مذكرات دبلوماسي ايراني في بغداد...
عبد السلام عارف طرد السفيرالإيراني بعد مطالبته بامتيازات طائفية في أوراق اعتماده خلافاً للعرف
ترجمة نواف شاذل طاقة
يروي القائم بالاعمال الإيراني الأسبق في العراق، المستشار هاشم حكيمي، في مذكراته الشخصية التي نشرها سنة 2003 على موقع الكتروني خاص به في اوسلو، أحداثا ووقائع هامة حدثت في فترة عمله في بغداد ما بين السنوات 1963 ـ1967 وذلك خلال حكم الرئيسين الراحلين عبد السلام وعبد الرحمن محمد عارف.ويتحدث الدبلوماسي السابق في مذكراته تلك عن الأجواء المتوترة التي سادت بين العراق وإيران خلال تلك الحقبة، والتي تعكس، من بين أمور عدة، اعتداد القادة العراقيين بهويتهم العراقية العربية ورفضهم أية إساءة إيرانية، حتى وإن كانت غير متعمدة. وقد اخترت ترجمة حادثتين منفصلتين من بين ما جاء في هذه المذكرات يتحدث فيهما الدبلوماسي الإيراني السابق عن فترة عمله تلك في بغداد لتوضح للقارئ الكريم طبيعة تلك العلاقات، وقد تدفعه إلى عقد المقارنة الحزينة والمؤلمة بين عراق الأمس الزاهي وعراق اليوم المظلم. تجدر الاشارة إلى أن حادثة طرد السفير الإيراني من بغداد كانت قد وردت في مصادر عراقية عديدة من بينها ما أشار اليه رئيس تشريفات ديوان الرئاسة في الفترة ذاتها السفير ابراهيم الولي في مذكراته التي صدرت مؤخرا تحت عنوان "أوراق دبلوماسي عراقي" ، غير أن ما يرد أدناه هو نص الحادثة كما يرويها الجانب الإيراني.
1
يقول حكيمي في مذكراته: بعد مضي نحو سنة ونصف على عملي في بغداد كقائم بالاعمال، تلقيت أنباءً مفادها بأن الدكتور سيد مهدي بيراسته، الذي شغل مناصب عديدة في السابق من بينها محافظ مقاطعة فارس، ووزير داخلية إيران، قد عين سفيرا في بغداد. كما تلقيت في الوقت عينه رسالة نادرة من والدي يحذرني فيها منه، ويدعوني إلى اليقظة لان بيراسته رجل سليط اللسان وغير مؤدب.
وبعد ذلك ببضعة أيام وصل السفير الجديد وتم استقباله بود من قبل موظفي السفارة والحكومة العراقية وفق الأصول المرعية والسياقات المعتادة. وكان سكن السفير ومكتبه جاهزين لاستقباله حيث قام السفير بتفقد المكانين وتعرف على الموظفين. وقمت كالمعتاد بالتعريف التقليدي بالموظفين، وقدمت ايجازا بخصوص طبيعة العمل والتطورات السياسية في العراق. وكان أول شيء قام به هو طلبه حضور الممثل الرسمي لجهاز السافاك الإيراني العقيد بيجمان إلى مكتبه، وكان الأخير قد رُفع مؤخرا. أخرج السفير من حقيبته حزمة من الأوراق وقال له بأنها تتضمن نص الكلمة التي اعدها لغرض القائها في أثناء تقديم اوراق اعتماده إلى الرئيس العراقي المشير عبد السلام محمد عارف. وتضمنت هذه الأوراق كلمة مطولة أشار في إحدى نقاطها إلى وجود طائفة شيعية كبيرة في العراق مما يجعل من العلاقات بين البلدين ذات طبيعة خاصة. حينئذ، تدخلتُ قائلا بأن الاشارة إلى الطائفة الشيعية في العراق أمر على درجة كبيرة من الحساسية مما ينبغي معه عدم ذكرها في هذه المناسبة، إذ أن من شأن ذلك إحداث خيبة وضرر في العلاقات مع العراق لا يمكن اصلاحهما، لا سيما وأن العلاقات تمر بمرحلة حرجة. أجاب السفير بأن صاحب الجلالة محمد رضا شاه أبلغه بهذا التوجه عندما قابله في القصر الشاهنشاهي لتسلم أوراق تفويضه. قلت له حتى لو كان صاحب الجلالة قد طلب منك التطرق إلى هذا الموضوع الحساس فانه لم يقصد أن يشار الى الموضوع خلال مراسم تقديم أوراق الاعتماد حيث جرت العادة أن تكون الكلمة مختصرة جدا ومقتصرة على عبارات المجاملة الدبلوماسية. وقلت له إذا ما رغبت في مناقشة هذه الأمور فيتعين إما ترتيب موعد آخر مع رئيس جمهورية العراق، أو، إنْ كان الأمر عاجلا، فبالامكان طرح الموضوع بعد تقديم أوراق الاعتماد خلال جلسة جانبية والتي غالبا ما تعقب مراسم تقديم أوراق الاعتماد حيث يقوم الرئيس بدعوة السفير الجديد للجلوس وتبادل أطراف الحديث وتناول بعض المرطبات. في تلك الحالة فقط، يمكن مناقشة هذه المسألة وبطريقة ودية مما لا يترك معه مجالا لسوء الفهم. بيدّ أن السفير كان مصرا على رأيه ولم يقبل بنصيحتي بل راح يجاهر بالقول لقد سبق لي وتعاملت مع الكثير من عقداء الجيش من مثل هذا . عند ذاك اشتطت غضبا وتهورا وقلت له نعم يا سيادة السفير، لكن هذا الشخص هو رئيس الدولة . اما العقيد بيجمان فقد التزم موقفا جبانا دعم فيه السفير.
وغني عن القول، فقد كنت أرى بكل وضوح العواقب الكارثية لمثل هذا الخطاب. وفي خلال مراسم تقديم أوراق الاعتماد، وبعكس التقاليد التي يراعيها السفراء في مثل هكذا مناسبات، حيث لا يحملون بأيديدهم سوى مغلفا كبيرا يحتوى على أوراق الاعتماد، فقد أخذ سفيرنا حقيبته اليدوية إلى داخل القاعة الرسمية. أشرت للسفير ثانية بأن عليه أن يترك حقيبته اليدوية في قاعة الاستقبال، لكنه رفض نصيحتي بعناد وفعل ما أراده. وهكذا دخل السفير، ومعه الملحق العسكري العقيد معصومي، ومترجمنا السيد تيجاني، وانا، القاعة الرئاسية المخصصة للمراسم. وكان المشير عارف واقفا وسط القاعة مع رئيس دائرة التشريفات الرئاسية بالاضافة إلى وزير الخارجية صبحي عبد الحميد حيث صافحنا الرئيس عارف، أخرج بعدها الدكتور بيراسته حزمة أوراقه وشرع بقراءتها. وفجأة قال الرئيس عارف يبدو أن السفير قد نسي أمرا ما . حينها فقط ادرك السفير بيراسته بأن عليه أن يبدأ بتقديم أوراق اعتماده. عاد بعد ذلك السفير إلى حقيبته اليدوية واخرج منها أوراق الاعتماد وسلمها إلى الرئيس الذي سلمها بدوره إلى رئيس تشريفاته قائلا له بأنه كان عليه أن يلقن السفير بعض أسس البروتوكول الضرورية. بدأ بعد ذلك الدكتور بيراسته قراءة كلمته المطولة حيث بدا الرئيس عارف ضجرا. وحالما أشار السفير إلى الطائفة الشيعية، غادر الرئيس عارف القاعة على الفور دون أي كلام بعد أن علت وجهه نظرة ازدراء. لقد أثار هذا الحدث دهشتي وشعرت بالغضب، لان كل الجهود التي كنت قد بذلتها لبناء علاقات طيبة بين البلدين الجارين قد ذهبت سدى على حين غرة. من جانبه، شعر السفير بيراسته بالغضب أيضا بعد أن تم تجاهله وبدأ بالاحتجاج. طلب منّا رئيس التشريفات ووزير الخارجية العودة إلى قاعة الاستقبال وحاولا تهدئة السفير. غير أن السفير أصر وبصوت عال بأن على رئيس جمهورية العراق أن يعتذر لتجاهله السفير ومغادرة قاعة المراسم. قلت له بأن ما يطالب به هو ضرب من الخيال لأنه لا يمكن لرئيس الدولة أن يعتذر لأي شخص بما ذلك السفراء. وطلبت منه أن يهدأ وأن يقبل باعتذار رئيس التشريفات الرئاسية ووزير الخارجية. وبعكسه، قلت له أنه لن يحظى بأية مقابلة مع كبار المسؤولين العراقيين. لم يستمع الدكتور بيراسته إليّ وغادرنا القصر الرئاسي يلاحقنا العار بعد ما كنت قد حذرته كثيرا. أما الدكتور بيراسته فقد تصرف وكأن شيئا لم يحدث، وبدأ بزيارة السفراء الآخرين. غير أن طلباته بمقابلة الوزراء العراقيين أو الشخصيات الهامة لم تلق أذانا صاغية. وكانت النتيجة أن غادر السفير بغداد متوجها الى طهران بسيارة السفارة بعد مضي خمسة عشر يوما. وخلال الاسبوعين اللذين أمضاهما في بغداد، التقى السفير بيراسته بمسؤولي المخابرات المركزية في السفارة الأمريكية في بغداد بشكل متكرر. علما أني كنت اتجنب مثل هذه اللقاءات، لمعرفتي الوثيقة بأن عقد اللقاءات مع مسؤولي المخابرات المركزية الأمريكية من شأنه أن يخلق احتكاكا غير مبرر مع العراقيين المتشككين الذين كانوا يخافون من ظلهم. إضافة إلى ما تقدم، لم أتطلع إلى الحصول على نصائحهم لسبب بسيط مفاده بأن سياستنا في العراق تختلف عن سياستهم. كما كانت لدي وسائلي الخاصة لمعرفة ما كان يدور في السفارة الأمريكية. في الواقع، كانت السكرتيرة الخاصة للسفير الأمريكي خليلتي، وكانت تزورني عدة مرات خلال الاسبوع. وبما أنني لم اتخذ من منزل السفير أو من مجمع السكن الدبلوماسي سكنا لي، فقد كان بوسعها أن تأتي وتغادر بواسطة سيارة أجرة دون إثارة الشبهات. وكانت فتاة ثرثارة، تكثر من تناول الشراب والطعام و ما يعقب ذلك من أمور، حيث كانت تبوح لي بكل ما تعرفه. بل كانت تبوح بأكثر ما كان لأي شخص أن يطلبه. وقد علمت منها بأن العقيد بيجمان كان مسؤولا بشكل كبير عن تعريف سفيرنا الجديد غير المجرب إلى مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في العراق. وكان ذلك خلافا أيضا لنصيحتي للسفير. غير أن الدكتور بيراسته لم يستمع إلى نصيحتي ويبدو أن ممثل السافاك فقط كان من يلقى اذانا صاغية من جانب السفير. استغرق الأمر سبعة أشهر، وبمساعدة من سفيري تركيا وباكستان، اقتنع العراقيون باستقبال الدكتور بيراسته ثانية. ومن أجل التهيئة لعودته إلى بغداد، طلبت من وزير خارجيتنا استدعائي إلى طهران لتوضيح التطورات الأخيرة الحاصلة. وفي طهران، التقيت بصديقي العزيز واستاذي، احمد ميرفيندرسكي الذي شغل منصب وكيل الوزارة للشؤون السياسية وبما أن غلام عباس أرام كان خارج البلاد فقد كان هو الوزير بالوكالة. أوجزتُ وكيل الوزارة بتفاصيل ما حدث، منذ بدء المشكلة. أما العراقيون فقد قالوا بأنهم سيستقبلون السفير شريطة أن يتصرف كسفير. طلب مني وكيل الوزارة أن أرافقه في لقاء مع الشاه محمد رضا، الأمر الذي رفضته بسبب خشيتي من أن يقوم الشاه، الذي يُعرف عنه أنه رجل ذكي، بتوجيه بعض الأسئلة التي لم أكن لأرغب بالاجابة عليها. لكني عرضت عليه استعدادي بكتابة كل ما قلته، وبذلك يكون بوسعه تقديمه في تقرير إلى الشاه. أضفت قائلا بأني لن اوقع التقرير. أخذ تقريري فورا وتوجه إلى الشاه وطلب مني أن انتظر بمكتبه. وعاد بعد ساعة من الزمن قائلا بأن صاحب الجلالة نصحه بأن أعود بأول طائرة إلى بغداد وأن انتظر وصول السفير إلى بغداد خلال بضعة أيام. رجوت أحمد بأن يتم نقلي من بغداد بعد وصول السفير إذ بات واضحا بأن العمل معه تحت سقف واحد غير ممكن. وقد وعدني أحمد بترتيب مسألة النقل إلى طهران أو إلى مكان آخر. غير أن وعده ذاك لم يتحقق لسوء الحظ بسبب فقدان حظوته لدى الشاه بعد فترة قصيرة من ذلك اللقاء سمح لطائرات روسية بتنظيم رحلات جوية اضافية فوق الاراضي الايرانية لمساعدة مصر في حرب الايام الستة والتي كان الشاه قد وافق عليها بمبادرة منه وطُلب منه العودة إلى منزله. وفي أعقاب ذلك، وبعد أن فقدت سندي وصديقي في وزارة الخارجية، أحمد ميرفيندرسكي، وبوجود أرام وزيرا للخارجية والدكتور بيراسته رئيسا مباشرا، أدركت بأن المهمة التي تنتظرني ستكون شاقة. لا أعرف نوع التعنيف الذي تلقاه الدكتور بيراسته على يد الشاه محمد رضا، ولكن السفير أصبح على درجة عالية من الانصياع في تأدية مهامه.
الأصول الفارسية
2
وفي الجزء الثاني والأخير من مذكرات القائم بالاعمال الايراني في العراق، هاشم حكيمي، يتحدث الدبلوماسي الايراني السابق عن موقف بلاده من الجالية الفارسية المقيمة في العراق، والدور الذي يجب أن تضطلع به في خدمة ايران. ولا بد من القول في هذا الصدد، بأن هذه الجالية، بما في ذلك العراقيون من أصول فارسية، لم تشهد أوقاتا أكثر ازدهارا وبهجة مما هو عليه الحال اليوم في العراق حيث يتبوأ العديد منهم مواقع مهمة وحساسة في بنيان الحكومة العراقية حتى صار الانتساب إلى الأصول الفارسية ميزة يتشدق بها المسؤولون في عراق اليوم. وقد كان الانتماء إلى الأصول الفارسية عبر مئات السنين موضوعا شائكا ومثيرا للجدل تباينت حدته تبعا للتأثير الذي وقع تحته العراق. فعندما كان العراق يرزح تحت النفوذ الفارسي كان الفرس المقيمون في العراق، والعراقيون من أصول فارسية، ينعمون بمعاملة تفضيلية غالبا ما تضعهم فوق العرب. وفي المقابل، وعندما كان العراق يرزح تحت النفوذ العثماني تنقلب الآية ويصبح الانتماء إلى العرق التركي أفضل شأنا. وفي كلا الحالتين كانت حقوق العرب الذين كانوا ومازالوا يشكلون الغالبية العظمى من سكان العراق مهضومة. في هذا السياق، أود أن انقل للقارئ الكريم ترجمة ما كتبه القائم بأعمال سفارة إيران الأسبق في بغداد 1963 ـ1967 المستشار هاشم حكيمي عن موقف بلاده من مسألة الرعايا الفرس القاطنين في العراق وذلك في مذكراته الشخصية التي نشرها سنة 2003 حيث يقول ما يأتي تحت عنوان مسألة العراقيين من ذوي الأصول الإيرانية:
بعد عودته إلى بغداد ، قال لي السفير الدكتور بيراسته، أنه في ضوء المسؤوليات الاكثر أهمية الواقعة على عاتقه، فإن ليس لديه ما يكفي من الوقت لمتابعة ما يدور من أعمال مكتبية في السفارة وأن عليّ أن امضي قدما بمسؤولياتي كما كان عليه الأمر بالسابق عندما كنت قائما بالاعمال . وقد كان هذا الأمر مدعاةً لبهجتي. وهكذا تم اعداد البريد إلى طهران كما جرت عليه العادة حيث اكتفى السفير بالنظر اليه سريعا وتوقيع الكتب والتقارير السياسية التي دأب موظفونا على كتابتها بالتشاور مع الدكتور زولين ومعي. وكان الدكتور بيراسته منشغلا في معظم الأوقات مع العقيد بيجمان ممثل السافاك ومع ضباط الارتباط التابعين لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وكان السفير دائم التردد على مدينتي كربلاء والنجف حيث يلتقي بجميع رجال الدين. ولم أرغب على الاطلاق في التعرف على ما كان يدور بينه وبين رجال الدين هؤلاء، لأنه كان في أغلب الاوقات على عكس ما اتسلمه من ايجازات. ولكن في احد الايام استدعاني السفير الى مكتبه حيث كان العقيد بيجمان قد أصبح جزءا ثابتا من آثاث مكتبه وبدأ في نقاش مطول بشأن وجود العديد من الرعايا الإيرانيين والعراقيين من الأصول الفارسية في العراق معتبرا أن ذلك يخلق مشكلة كبيرة لنا. وأضاف السفير بأن هؤلاء لم يكونوا مجرد ثقل على كاهلنا، لكن وجودهم منح العراقيين وسيلة للضغط علينا من خلال استخدام الايرانيين الشيعة كوسيلة لمقايضتنا. وعليه قرر السفير عودة هؤلاء جميعا إلى ايران. أضاف السفير أنه وبمساعدة ممثل السافاك في السفارة العقيد بيجمان فقد تم اعداد نموذج خاص سيتم طباعته بآلاف النسخ، حيث ستقوم القنصليات العامة في بغداد وكربلاء والبصرة بتوزيعه على المستحقين. بدت علامات النصر واضحة على وجه العقيد بيجمان حيث عبر عن دعمه لفكرة السفير هذه المتفردة في عظمتها. استغربت كثيرا لما جاء على لسان السفير، وكعادتي لم يكن بوسعي إلاّ أن ادلي بدلوي، حيث ابديت ملاحظاتي على خطته. إن الأمر الذي لم يستطع السفير أن يفهمه إطلاقا هو أن وجود جالية إيرانية كبيرة في العراق كان بحد ذاته رادعا يبعدنا بعض الشيء عن العراقيين. إن عودة الإيرانيين إلى بلادنا سيسعد العراقيين كثيرا وسيجعلهم ممتنين لنا، حيث سيكون بوسعهم أن يفعلوا ما يشاءون. وإن كان الإيرانيون المقيمون في العراق مصدر ازعاج لنا فإن ذلك خطؤنا لأننا لم نعتن بهم كما ينبغي بل أسوأ من ذلك، فقد اهملناهم لسنوات طويلة وتركناهم وحيدين في مواجهة السلطات العراقية دون أن نقدم لهم أي عون أو دعم. وعوضا عن ترحيلهم إلى إيران، هذا إذا ما كنا قادرين على ذلك، ينبغي علينا أن نُنظم صفوفهم وأن نستخدمهم كطابور خامس لنا في العراق. والحقيقة فإن العراقيين كانوا يرحلونهم لأبسط الاسباب. لقد كان من شأن خطة السفير أن تدفع بالعراقيين إلى ترحيلهم جماعيا. وحتى إن نجحنا في اعادتهم إلى ايران، فهل سنقدر على إيوائهم؟ وما هي الخطة اللوجستية المعدة لتوفير وسائل العيش المناسبة لهم؟ وما هو البرنامج الذي ستوفره لهم الحكومة؟ وما هي الخطط المعدة لتعليم أبنائهم؟
اجاب الدكتور بيراسته بأن كل شيء قد تم اعداده، إذ سيتم إيواء المُرحلين في ثكنات قام ببنائها للمشردين قبل فترة من الزمن وأن وزارة العمل وعدته بأن تجد لهم عملا. كما ستقوم وزارة التربية بتوفير المدارس اللازمة لهم. ولن تكون هناك أية مشكلة. وفي ضوء إطلاعي على الامكانيات والقدرات المحدودة لحكومتنا، فقد كانت الفكرة بالنسبة لي ضربا من الخيال ولم يكن بوسعي قبولها. وقد اعتقدت بأن الفكرة كانت كمن يجري وراء السراب. وقد حاولت التأكد في حديثي مع السفير إنْ كان قد أخبر السلطات في طهران بأن عليهم أن يتعاملوا مع مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال؟ أو ربما يعتقدون بأنهم ليسوا أكثر من بضع مئات؟ وقد كانت قناعتي بأننا سنفتح علينا صندوق العجائب؛ ولحين بدء هذه العملية، لن يكون بوسع أي شخص معرفة عواقبها. وكنت على ثقة تماما بأن سفارتنا وقنصلياتنا العامة سينتهي بها الأمر إلى كارثة لا يمكن تفاديها. وقد استمر الجدل بيننا لبعض الوقت. غير أن السفير وصاحبه الجديد لم يكونا على استعداد للاستماع إلى لغة العقل. وقد ضقت ذرعا في نهاية المطاف، وقلت لهما بكل صراحة أنه من وجهة نظري فإن هذه الخطة ستخدم العراقيين وعليه ساعتبرها بمثابة خيانة للبلاد ولشعبنا. إضافة إلى ما تقدم، فإني لن أكون طرفا في هذه الخطة وسارفض أن اضع توقيعي على أية وثيقة ذات صلة بتنفيذها. لم ينبس الدكتور بيراسته ببنت شفة لكنه مضى قدما، برفقة العقيد بيجمان، في تنفيذ الخطة. وتم الانتهاء من طباعة النماذج ووزعت على الجالية الإيرانية من جانب قنصلياتنا العامة. وتم تكديس الايرانيين في حافلات واعيدوا إلى إيران. وكان على الدكتور بيراسته أن يقوم بزيارات مكوكية بين طهران وبغداد في مسعى لمعالجة المشكلة الكبيرة التي صنعها. لم يتم تهيئة أي شيء للعائدين، ولم تكن هناك مرافق لسكنهم، ولا أية مدارس، ولم تكن هناك أية خدمات إطلاقا. لقد حدثت فوضى وكانت كارثة بكل معنى الكلمة. أما أولئك الذين حاولوا العودة إلى العراق فقد رفضت السلطات العراقية قبولهم ثانية. وبقي الآلاف عالقين على الحدود في إيران. ولم يكن بوسع المدن الحدودية الصغيرة ان تواكب اعدادهم مما تسبب باضطرابات ومناوشات مع حرس الحدود والسلطات الإيرانية. واحتجاجا على هذه الأوضاع، جاء بعض العائدين إلى بغداد لغرض احتلال مبنى السفارة. ولحسن الحظ كنت قد غادرت بغداد في اجازة طويلة لم أعد بعدها إلى العراق. سمعت بعدها من زملائي بأن الوضع قد ساء كثيرا وبات خارج السيطرة مما اضطر السفير إلى الهرب من الباب الخلفي لمكتبه. وكان على السفارة أن تتصل بالشرطة العراقية لغرض تفريق المتظاهرين وطرد الايرانيين من سفارتهم والحقيقة، فقد تمكن بعض منهم ممن كان له أقارب في إيران بالبقاء في البلاد. ولكن المشكلة كانت وما برحت بأن ولاء هؤلاء المواطنين بقي موزعا بين حكومتي العراق وايران. ويرجع أصل مشكلة الموفدين كما يطلق عليهم اليوم إلى التصرف الأخرق للسفير الفج، الدكتور سيد مهدي بيراسته، بتشجيع وتنسيق من العقيد بيجمان حيث خلقا سابقة جديدة لم تكن معروفة من قبل.
543 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع