يهود العراق – ذكريات وشجون (32) يهودي عراقي-إسرائيلي في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية (SOAS) بجامعة لندن- 1
كانت لندن في بداية الستينيات من القرن الماضي إنكليزية أوروبية، فلا تجد سوى النزر اليسير من "السمر والسود" الذين احتلوها اليوم قادمين من المستعمرات التي أصبحت الشمس تقلص ظلها عليها بعد أن كانت لا تغيب عنها. لم يكن آنذاك سوى القليل من الأسيويين والإفريقيين يعملون بائعي صحف وتذاكر وسائقي باصات حمراء ذات الطابقين،
وذلك قبل أن يشتري صاحب المليارات المصري محمد الفايد محلات "هارودز" الفخمة ويفقأ الحصرم في عيون الحساد،
وقبل أن يفتن ابنه شهيد الحب دودي الفايد (عماد الدين محمد عبد المنعم الفايد) بفحولته ووسامته إحدى سليلات العائلة المالكة البريطانية الأميرة ديانا الجميلة الفاتنة التي سبت قلوب البريطانيين وكادت تتربع على العرش العريق لأكبر إمبراطورية بحرية عرفها التاريخ لولا معاكسة الأقدار، والتي ما زال البريطانيون يترحمون عليها، وذلك قبل أن تبني الولايات المتحدة حاملات طائراتها الجبارة التي تعمل بقوة الطاقة الذرية. وكنا نعجب لأدب الانكليز وحرصهم على أن نصل بسلام إلى العناوين التي نسألهم عنها، فهم يقولون مثلا:
"سر إلى الأمام حتى تصل إلى ميدان ترفالجر (طرف الأغر، حيث دحر نيلسون الأسطولين الفرنسي والاسباني على ساحل اسبانيا الجنوبي الغربي في صراعهم الاستعماري المتكالب المريع)، ثم سر يمينا إلى شارع ترفالجر، ثم عرج على يسارك إلى زقاق ترافالجر، وستجد المكان، ولا يمكنك أن تخطئ".
قال لي أحد الطلبة المصريين الظرفاء: لا تعجب، فقد تدخل فيما بعد ممرا يسمى ممر ترافالجر ثم تدخل قاعة تسمى قاعة ترافالجر لتجلس في مكتبة تسمى مكتبة ترافالجر.
الإنكليز محافظون على تقاليدهم فهم يزنون بالأوقية (الباوند) وليس بالكيلو ويقيسون السوائل باكالون وليس باللتر ويتعاملون بالباون بتقسيمه الغريب الى شيلنج وبيني مما يلخبط دماغ الناس في حساباتهم، وكانت معظم تمارين الحساب في تحضيرنا لامتحانات الميتروكليشن البريطانية في مدرسة شماش في بغداد تدور حول: كم من الباونات والشلنج والبينسات في صفقة تجارية من كذا وكذا، الأمر الذي كـفـّرني وكرّه لي الرياضيات والجبر، فلما هاجرت إلى إسرائيل اخترت أجمل لغة شاعرية اصطفاها الله لتنزيل كتابه العزيز وأروع لغة علمية عرفها التاريخ الوسيط في العالم، وحمدت الله على ذلك، فقد توصل أينشتين إلى معادلة القنبلة الذرية عن طريق الرياضيات. وآني خايف الله وشجابني على هل بلاوي.
وهناك في لندن بدأت رحلة العذاب في التفتيش عن غرفة للإيجار. حصلت على عنوان غرفة لسيدة إنكليزية في "تشيزيك" ووضعتُ حقيبتي وأنا منهك. نادتني إلى غرفة الجلوس للتعارف، سألتْ من أين السيد؟ قلت من إسرائيل! قالت وهي تروي على سجيتها:
"إذن أنت ليست من يهود بريطانيا الذين يحبون الترف والمال، أنتم مختلفون عنهم، كان هتلر يكرههم وفي غارات طائراته وهجماته الصاروخية (البليتز) على لندن كان يتعمد الأحياء اليهودية مثل جولدرز جرين وهامستيد وبيل- سايز بارك وادجوير وغيرها لينهي المسألة اليهودية!".
هالني ما سمعت. أردفتْ قائلة إنها فقدتْ ابنها الوحيد في معركة الإنزال الكبرى على ساحل نورماندي في بحر المانش، وقالت:
ولكني أعلم بأنه ولد مرة أخرى عند أحد أقربائي، هل تؤمن بتناسخ الأرواح؟ فأنا أزوره كل يوم أحد بعد الصلاة.
قلت في نفسي، والله خوش أوروبا وخوش تفسير لمآسي الحروب لتعزية النفس لكي لا يفقد الإنسان صوابه. وتذكرت كيف كان أبو علوان يضع أمام بقرته الثكلى البوّ (جلد الحولي <العجل> الذي نفق محشوا بالتبن) لكي تلحسه وتحنو عليه ويدر حليبها وتتعزى به، وكيف صار جبران خليل جبران يؤمن بتناسخ الأرواح بعد أن ماتت أمه وأخته ومات أخوه بمرض السلّ الخطير في بوسطن لكي لا يبخع نفسه وليبقى محافظا على سلامة عقله من مصائب الفقر في هذه الدنيا.
وفي صباح اليوم التالي رن جرس الفطور، جلست على المائدة فجاءتني مستبشرة، صباح الخير سيدي! عندك حظ، الطقس جميل والشمس مشرقة، قالت ذلك وبيدها صحن فيه شرائح من اللحم فيها خطوط حمراء وبيضاء كأعلام من البلاستيك قد تقلصت بالقلي يسيل منها دهن سميك مقرف وتقبع بجواره بيضة مقلية "أم العين" الرقراقة، وطماطة يسيل لعابها الأحمر ويمتزج بالدهن الأصفر في مزيج يلـّعب النفس.
وضعتْ الصحن أمامي كالمنتصرة. قلت:
والله خوش استفتاح، ويا فتـّاح يا رزاق من الصباحيات، شرائح لحم "على الريق؟"، وأنا طول عمري لم أسمع لا من آبائي ولا من أجداد أجدادي ومنذ سبي نبوخدنصر الكافر وخراب بيت المقدس، بأن اللحم الدهين السمين يقدم على الفطور ومع الزبد.
تعوذت بالله من الشيطان الرجيم، فقد كنا في العراق مثل جميع العراقيين الأشراف نفطر على صمون مقسب، وقيمر جاموسي يلمع بياضه كخد الحبيبة، وسيلان أو عسل النحل وجبن عراقي تهلهل له أفواه العراقيين.علمت على الأقل أن هذا اللحم هو لحيوان له أظلاف وليس لحم حيوان مفترس له براثن. فقد روى لنا ابن خالتي كريم دنوس في مجلس العائلة العلمي والأدبي الذي كان يعقد حسب المناسبات، حكاية السلطان العثماني الذي أراد اختبار ذكاء وزيره الجديد، فقدم له صحنين في أحدهما لحم "مكوّت" (متقلص) بالطهي والآخر فيه لحم "يفرش" (اتسع حجمه وتمددت ألياف عضلاته) بالطهي وسأله:
ما الفرق بين اللحوم في الصحنين؟
أجاب الوزير الذكي: "سلطانم! اللحم "المكوّت" هو لحم غنم، أما اللحم اللي "فرش" بالطبخ فهذا لحم كلب".
فتعجب السلطان من ذكاء الوزير النابه وأقره في منصبه الجديد. ولذلك أردت أن أتأكد من نوع هذا اللحم الجديد المخطط والمكوّت. سالتها بحذر:
يا حرمه، ولج شنو هالعزا هذا الأحمر والأبيض اليسيح دهنه ؟ قالت بفخر: "ذس إز آن اكسلنت هام!" (هذا "هام" ممتاز)، لم اسمع من قبل كلمة "هام" هذه سوى في أسماء القصور الملكية والمدن البريطانية مثل قصر بكينجهام ومدينة برمنجهام، ولكن "الهام" في الطعام هذا أمر مريب لم اسمع به في حياتي. ردتْ بمرح وقد توردت وجنتاها منتظرة أن ابتسم فرحا لهذه المفاجأة الاحتفالية السارة لقدومي: "هذا لحم خنزير يا سيدي!" كدت أسقط من الكرسي من هول النبأ.
خشيت أن ألمس الصحن النجس بيدي. انتصبت واقفا وقلت:
أنا يهودي ولا آكل لحم خنزير، شيليه بالعجل.
أكفهر وجهها وهي لا تصدق أن بشرا سويا على الأرض تعاف نفسه مثل هذا الفطور الدسم: "هذا فطورنا نحن الانكليز. يعني، أنت يهودي عن صحيح!". قلت لها بحزم: جيبي لي زبد وخبز محمص ومربى وشاي أسود على الدزتني عليج، راح أتأخر على حفلة التعارف في الجامعة.
ثم كانت الحادثة التي قصمت ظهر جمل صبري معها. قالت عليك أن تضع تبنس (بنسان من العملة الأنكليزية) في صندوق قرب التلفون عن كل مكالمة في نطاق لندن، قلت لها: "يعني لازم أقعدلك صراف وأحول فلوسي إلى "تبنسات" وأملـّي جيوبي منها تخرخش ليل انهار وين ما أروح؟ أقترح أن أسجل كل مكالمة أقوم بها ثم نتحاسب في آخر الأسبوع، والله وكيلك أدفع حلالج مع الأجر الأسبوعي". وافقت على الفكرة. وفي اليوم التالي استعملت التلفون وسجلت الساعة ومكان المخابرة في نطاق لندن. كانت الخادمة واقفة، لم ترني أضع نقودا ولم تسمع دوي خرخشة "التبنس" وهي تسقط في قعر صندوق الصفيح لتخبرها بأمانتي، بل رأتني أدون شيئا على ورقة قرب التلفون. وفي اليوم التالي نادتني صاحبة البيت وقالت لي بصوت شرطي أمسك بتلابيب حرامي متلبسا بجرمه في اللحظة الحرجة، وقالت لي: إليك نبأ غير سار، قلت: خير إنشاء الله؟ قالت:
رأتك الخادمة تخابر بالتلفون ولم تضع التبنس في العلبة.
قلت لها، خاله مو اتفقنا على أن أسجل عدد المكالمات وأدفع لك في نهاية الأسبوع وها هي القائمة بمكالماتي. قالت لا أتذكر أية اتفاقية بيننا من هذا القبيل، كان عليك أن تضع النقود كما قلت لك. قلت لها إذا كنت لا تتذكرين ما قلت لك البارحة وتتهميني بالغش، تفضلي هذه القائمة بعدد مكالماتي وهذه نقودك حسب القائمة مع بخشيش وسأغادر منزلك في نهاية الأسبوع، يا بنت "الهام" الدهين اليزوّع.
كنا في نهاية شهر سبتمبر وبعده يبدأ شهر الأعياد المقدسة عند اليهود وخاصة عيد رأس السنة العبرية ويوم الغفران الذي استغلت مصر وسوريا قدسيته وانشغال اليهود في صلواتهم في الكنس وهاجمتا إسرائيل فجأة عام 1973 والحرب خدعة، ثم عيد العرائش (السوكوت) (ويعرف بين مسلمي العراق بعيد العرازيل وكانوا يظنون أن المطر يهطل بسبب هذه العرازيل، فإذا أمطرت كانوا يهمسون لنا: والله! دين الكليم حق!) ، فكيف سأقضي الأعياد مع هذه العجوز "الكوية" (من الأغيار غير اليهود) و"هامها" الدهين المقزز ونكدها، فكل يوم "اتسويلي: هزي نبق يا نخلة" بمطالبتها المتتالية بالدفع عن الكهرباء زيادة إذا واصلت القراءة بعد منتصف الليل أو الاستحمام أكثر من مرة في الأسبوع والتربص بالمكالمة لتسمع خرخشة التبنس. واشراح يخلصها ويا هل "كوية" الفرحانة بالقنابل التي أمطرها هتلر على الأحياء اليهودية في لندن، وكأنها تقول: "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ!" لحقدها على اليهود الأغنياء. ذهبت إلى إدارة المجلس البريطاني اطلب إعطائي عنوان عائلة يهودية أستطيع أن أريح ضميري مع تقاليدها. قالت الموظفة المسئولة عن عناوين السكن: "لماذا تريد الانتقال؟" قلت لا أريد أن اسمع من يهلل لهتلر ومطره الأسود كما قالت الشاعرة إيديث سيتويل، المنهال على الأحياء اليهودية". قالت الموظفة: نعم أنتم اليهود تريدون أن تعيشوا في حومة واحدة ولا تختلطوا بالأغيار، سأعطيك عنوانا لسيدة يهودية في جولدرز جرين التي تعج باليهود والكنس اليهودية وروح بَرْبـِع (افرح) وياهم.
ذهبت على وجه السرعة لأتعرف على السيدة فيليس ويلبي وعلى الغرفة الموعودة . كان اليوم يوم جمعة، دخلت البيت فإذا برائحة الطعام اليهودي المعد ليوم السبت تصافح أنفي وتزغرد لها معدتي التي مجت طعام الأغيار وحمدت الله بأني سأستطيع قضاء الأعياد مع عائلة يهودية تقية تحافظ على الشريعة بتسامح، ولا أغضبُ اللهَ وملائكتـَه.
ذهبت إلى حفلة التعارف بين الطلبة الجدد من جميع الأجناس في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية، ولم أدرك أنني سوف أعود إلى مضايقات أيام طفولتي حين كان المتطرفون والنازيون يعدون انتماءك إلى الديانة اليهودية جريمة يجب أن تحاسب عليها أبد الدهر بالإبادة. وجدت الفرج في التفاف الفتيات اليهوديات حولي عندما علمن بأني قادم من إسرائيل، فأكثرهن معجبات بالدولة الفتية النشطة ويدرسن اللغة والأدب العبري ويحمن حول الطلبة اليهود للتفتيش عن أولاد الحلال ليقاسموهن الحياة بحلوها ومرها. حسدني الطلبة العرب على الحظوة التي نلتها من فتيات مثقفات. كان المعهد آنذاك يعج بالطلبة العرب والمسلمين من جميع أطراف العالم ويقارب عدد الطلبة العرب الذين جاءوا لتقديم رسائل الدكتوراه والماجستير في ميدان الأدب العربي العشرين طالبا. هالني هذا العدد وقلت للطالبات اليهوديات مستنكرا: طلبة من البلاد العربية جاءوا لدراسة اللغة العربية وآدابها من جميع البلدان العربية إلى إنكلترا! لو كان الطلبة في إسرائيل يذهبون إلى الخارج للكتابة عن الأدب العبري والفكر اليهودي لـَعُـدّ ذلك عارا على جامعاتنا.
سألت أخي جاكوب هل يعج معهد لندن للدراسات الاقتصادية(LSE) بالطلبة العرب مثل معهد الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS)؟ قال لا، لم أرَ طالبا عربيا أو مسلما بعد. فزاد عجبي لهذه المفارقة، ألا تحتاج البلاد العربية إلى أساتذة في الاقتصاد والعلوم الحديثة الأخرى؟ ولماذا لا يذهبون إلى الأزهر وفطاحل علمائه؟. كان المصريون بعد ثورة عرابي باشا يتهمون كرومر بأنه أسس مدارس لأعداد الموظفين الصغار لخدمة الإنكليز واليوم ونحن في عام 1962 بعد استقلال مصر الكامل الناجز بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر الذي طرد الغزاة عن أرض الكنانة يرسلون طلبة لدراسة الأدب العربي في لندن؟ والله غريبة!
وفي حفل التعارف تقدم إليّ طالب جديد وسأل:
خيو! أنت منين؟ ومثل جميع اليهود الذين يجيبون عن سؤالك بسؤال آخر سألته: وأنت؟ قال، أنا من شمال سوريا، قلت: أنا جارك القريب، قال: خيو، يعني من لبنان والا من تركيا؟ قلت له لا، خيّك من إسرائيل! اصفرّ وجهه وبدت خيبة الأمل الفظيعة على وجهه. لم ينبس ببنت شفه، وإذا به يقوم بحركة عسكرية كأن ضابطا عسكريا يأمره: إلى الوراء درْ! أراني عرض أكتافه وهو يتعوذ من الشيطان الرجيم!.
أما الطلبة المصريون فقد كانوا أقل عصبية قومية. تعرفت هناك على بعض كبار الباحثين والأدباء العرب، منهم الدكتورة الأديبة ثريا ملحس التي قالت لي بعد أن قرأت مقالة أختي أسبرونس كوهين عن أدبها، والدمع يترقرق في عينيها: "العجيب أن الكتاب العرب يتغاضون عن أدبي وفي إسرائيل يحتفلون به!"، والباحثة الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي مؤلفة كتابها الضخم الريادي "تيارات وحركات في الشعر العربي الحديث" وقد عاتبها الدكتور محمد مصطفى بدوي على تغاضيها عن ذكر أطروحتي عن فنون الشعر العربي الحديث، أما الطالبة مذيعة الأخبار في البي بي سي، فقدمت نفسها ، في أول محاضرة لنا بصوت حزين بأنها لاجئة فلسطينية باسم نادرة أو ما شابهه، فأشعرتني بالحرج. نظر إليّ جميع الطلاب العرب نظرة اتهام قاسية وشعرت بنصال سهام عيونهم تتحطم على النصال التي امتلأ بها قلبي المعذب، وبكى بعضي على بعضي معي لمأساة فلسطين المنكوبة ولمأساة يهود العراق اللقطاء في إسرائيل. و أردت أن أصرخ: "يا ناس ترى آني هم لاجئ! بس لاجئ يهودي من البلاد العربية، ومثل الفلسطينيين سكنت في الخيام ولم استطع اصطحاب سوى حقيبة ملابسي وخمسة دنانير بعد أن صودرت أموالنا المنقولة وغير المنقولة، لكنني أنا يهودي عراقي، تايه وما لي والي!". وكبحت جماح لساني بعنان الصبر في اللحظ الأخيرة. قال بعضي لبعضي:
"ولك اسكت، ترى هذوله ما يعترفون بلاجئين يهود من البلاد العربية، والله لو تفتح حلقك هذوله راح أيلطوك (يبلعونك) مثل الشكر لمه لو الشلغم المايع بليل الأظلم الماطر في بغداد الحبيبة!". وسكت على مضض. ومن الباحثين المعروفين كان الدكتور عبد المحسن طه بدر ومحمود الربيعي وصلاح نيازي وشوقي عبد الحكيم، والشاعر الرقيق عبد الله العذري المحبوب من الجميع وغيرهم. أما من الإنكليز فقد تعرفت على مارتن هايندس الذي نشر فيما بعد مؤلفاته القيمة عن الاسلام وألف مع السعيد بدوي قاموسهما الممتاز عن اللهجة المصرية، ثم تزوج فيما بعد بصديقتي الدنماركية الجميلة التي تتربع اليوم على عرش المستشرقين في العالم وداعبتني بقصيدة على بحر الطويل أقسم الشاعر السوري نذير العظمة بأنها قصيدة فحلة لا يتسنى كتابتها سوى لمستشرقة عبقرية فتية. أما الطالب الألماني وولفهارت هينريخز وهو من محرري دائرة المعارف الإسلامية اليوم والاستاذ في جامعة هارفارد، فقد تحير في موضوع كتابة أطروحة الماجستير فأشرت عليه بمعالجة أروع كتاب في النقد الأدبي هو"المناهج الأدبية" لحازم القرطاجني، فاستجاب لاقتراحي ونشر كتابه باللغة الألمانية. ثم التقيت بسلمى الجيوسي بعد أن نالت لقب دكتور عن اطروحتها في جامعة لندن، وفي طريقنا الى محطة قطار يوستن روت لي بفخر عن دواوينها وبناتها ومشاريعها العلمية وهي حيرى كيف تتعامل معي هل كإسرائيلي مغتصب لفلسطين ومسقط رأسها طبرية أم عراقي مسلوب الوطن والمال، وأخيرا قررت بعد لقائنا في مؤتمر روما للأدب العربي عام 1981 وشارك فيه كل من البروفيسور مناحيم ميلسون والأديب الكبير جمال الغيطاني وأدونيس وكمال أبو ديب وغيرهم، معاملتي على أساس أنني عربي يهودي عراقي وعند اعترافي بهذه الصيغة من هويتي فقط، سوف لا يبيدني الفلسطينيون إذا ما احتلوا إسرائيل ويدمروها عن بكرة أبيها، والعياذ بالله، وكثر الله خيرها.
وفي حفلة التعارف الأولى سألني شوقي، أستاذ! جيت من إسرائيل تتعلم أيه؟ قلت له أريد تقديم أطروحة عن الشعر الحر والمنثور والمرسل في البلاد العربية، فأنا أحب الشعر العربي وقد نشرت الشعر المنثور في جرائد العراق. فكر قليلا وقال متجاهلا ردي: أللي محيّرني هو إزاي تحاربونا عن طريق الشعر العربي يا جدع؟ أجبته:
أنا لا أريد محاربتكم. من قال لك بأننا نريد محاربتكم، فنحن نسعى إلى السلام معكم؟ تدخل الدكتور عبد المحسن وقال: نعععم؟ أنتم تريدون السلام معنا؟ أنتم تحتاجون إلى مجال حيوي لهجرة جميع يهود العالم إلى إسرائيل ولذلك فحلمكم هو توسيع رقعة ارض إسرائيل من الفرات إلى النيل. يا سلام على السلام اللي بتسعوا إليه! قلت له:
كيف تستطيع التصور أن ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود يستطيعون تشييد دولة كبرى من الفرات إلى النيل؟ ومن أين لنا القوى البشرية للسيطرة على الملايين العربية، ولماذا نسيطر؟ فمعظم سكان إسرائيل من بقايا المحرقة النازية ويريدون العيش بسلام بدون عنصرية وإبادة الآخر لأنه يختلف عنهم. سيبك من الكلام ده، من هذه الأوهام التي أصبحت كوابيس الحكام العرب، فكروا بواقعية، سبب قيام إسرائيل هو الاضطهاد الديني والعنصري والمحرقة النازية. إنني أدعو الله أن يحل السلام بيننا وبينكم وسوف أدعوكم لزيارة جامعتنا وللمحاضرة عندنا. سكتَ عبد المحسن على مضض وأضمرها لي.
كان الطلبة العرب يقضون معظم أوقاتهم في كافيتريا الجامعة يتناقشون حول كل شيء سوى موضوعات أبحاثهم.
وبعد سنة التقيت بالدكتور عبد المحسن طه بدر بعد غياب طويل عن المعهد وغرفة المطالعة، ناداني قائلا:
يا موريس! أنا عائد إلى مصر.
سألته: هل أنهيت كتابك الجديد الذي جئت لتأليفه في لندن بعد كتابك "الرواية العربية الحديثة في مصر"؟؟
قال لا، ولكن الجامعة استدعتني قبل أن ابدأ بالكتابة، فأنا في مرحلة جمع المصادر فقط.
ثم أردف بحماس: يا موريس، تحدثنا سابقا عن إمكانية السلام بين العرب وإسرائيل وقد فتشت عنك لأخبرك قبل عودتي إن من الأولى بكم أيها الإسرائيليون ألا تحلموا بالسلام مع العرب، فبيننا وبينكم ما صنع الحداد، وإننا نتهيأ للجولة القادمة لحل هذه القضية إن شاء الله!.
أجبته: إن علينا نحن المثقفين التفاهم والدعوة إلى السلام والإخاء بين الشعوب والأديان لا إلى إثارة الحروب والفتن والدمار، فالقيم السامية لخير الإنسانية هي القيم الخالدة، وعلينا حل المشاكل عن طريق المفاوضات لا الحروب. فالحروب هي من آثار همجية الإنسان.
قال مهددا: لا أوافقك على ذلك وآمل أن نلتقي في ساحة الحرب، والله حتى لو التقيت بك هناك فسأقتلك!
وعجبت لهذه الكراهية من مثقف وأستاذ جامعي، وقلت له:
إتق ِ الله يا رجل! ما هكذا يكون الحوار بين المثقفين.
ثم سألته لأغيظه وقد بلغ بي الغيظ الزبى وأنا أكظمه: ما مدة تدريباتك العسكرية يا بطل؟ قال: ثلاثة أشهر. قلت له: هل تعلم ما هي مدة تدريبات الجندي الإسرائيلي؟ إننا نحن الإسرائيليين نمد لكم يد السلام فلا ترفضوها، فالحروب لا تحل المشاكل بل تعقدها، وفي جدلنا هذا سوف لا نحل أية مشكلة، من يحلها هم الزعماء، فلماذا نتخاصم بيننا؟
ومرت الأيام وتناسيت الحوار الساخن بيننا، ولكني شعرت بالأسف الشديد عندما قرأت في جريدة الأهرام عام 1977 بأن الدكتور عبد المحسن طه بدر والدكتورة نوال السعداوي كانا من بين المثقفين المصريين الذين اعتقلتهم السلطات المصرية بعد زيارة الرئيس المغفور له السيد محمد أنور السادات لإسرائيل لعقد اتفاقية السلام المباركة بين البلدين، وذلك بعد أن أصبح الدكتور عبد المحسن طه بدر رئيسا لقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة،
ونشر عدة كتب قيمة عن الرواية المصرية آخرها "نجيب محفوظ، الرؤية والأداة" (1978)، ثم قرأت فيما بعد عن وفاته وهو في أوج عطائه العلمي، رحمه الله وغفر له، فنحن اليهود نعتبر المتوفى معصوما عن النقد يجب ذكر حسناته فقط، والأعمار بيد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/38675-2019-01-17-19-00-45.html
632 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع