يهود العراق، ذكريات وشجون (٤١) عود وانعطاف إلى أيام الحب والعفاف، في العراق - ١

         

يهود العراق، ذكريات وشجون (٤١) عود وانعطاف إلى أيام الحب والعفاف، في العراق - ١

  

ترددت كثيرا في كتابة هذا الفصل، فقد اتهمتني الدكتورة هدى بأني لا أتورع في كتاباتي من ذكر الشتائم والسباب بالقلم العريض، ولكنها الواقعية بل لنقل المذهب الطبيعي في الأدب الذي ينقل الواقع بحذافيره دون تدخل الرقيب أو مقصه لنراعي ذوي الأذواق الرقيقة الذين "يجرح مر النسيم خدودهم ".

   

وخشيت أن أجرح مشاعرها الرقيقة فعزمت على أن أجيل "مقص رقيب شرطة الأخلاق العربية"، وأن أحذف ما سمعته في طفولتي وصباي في العراق من سباب وشتم لكي لا تحمر صفحة شاشة الحاسوب خجلا من جرأة الواقع الذي عشته وبقي محفورا في ذاكرتي، "والعلم في الصغر كالنقش في الحجر". ولكنني لو كتبت كل ما انطبع في ذاكرتي من ذكريات ومشاهد في العراق، لقيل بأنني أبالغ. وكدت أحذف بعض الكلمات من شجون الذكريات، ولكن عروس الإلهام عاتبتني بلهجتها العراقية المحببة التي تفخم حرف اللام، بقولها "يابا ليش تشيل واتحط، عدل بدل، يعني قابل أنت دتخترعها من راسك؟"، لقد قلت لنا بأنك تقوم بالكتابة الواقعية وما تكتبه هو الحقيقة، ولكن أن تقوم بعمل ماكياج فيما تكتب، أو تجيل فيه مقص رقابة شرطة الأخلاق، فإنك تشوه الحقيقة.

ثم وصلني مقال للأستاذ خالد القشطيني يتحدث بصورة واقعية عن يهود العراق ويحسدهم على لباقتهم وصدقهم وأمانتهم في معايشة المسلمين، وهو يحب الحديث عن الجنس أو ما يسمى بالأدب المكشوف، ففي مثل عمرنا لا يوجد "بعد كلمه اسمها عيب"، وكان العراقيون يقولون لرفع الكلفة بين الأصدقاء "العيب بالجيب".

والعجيب أنني وجدث تشابها كبيرا بين مواضيع كتاباته وكتاباتي، ولَِمَِ لا، فنحن عراقيون أبا عن جدّ، ومتقاربان في السن، ولذلك فان مواضيعنا تتشابه وإن كانت من بعيد. وفي حكايته هذه المرة أيضا كتب يحسد اليهودي حتى في كيفية وفاته.

   

وهذا اليهودي هو من هواة الفن هذه المرة وليس من التجار الأغنياء، وهو يهودي دنبكجي أي بالعربي الفصيح "ضابط إيقاع في الجوقة الموسيقية"، أحب راقصة عراقية مسلمة، ثم "أنجبر بيها" أي أحبها حبا لا يستطيع الفكاك منه، ولكنها مانعته، وفي ذات يوم احبها شيخ من شيوخ الخليج، وتزوجها "على بركة الله وسنة رسوله" ومضت الأيام ولم تحمل منه، وعلمت انه مصاب بالعقم، فقررت أن يكون لها طفل بأي ثمن لكي يرث ثروة أبيه الطائلة ، فتذكرت عاشقها اليهودي البغدادي الدنبكجي، فليس مثل اليهودي في كتمان علاقاته مع النساء،

   

وسافرت إلى لندن لتعود بولي عهد للشيخ المبجل، ومن فرحة الدنبكجي بان حلم حياته تحقق، أصيب بسكتة قلبية ولكنه استطاع أن يخلد نفسه في صلب ابنه الذي سيصبح شيخا جليلا. وليعذرني الشيوخ على تلخيص هذه القصة، ولكن "ما على الرسول إلا البلاغ"، ولا اعلم إذا كانت هذه القصة حقيقية أم من نسج خيال الأستاذ القشطيني المبدع، ولا يهم إذا كانت هذه القصة حقيقة أم من بنات أفكار الأستاذ الجليل، بل المهم أنها تشبه قصة واقعية عاصرتها ورويتها في ذكرياتي،

                       

وهي حب صباح ابن نوري السعيد لرفيجته (رفيقته أو خليلته) اليهودية. وعندما أجبرت تصرفات الحكومة الملكية وتعسفها اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، كانت هذه الرفيجة حامل وهناك وضعت أبن صباح وحفيد نوري السعيد في مستشفى ولادة إسرائيلي. وبعد مصرع نوري السعيد ومقتله الشنيع وسحله في شوارع بغداد حتى لا ندري إذا بفي من جثته بقايا تدفن، وبعد سماعها بوفاة صباح نوري السعيد، طالبت "الكرل فريند" اليهودية بنصيب ابنها من الإرث، والرفيجة باللهجة العراقية وفي اصطلاح الفقهاء، كلمة يشم منها رائحة الفسق والفجور والفاحشة الكبرى، ولكن اليوم بفضل الثقافة الأمريكية ونشرها لمدنية العولمة، أصبحت "الرفيجة"، كما أخبرتني الدكتورة هدى، تسمى "كيرل فريند"، وبذلك غسلت العار عن المصطلح القديم كما تغسل أموال المتاجرة بالمخدرات والأسلحة الفتاكة، وتكون صالحة لإيداعها في البنوك المحترمة لعمل المبرات في سبيل الله. وهذه مكرمة من الحضارة الأوربية على العراق الذي كان قد غنم أيام الاحتلال البريطاني ثقافة إنكليزية عالية عبر عنها المرحوم جارنا محمود ونّاس في البتاويين بقوله: والله يا جماعة الخير، أتمدّننا وتكرمون، حتى الجلب (الكلب) صرنا أنسميه بوبي". و لكن هاي الرفيجة اليهودية "وين تروح وين تجي" ومقاطعة إسرائيل من جانب الدول العربية تجرى على قدم وساق، ولم تقبض من كل الدعوى ولا فلس احمر واحد، ولعلها ستجدد الدعوى بعد أن يحل السلام بين العراق وإسرائيل بإذنه تعالى. ويبدو "أن الدم ما ينقلب ماي" كما يقول المثل العراقي، وترعرع الحفيد اليهودي لنوري السعيد وعمل في السياسة مثل جده الداهية المرحوم، والذي أخذ بعض العراقيين اليوم يحنون إلى أمجاده التي شوهتها الانقلابات المتتابعة في العراق، ثم أصبح هذا الحفيد فيما بعد رئيس بلدية في مدينة كبيرة في إسرائيل، وهكذا نرى صحة المثل العراقي في "أن الدم ما ينقلب ماي"، والعرق دساس.
قالت الدكتورة هدى، إني لا أؤمن بنقاء الأجناس كما يدعي البعض، وخاصة إذا أخذنا بالحسبان الحروب والفتن وما يقع فيها من حوادث الاغتصاب وهتك الأعراض، ناهيك عن الحب بين الشباب والنساء المتزوجات. وأنا أرى أن قصة وضاح اليمن الذي شبب "بأم البنين" زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وغراما به دفعها كما تقول الحكاية، الى اصطحابه معها بعد الحج سرا إلى دمشق، ثم كشف أحد الخدم أنها تخبئ عشيقها في صندوق كبير في مخدعها. فحاول ابتزازها بأن طلب منها أن تعطيه قلادتها الثمينة لكي ثمنا لصمته، فلما طردته وشى بها عند سيده الخليفة. دخل الخليقة على مخدعها فرآها جالسة على الصندوق، طلب الخليفة الصندوق هدية لتثبت حبها له، فوافقت على مضض، فأمر الخادم برفعه ودفنه في حديقة القصر. وقيل إنها كانت ترى في بعض الليالي جالسة تنتحب حيث دفن الصندوق مع سرها الرهيب. كل هذا يدل دلالة واضحة على ما تقول الدكتورة هدى. و‘نا أرى أن قصص الرواة العرب في الحب هي أروع بكثير من رواية د. هـ. لورانس البريطاني عن "عشاق الليدي تشاترلي". لقد أدرك حكماء اليهود هذه الحقيقة ولذلك قرروا أن المولود ينسب إلى الأم فأنهم متأكدون من تكون، أما الوالد فالله أعلم والنساء تعلمن أيضا، ما أصدق الكلام عن كيدهن العظيم.
نعم، لقد عجبت للتشابه بين كتابات القشطيني وبين كتاباتي، فعند كلينا يستحوذ هاجس الكتابة عن يهود العراق، فهو مولع بالحديث عنهم وعن ذكائهم ومسالمتهم ومسايرتهم للواقع وصدقهم ويرى أن سبب صمودهم في العراق طوال المئات من القرون، هو تسامحهم ومسايرتهم للأحوال، فقد كانوا يميلون إلى حيث الريح تميل. والأستاذ خالد القشطيني يحسد اليهودي في كل شيء حتى على ساعة مماته، ولا يتورع من استعمال المفردات الجنسية في سبيل الواقعية، كما كان يفعل رواد قهوة الشط وقهوة عزّاوي في بغداد أيام العز. فقلت لنفسي، إذا كان أستاذ وكاتب قدير ومشهور من كتاب جريدة "الشرق الأوسط" الخابصة الأوساط السياسية والثقافية في العالم، يكتب بالقلم العريض، فلماذا أتردد في الكتابة عن الحب في العراق كما شاهدته. فأنا أرى نفسي شاهد عيان لفترة حرجة من تاريخ العراق وتاريخ يهودها، وقد أقسمت أمام التاريخ بان أقول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق، وذلك حين دفعتني الأقدار، بدون سابق إنذار، إلى تدوين مذكراتي في مجلة "إيلاف" المتسامحة الحرة.

      

وفي هذا المجال من الكتابة الواقعية، تكون الكتابة عن الجنس مباحة في الدين والتاريخ والأدب، وخير دليل على ذلك نوادر كبار الكتاب في العصر العباسي الذهبي كالأصفهاني في كتابه الأغاني، الذي تحدث فيه عن مغنية "نِزْلتْ للكار" (أي مارست الدعارة) كما يقول العراقيون، فقال ببراعة: "وحلت تكتها، وسرت الشيخ والصبي"، أو عن الوليد بن يزيد العابث الذي كشف مزماره الأبنوسي أمام أشعب، وسأله بفخر: "هل رأيت مثل هذا؟"، والجاحظ في كتابه "الحيوان" تحدث بصراحة عن علاقة بعض الرجال بإناث الكلاب، وأبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" قال معرضا بابن العميد، حين حجز نديمه، وأبى أن يسمح له بزيارة زوجته، فلما ألح النديم في طلبه، أمر بإحضارها أمامه، ليتمتع بأول عرض "لايف شاو" حفظته لنا الكتب الأدبية عن اللهو في العصر العباسي. وناهيك عن حكاية أبي القاسم البغدادي لأبي المطهر الأزدي وقصص ألف ليلة وليلة التي كان القراء العرب يتشاءمون من وضع أجزائها كاملة في مكتباتهم لأنها تسبب النحس والخصام بين الأزواج، كما كانوا يعتقدون، فلذلك كانوا يضعون الأجزاء المختلفة في مكتبات متفرقة خارج دورهم.
ثم هناك كتاب ابن كمال باشا في "رجوع الشيخ إلى صباه"، الذي ألفه لبعض السلاطين العثمانيين ليستعمله مثلما يستعمل اليوم بعض الرجال أقراص الفياجرا في هذه الأيام السعيدة، الذي ينغصها الإرهابيون المتعصبون في كل مكان. والعجيب أن أحد الأطباء في إسرائيل، تحدث عن صدق بعض الشائعات، وقال، "نحن نعلم الشائعة التي تقول، إن العراقيين لا يحتاجون إلى أقراص الفياجرا، وقد أثبت الطب هذه الشائعة". أما كتاب أبن كمال باشا هذا فقد كان من الكتب المحظورة في البلاد العربية والذي كان بعض العراقيين حتى في إسرائيل يستعيرونه من مكتبة الجامعة قبل زفافهم، وكان القراء في العراق يتناقلونه سرا، نسخا وإعارة وحفظا عن ظهر قلب كما كانوا يفعلون بأشعار إبراهيم طوقان الإباحية في عشيقاته المسيحيات تتناقل شفويا ونسخا ولم تطبع حتى اليوم، وقصائد حسين مردان العارية في عاهرات الميدان في بغداد التي تأثر فيها بالشاعر الرجيم بودلير، وقد اعترف مردان في إحدى قصائده قائلا:
قد رضعت الفجور من ثدي أمي وترعرعت في ظلال الفجور!!
أما شعر ابن الحجاج فقد كان محظورا على شباب كتاتيب الملالي في العصر العباسي، وعندما كتبتُ نقدا لكتاب "تلطيف المزاج من شعر ابن الحجاج"، اختيار محمد بن نباتة، شرح وتحقيق الدكتور نجم عبد الله مصطفي، في مجلة "دي ويلت دس أسلامس" التي كان يحررها أ.د. ستيفان ويلد من جامعة بون، قلت عن الكتاب معجبا بالتحقيق، بأن مثل هذا الشعر يستطيع قراءته من لا يخشى التحديق في الأغوار المظلمة للنفس الإنسانية.

                  

وقد وعى كبار الكتاب العرب أهمية هذا الجانب من روايات الشذوذ الإنساني، فتحدث الكاتب الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب، عن الدكتور بوشي "طبيب الأسنان" في روايته "زقاق المدق" وزيطة صانع العاهات ونابش القبور بحثا عن الطقوم الأسنان الذهبية في أفواه الأموات، دون أن يرى ذلك مساسا بالشعب المصري. أما الدكتورة نوال السعداوي، في كتابها الجريء بأحداثه الرهيبة، "موت الرجل الوحيد على الأرض"، الذي صورت فيه الفقر والجهل والمرض في الريف المصري، وسيطرة الآباء وتعسف الحكام ونقدها عادة ختان البنات، مما أثار غضب المحافظين ضدها، حتى اضطرت إلى مغادرة مصر إلى الولايات المتحدة، مثل الدكتورة وفاء سلطان التي أفحمت رجال الدين في مناظراتها في قناة الجزيرة. فقد تحدثت نوال السعداوي عن الشيخ متولي المجذوب، نابش القبور الذي كان يسرق أكفان الفتيات والرجال المتوفين ليبيعها في القرى المجاورة كسبا للعيش بعد أن يضاجعها. إن مثل هذه الجرأة في تصوير النفوس البشرية المريضة هو جديد بالنسبة للمجتمع المحافظ، الذي يرى أن النفس المطمئنة يزعجها الكشف عن أغوار النفس الإنسانية الشيطانية المظلمة. وهناك الكثير من الكتاب الغربيين الكبار ممن تخصص في تصوير مثل هذا الشذوذ الجنسي. أما الصحفيون اليوم فهم يهتمون بالشذوذ في كل مكان وزمان، وقد سمعنا حديثا بقصة الأب الذي حبس ابنته عشرات السنين واغتصبها وحمل منها، إلى غير ذلك من المآسي الإنسانية.
والأستاذ القشطيني حفظه الله، له نفس "الخوي" أو الهاجس الذي يلاحق قلمي، والذي يجتاحني عند الكتابة، فهو يتحدث عن حكمة اليهود العراقيين، أما أنا فتطاردني أرواح ضحايا الفرهود حتى عندما أقلعت بي الطائرة من مطار بغداد في يوم 25 ابريل، 1951 إلى إسرائيل، فسمعت أصوات الضحايا تستغيث بي صارخة "كيف تتركنا وتذهب دون أن تقول كلمة احتجاج عن مصرعنا ظلما وعدوانا؟" ولذلك لا استطيع كتابة فصل من فصول ذكرياتي إلا وتقفز فظائع الفرهود إلى ذاكرتي، وذلك بالرغم من المجازر الفظيعة التي حدثت في الشرق الأوسط قبل الفرهود وبعده، والتي لا يمكن حصرها اليوم، بل تتكرر حين تغيب الحكمة وتسيطر سكرة القوة الغاشمة على الضعيف.
وهناك تشابه آخر بين كتابات القشطيني وكتاباتي، إذ يحلو للأستاذ خالد القشطيني الكلام عن شطارة اليهود، أما أنا فيحلو لي تدوين السباب والشتم العراقي، وذلك حرصا مني على المحافظة عليها كما سمعتها في طفولتي، حفظا للحقيقة والتاريخ والتزاما بالواقعية..

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/46631-2020-11-04-13-38-01.html

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

650 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع