الكويت سمي بـ (نادي كتلة الشباب الوطني) واختاروا أحمد زيدان السرحان سكرتيراً لهذا النادي، واختاروا عبد اللطيف محمد ثنيان الغانم رئيساً بمرتبة الشرف له.
كانت أهداف النادي تؤكد على تقديم الدعم لقرارات المجلس التشريعي ونشر الوعي الثقافي في البلاد وعلى الأيمان بالقومية العربية ووحدة الوطن العربي وعد الكويت جزء من الأمة العربية في المجتمع الكويتي، وللدور الفعال الذي أداه النادي في الجانب السياسي اتسعت قاعدته الجماهيرية حتى بلغ أعضاؤه ما يقارب الثلاثمائة عضو وكان لإلوائك دور في تعميق فكرة القومية والوحدة العربية.
في أيلول 1938 شهد الموقف العراقي من ضم الكويت تراجعاً عندما اقترح وزير الخارجية العراقي توفيق السويدي إنشاء اتحاد جمركي بين البلدين بشرط تنازل الكويت عن المنطقة الشمالية إلى خط عرض 29,5 شمالاً وهذا يعني تنازل الكويت عما يقارب ثلث مساحتها للعراق، إلا أن الحكومة البريطانية رفضت هذا العرض، وفي تموز 1939 أجريت مباحثات بين الحكومتين العراقية والبريطانية بهدف إعادة ترسيم الحدود بين العراق والكويت استناداً إلى مراسلات 1923 والمذكرات المتبادلة بين الحكومتين العراقية والبريطانية في تموز وآب 1932 بمناسبة استقلال العراق وانضمامه إلى عصبة الأمم، ولم تأت عملية ترسيم الحدود سنة 1933 بجديد. ولم يكتف الملك غازي الأول بمسعاه لإعادة الكويت إلى العراق بالطرق الدبلوماسية، وإنما حاول إعادة الكويت بالقوة، وذلك أثناء غياب رئيس الوزراء نوري السعيد الذي كان قد سافر إلى لندن لحضور مؤتمر حول القضية الفلسطينية في 7 شباط 1939، فقد استدعى الملك رئيس أركان الجيش الفريق (حسين فوزي) عند منتصف الليل، وكلفه باحتلال الكويت فوراً. كما اتصل بمتصرف البصرة داعيا إياه إلى تقديم كل التسهيلات اللازمة للجيش العراقي للعبور إلى الكويت واحتلالها. (الحسني، عبد الرزاق، تأريخ الوزارات العراقية، ج5، ص 76). كما استدعى الملك صباح اليوم التالي نائب رئيس الوزراء ناجي شوكت بحضور وزير الدفاع، ووكيل رئيس أركان الجيش، ورئيس الديوان الملكي، وأبلغهم قراره باحتلال الكويت. لكن ناجي شوكت نصحه بالتريث، ولاسيما وأن رئيس الوزراء ما زال في لندن، وأبلغه أن العملية سوف تثير للعراق مشاكل جمة مع بريطانيا، والمملكة العربية السعودية وإيران، واستطاع ناجي شوكت أن يؤثر على قرار الملك غازي، وتم إرجاء تنفيذ عملية احتلال الكويت. (الحسني، عبد الرزاق، تأريخ الوزارات العراقية، ج5، ص 77).
ما كان يقدمه الملك غازي في إذاعة قصر الزهور اعتبرته بريطانيا دعاية وطنية وقومية حادة، أدت إلى ازدياد شعبيته في الدول العربية المجاورة لاسيما سوريا والكويت والأردن، إلى الدرجة التي وافق فيها المجلس الكويتي بأغلبية عشرة نواب من أصل أربعة عشر على الوحدة مع العراق تحت حكم الملك غازي، وكان سكان الكويت آنذاك حوالي 100 ألف نسمة وكان الملك غازي يعتقد أن اقتطاعها من العراق سبب حرمانه من شواطئه البحرية على الخليج العربي، إلا من بقعة صغيرة جداً قرب مصب شط العرب، وهكذا أصبح هاجسه في كيف يعيد الكويت إلى العراق في ظل تعارض رغبته تلك مع إرادة البريطانيين المهيمنين على مقدرات العراق. الأمر الذي اعتبرته بريطانيا تهديداً لمصالحها وخططها في الشرق الأوسط. وتطرق توفيق السويدي (سياسي عراقي وأحد رؤساء الوزارات في العهد الملكي (1892 ــ 1968) في مذكراته بعنوان {نصف قرن من تاريخ العراق، والقضية العربية} قائلاً:
"أتذكر بهذا الصدد أنني عندما كنت في لندن، التقيت بالمستر بتلر وكيل وزير خارجية بريطانيا الدائم، وقد أبدى لي شكوى عنيفة من تصرفات الملك غازي فيما يتعلق بالدعاية الموجهة ضد الكويت من إذاعة قصر الزهور، وقال لي بصراحة بأن الملك غازي لا يملك القدرة على تقدير مواقفه، لبساطة تفكيره، واندفاعه وراء توجيهات من أشخاص مدسوسين عليه، وإن الملك بعمله هذا يلعب بالنار، وأخشى أن يحرق أصابعه يوماً ما". (مذكرات توفيق السويدي ـ نصف قرن من تاريخ العراق ـ ص 326). يقول جيمس موريس: "إن الملك غازي كان أول ملك هاشمي لا يحب الإنكليز، ولم يكن يحمل أدنى شعور بالصداقة لهم، ولذلك كان من أكثر الملوك الهاشميين شعبية في قلوب الجماهير".
أن قضية أعادة الكويت الى العراق، كانت من الأسباب الرئيسة التي عجلت باتخاذ قرار أزاحت الملك غازي أو التخلص منه، لأنه عندما تولى الحكم وضع نصب عينه مسألة إعادة الكويت إلى العراق، وبات بقاءه على رأس السلطة في العراق يُثير المشكلات في وجه بريطانيا، وأصبح يُهدِّد مصالحها في العراق والمنطقة، فكان التخلُّص منه أمرا ضروريا وحتميا في نظر بريطانيا، فقد ذكر السفير البريطاني (باترسن) في كتابه (Both sides of
Curtain) حول تصرفات الملك غازي ما يلي:
لقد أصبح واضحا للعيان أن الملك غازي إما يجب أن يُسيطر عليه، أو أن ُيخلع من العرش، وقد لمحتُ إلى ذلك، وبهذا المقدار، في زيارتي الوداعية للأمير عبد الإله. (مذكرات طه الهاشمي، ص 200). وفعلاً تم ذلك، ففي صباح الرابع من إبريل/نيسان 1939م، نعى مجلس الوزراء الملك غازي على إثر اصطدام سيارته التي يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع بالقرب من قصر الحارثية القريب من قصر الزهور الذي يقيم فيه، فهوى العمود على السيارة وأصاب رأس الملك إصابة بليغة أودت به. لم يصدق أحد أن موت الملك غازي كان نتيجة اصطدام سيارته، لذلك صار من شبه المؤكد أن بريطانيا وأذرعها هي التي دبّرت مقتل غازي، وكانت المستفيد الأول من حادث الاغتيال، فضلا عن رجلها رئيس الوزراء نوري السعيد الذي يبدو أنه وولده صباح تناقلا الحديث عن ضرورة التخلص من الملك غازي قبل تلك الحادثة، بل قد تواصل نوري السعيد مع السفير البريطاني وقدّم له خطة لتنصيب الأمير زيد الهاشمي بدلا من الملك غازي. ويبدو أن هذا الرأي قد تأكد أو تعضّد بعد مقتل غازي بأكثر من خمسة وثلاثين عاما حين التقى عبد الرزاق الحسيني مؤلف كتاب "تاريخ الوزارات العراقية" في يوم 8 إبريل/نيسان 1975م بالدكتور صائب شوكت طبيب الملك غازي الخاص، وأول مَن قام بمعاينته بعد الحادث مباشرة، يقول ذلك الطبيب:
"كنت أول مَن فحص الملك غازي بناء على طلب السيدين [نوري السعيد] و[رستم حيدر، أحد الوزراء] لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري إن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قُتل نتيجة ضربة على أمّ رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر (قبل وفاة غازي بمدة قليلة)، والذي كان معه في السيارة لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جِيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصابا بخلع في ذراعه، وقمتُ بإعادة الذراع إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفى الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك اليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى يومنا هذا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – آل الرشيد هي عائلة وسلالة حكمت إمارة جبل شمر في نجد وعاصمتها حائل (شمال وسط الجزيرة العربية)، في القرن التاسع عشر الميلادي 1834 ميلادي وحكمت لمدة 88 سنة حتى مطلع القرن العشرين وقت سقوط الإمارة عام 1921.
708 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع