بقلم : خالد ربيع
رفيقي صبحي الجيز
في منتصف السبعينات في بيروت كان هناك شاب فقير يعشق الموسيقى، تعلم هذا الشاب على آلة البيانو ودرسها جيدا حتى أتقنها، وتعلق بموسيقى الجاز، التي كانت قد بدأت تظهر حديثا في لبنان، وراح هذا الشاب بتعلم فنون الجاز واللعب على أوتارها حتى باتت موسيقاه المفضلة.
كانت حالة هذا الشاب تزداد فقرا مع هذه المهنة التي لا تأتي بقوت يومها، ولا بما يسد رمق صاحبها، وكما قال زياد في أغنية مربى الدلال واصفا مهنة الموسيقى (ورتوني المكنسة وطلعت زبال)، وبدأ الشاب بالبحث عن عمل ضمن المجال الوحيد الذي يعرفه وهو العزف على البيانو، وظل يبحث إلى أن وجد المهنة المطلوبة، وهي العزف في إحدى مطاعم بيروت الفاخرة .
كانت مهنته لا بأس بها من الناحية المادية، لكن مدير المطعم طلب منه أن يمتنع عن عزف أي من مقطوعات الجاز فهي لا تناسب ذوق الطبقة المخملية المتواجدة في المطعم، لأنها موسيقى الزنوج السود والعبيد، لذا يجب عليه أن يعزف الألحان السيمفونية الراقية، ولكن هذه المشكلة لم تكن عائقا في وجهه ليقدم الأعمال السيمفونية بطريقته الخاصة والتي حازت مع الأيام على رضا جميع الزبائن، .
تبدأ فترة العزف في المطعم مع بداية السهرة اليومية، حيث يصل صاحبنا إلى هناك في موعد دوامه المحدد ليجلس في صدر الصالة بثيابه الأنيقة والتي اشتراها على حساب المطعم، ويستمر في العزف حتى مطلع الفجر، وبعد أن يثمل جميع الحاضرين، ويشارف المطعم على الإغلاق، يأخذ أجرته ويقفل عائدا إلى منزله سيرا على الأقدام.
في إحدى الليالي كان الليل مقمرا وجميلا والسكون يلف الحارات البيروتية في عمق الليل… مر صاحبنا الموسيقي من إحدى الزواريب وصادف هناك (زبالا) شابا نحيلاً يجلس على الرصيف ويقرأ أحد الكتب المرمية في القمامة، أثاره المنظر وأدهشه، ولم يستطع إلا أن يقف ويلقي التحية على هذا الزبال، ودار بينهما أول حديث، تعرفا من خلاله على بعضهما البعض ونشأت بينهما صداقة وعلاقة ثقافية غريبة، فلكل منهما مهنة غريبة قد لا تدعو إلى الفخر ولكنها شريفة، خاصة أنهما يحيطانها بأدمغة مثقفة كل على حسب قدرته.
اعتاد العازف المرور على صديقه الزبال في كل ليلة، واعتاد الزبال على أحاديث الشاب الطريفة عن أبناء الطبقة المخملية التي يقضي وقته كل ليلة بينهم، ومع الأيام عرف الشاب أن هذا الزبال ما هو إلا مناضل صغير أخطأ القدر في وضعه بالمكان الصحيح، فهو شاب طموح شيوعي، انتسب إلى الحزب الشيوعي بعد دراية وثقافة وخبرة، ولم يكن انتسابه عبثا، ربما أعياه الفقر ولكن قضيته أهم عنده من أن ينشغل بالإعياء. هذا هو (صبحي الجيز) زبال الحارات البيروتية.
وأيضا كانت الأيام تمضي ولكنها هذه المرة كانت تحمل معها مستقبلا آخر، أصبح الصديقان أكثر قربا وأدرى بهموم أحدهما للآخر، وراح صبحي الجيز يحدث الشاب عن الحزب الشيوعي، وبدأ الشاب يقتنع بأفكار الحزب، ويقصد صاحبه كل ليلة من أجل أن يسمع ويتعلم أكثر، ورغم أن مصادرهما كانت أغلبها من الكتب المرمية في سلال القمامة إلا أنها كانت تفتح لهما أبوابا للنقاش لا تنتهي.
أصبح الشاب يتخذ من صاحبه (صبحي الجيز) مثلا أعلى في النضال ضد الساسة اللذين لا يهتمون بالمهمشين والضعاف، وبدأ يتقرب من الحزب الشيوعي أكثر فأكثر، وهو يزداد قناعة بأن الفقراء ليسوا حثالة المجتمع كما تعود أن يعاملوه في مطعمه الفاخر، وأن الكادحين هم شرفاء تحتم مصيرهم أن يعملوا بأجور زهيدة وليس لهم خيار آخر،… أفكار كثيرة بدأت تملأ صدره برفض الظلم والفساد والإقطاع، وأنه لا بد من الثورة على هؤلاء المتغطرسين الذين يجلسون كل ليلة ليتفاخروا بالسخافات.ومساعدات صبحي الجيز تقدم الموسيقي الثائر وانتسب إلى عضوية الحزب الشيوعي ليصبح (رفيقا) من رفاق الكادحين والثوار، قرر الشاب أن يتقدم بهذه الخطوة العظيمة، على يد الرفيق صبحي الجيز، والذي كان منذ البداية يرفض إلا أن يناديه بـ “الرفيق صبحي” . .ـ
وتمضي الأيام الى أن خرج العازف في إحدى ليالي الشتاء الباردة قاصدا مطعمه الدافئ والفخم، ليقدم وصلته الموسيقية ولكنه قبل ذلك قرر أن يعرج إلى الحارة التي يتواجد فيها (الرفيق صبحي الجيز) من أجل أن يخبره بسعادة غامرة عن اتخاذه القرار النهائي بإنضمامه الى الحزب الشيوعي، وأنه قرر أخيرا وعن كامل قناعة وهو متسلح بكل أشكال الثقافة أن يصبح (رفيقا) مع رفاقه الكادحين والثوار المساكين..وعندما وصل في عتمة ذلك الليل البارد إلى الرصيف الذي يسكنه صبحي… وجده مسجيا على الأرض بين أكوام النفايات والقمامة والزبالة، معانقا مكنسته وقد غفا الغفوة الأخيرة بجوار صندوقه وكتبه وقصاصات الجرائد والمجلات .
مات صبحي الجيز… مات الرفيق صبحي الجيز.. قتله البرد البيروتي.. ظل ينتفض من البرد والحمى تغتاله رويداً رويداً، وليس لديه ما يشتري به الدواء المخفف للحمى والمضاد لميكروبات الأنفلونزا القاتلة…رماه البرد بين أكوام الزبالة.. إستيقظ يا صبحي،،، ـ
عفوا… استيقظ يا رفيق صبحي
جئت لأخبرك بأنني معك.. ـ
اليوم أصبحت رفيقك،
لا تتركني وتمضي .. هذه عادة الأيام الخادعة وليست عادتك… قم يا رفيق، فأنا بدونك لست أدري ما سأفعل.
في تلك اللحظة أمطرت بيروت بشراسة ..كانت غاضبة سماء بيروت… وكنت منهوكاً خائر القوى .أجلس على رصيف الكرامة مع صديقي الصامت .. أمطرت عيناه في ذات اللحظة قهرا.
من الكشك في الحارة المجاورة إتصلت بإدارة شئون الموتى ليأتوا ويحملوا هذا الميت.. الذي لم يكن يمتلك ثمن شراء بطانية أو معطف، لكنه يمتلك قلباً يدفء كل العالم .. تأخر الموسيقي ساعة عن موعد وصلته الموسيقية ، ولكنه ذهب مكسوراً في حلقه غصة مرة .
اتجه الموسيقي الحزين إلى مطعمه الدافئ والبرد يسكن في شرايينه، دخل إلى الصالة المخملية، واتجه إلى صدر المطعم حيث ينتظره البيانو… سمع التصفيق البارد والمعتاد .
دون تردد همس في الميكروفون : كفاكم برودا… فالبرد قتل صديقي..ورفيقي صبحي الجيز. وضع أصابعه على البيانو.. وبقلب ثائر ومكلوم… بدأ يعزف لهم ولأول مرة لحنا من موسيقى الجاز… ـ
فزع صاحب المطعم واقترب إليه ليخبره بأن هذا النوع الموسيقي محرم هنا وممنوع بكل المقاييس.
رفض أن يستمع له، واستمر ينقر أعصاب الحضور بموسيقى الجاز، فاستشاط المدير غضبا واقترب منه وقال له: “بس يا غبي، خلصنا بقى”، ولكنه لم يكترث لهذا الخادم العبد الذليل، واستمر يعزف…ـ
هنا نهضت إحدى جميلات المجتمع وقالت له موبخة بلهجة مليئة بالاستعباد والفوقية: “يعني هلأ إنتا شو قصتك؟؟ نظر إليها وهو مايزال يعزف وقال:
“رفيقي صبحي الجيز تركني ع الأرض وراح
رفيقي صبحي الجيز حط المكنسة وراح.
.. راح ما قالي شو بقدر أعمل لملايين المساكين
رفيق يا رفيق وينك يا رفيق؟
حملتني إشيا كتيرة
حجار وغبرة وصناديق
غيرتلي اسمي الماضي
عملتلي اسمي (رفيق)ـ
ـ (رفيق) وما عندي رفيق
ورح يبقى اسمي رفيق
عم فتش ع واحد غيرك
عم فتش ع واحد متلك ي
مشي… يمشي… بمشي
نمشي
ومنكفي الطريق
نمشي ومنكفي الطريق
نمشي ومنكفي الطريق
يا رفيق
ملاحظة : الموسيقي هو الفنان خالد الهبر.
579 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع