ملحمة گردمند ( عملية تحدي )
18 / 4 / 2019
ضمن سلسلة مقالاتي وصلت في مقالي السابق المنشور في الگاردينيا تحت عنوان ( المعارك الرئيسة الاولى للسرب 106 / بطائرات BO105 ) بتاريخ 7 تشرين ثاني / نوفمبر 2018 الى نهاية النصف الاول من عام 1983 بقيام العدو في حزيران/ يونيو بالسيطرة على جبال گردمند وكردكو وكودوا وسرسول بعد اجتيازه قصبتي حاج عمران ورايات والمحاولات العديدة لقطعات الفيلق الاول لاسترداد ما احتله العدو ولكن وعورة المنطقة افشلت جميع المحاولات لاستعادتها وبذلك سيطر العدو على محور راوند وز - حاج عمران واشرف على قصبة جومان .
لذلك فقد كانت لمعركة استعادة جبل گردمند خاصية متميزة سآتي عليها من سياق هذا المقال الذي كل ما يحتويه هو من ذاكرتي وبمساعدة بسيطة من اثنين من طياري السربين 106 و 30 المشاركين في المعركة ضمن طائرات الاسناد.
اهمية وخصوصية ملحمة كردمند
تأتي اهمية هذه المعركة والتي اسميتها (ملحمة) من خلال العملية الجريئة التي تمت بها، فقد انفرد وحسب معلوماتي الجيش العراقي بعملية لم يسبق لي ان اطلعت او قرأت بما يشابهها في التاريخ العسكري , ولم يتطرق لها الاعلام او الكتابات العسكرية لمجريات القادسية او مذكرات القادة سوى ما تم ذكره, ان العدو استطاع السيطرة على جبل گردمند
وتمكن الفيلق الاول وبقيادة اللواء الركن نعمة فارس من استعادة الجبل بصولة جوية رأسية ! مع تضحيات كبيرة للطائرات السمتية ( مي 17 ) وبعدد 36 طائرة ! كما جاء في مذكرات الاخ الفريق الركن (رعد مجيد الحمداني) في الصفحة 94 من كتابه الموسوم ( قبل ان يغادرنا التاريخ ) , وهو رقم مبالغ به كثيرا وكذلك فان الصولة تمت بطائرات مي8 وليس مي17 التي لم تكون قد دخلت الخدمة في سلاح طيران الجيش حينها , وربما كان يقصد معركة گردمند عام 1986 حيث كانت الخسائر في طائرات مي 17 . وتعتبر هذه المعركة فخرا لجيشنا الباسل وطيران الجيش والقوات الخاصة المتمثلة باللواء 32 قوات خاصة واسراب المي8 المشاركة , وكان اختيار الاسم الرمزي للعملية ( عملية تحدي ) صائبا وواصفا للعملية لما اتصفت به من شجاعة نادرة وتحدي لجميع الاعتبارات والعوامل المهنية العسكرية .
البدايات
منذ بداية تعرض العدو تواجدت مفرزة من السرب 106 وبطائرتين نوع BO105 في جناح طيران الجيش الاول المكلف بأسناد الفيلق الاول بمطارK1 في كركوك شاركت المفرزة مع اسراب الجناح الاول في التصدي للتعرض وادامته لعدم اعطاء العدو الفرصة لتحصين دفاعاته .
خلال ادامة التعرض على مواضع العدو اصيب المقدم الطيار (وليد عبد المجيد راضي) المنسوب الى السرب 30 (طائرات الويت3) المسلحة بصواريخ AS12 المضادة للمنعات او مدفع جانبي 20 ملم , اصيب بشظايا المضادات الجوية المعادية استلزمت علاجه ( استشهد لاحقا في معركة بنجوين في شهر تشرين ثاني 1983 بعد شفاءه ) .
اما في مقر السرب 106 في التاجي فقد كانت الفعاليات اليومية تسير بشكل اعتيادي , وكانت لدينا طائرتين من السرب 30 ( الويت 3 ) نفذت اخر طلعتي تمرين التعاون مع المدفعية .
يوم 20 تموز استلمت الامر بان تتوجه طائرة من السرب الى قاعدة الحرية الجوية في كركوك لواجب خاص , قررت ان انفذ الواجب للاطلاع على الموقف وزيارة مفرزة السرب .
وصلت الى قاعدة الحرية الجوية واوجزت بالواجب وهو نقل ضابط استخبارات من الفيلق الاول مع احد المتعاونين الاكراد وكما اتذكر بان اسمه ( تحسين ) ويتميز ببنية قوية وطول فارع وحاجبين كثيفين وكفين كبيرين قويين , الى معسكر (قلعة دزة ) , وكانت فرصة جميلة لاستعادة ذكريات قديمة في شمال الوطن . بعد انتهاء الواجب عدت مع ضابط الاستخبارات الى قاعدة الحرية وبقي الاخر في قلعة دزة . واقلعت الى الجناح الاول واستفسرت عن مفرزة السرب فكان الجواب بتواجدهم في ديانة ، وعدت مساءاٌ الى التاجي مقر السرب 106.
ذكرت هذا الواجب لارتباطه بحادثة رأيت ان اذكرها , فحين كنت منتسبا لكتيبة الدبابات الخامسة في معسكر الدريهمية في الزبير كانت تشاركنا كتيبة الدبابات الاولى , عام 1971 اشتركت بدورة في مدرسة الدروع في الموصل وكنت برتبة ملازم ورافقني في الدورة ذاتها الملازم الاول (سعد خلف) من الكتيبة الاولى واتفقنا على السفر سوية والسكن في غرفة واحدة في الفندق خلال الدورة . التقيت المقدم ( سعد خلف ) خلال معركة گردمند وكان بمنصب ضابط استخبارات او توجيه معنوي بعد ان افترقنا منذ التحاقي بالقوة الجوية نهاية عام 1973 , وفي نهاية عام 1983 وصلني خبر استشهاده في كمين شارك به المدعو ( تحسين ) في منطقة قلعة دزة والذي ادين ونفذ به حكم الاعدام من قبل الفيلق الاول .
موقف محرج
يوم 23 تموز صدر الامر بتعزيز مفرزة الجناح الاول بطائرة مسلحة واحدة , استغربت لهذا الامر ( الطبيعي يكون بتشكيل لا يقل عن طائرتين ) نفذت الواجب بطائرتين احداهما بقيادتي الى مطار K1 ثم الى ديانة . وانا اتقرب للهبوط لاحظت تواجد طائرتي السرب في المهبط فحمدت الله تعالى كون التعزيز غير المعتاد بطائرة واحدة ليس بسبب سقوط احداهما, التقيت بالطيارين ومن ضمنهم طياري السرب , ثم توجهت الى غرفة الحركات لمعرفة الواجب , ليواجهني قبل الدخول الى غرفة الحركات العميد الطيار ( محمد عبدالله ) مدير حركات طيران الجيش وهو في اشد حالات الغضب ! ويتهم ( آمر مفرزة السرب ) وهو من الطيارين القدامى بالجبن ويتوعد بإعدامه فورا ! استفسرت منه عن السبب , فاخبرني وبعصبية وتوتر بانه كان هذا الصباح يقوم بواجب حماية طائرة مي8 تقوم بإدامة احدى الوحدات المتقدمة واصيبت طائرة مي8 اصابة مباشرة وتحطمت ولم يقوم بإنقاذ طاقم الطائرة واخلائهم بحجة عدم تمكنه من الوصول الى منطقة الحادث لشدة النيران المعادية , بينما تم تكليف طيار آخر استطاع وبطائرة مي8 من اخلاء الطاقم المصاب بسلام ! لذلك يجب اعدام هذا الجبان بعد تعويض النقص بطائرة اخرى ! كان هذا الحديث امام المقدم ( سعد خلف ) المشار اليه آنفا . وكان العميد محمد عبدالله مصرا على تنفيذ تهديده ولم يتقبل اي نقاش .
استغليت علاقتي الجيدة مع العميد محمد عبدالله منذ معركة الشيب عام 1981 والتي نشرتها الگاردينيا في مقال سابق , وعلى غير عادتي توسلت به بان اعدامه له تأثير سلبي على معنويات الطيارين والسرب 106 خصوصا لما يتمتع به من سمعة جيدة , وكذلك فان هذا الاجراء سيكون وصمة عار على طيران الجيش , وبعد تأييد واسناد من المقدم سعد خلف رحمه الله تعالى تم احتواء غضب العميد محمد عبدالله وطلب مني مغادرة هذا الطيار فورا الى مطار التاجي وعدم التوقف في مطار K1 , شكرته واسرعت الى مهبط الطائرات لأبلغه بان يغادر فورا الى التاجي ( وكان هذا الامر يسعده جدا لابتعاده عن المعركة ) طلب منه المقدم سعد خلف بان يدعو لي لإنقاذه من اعدام مؤكد , فسارع الى العودة الى التاجي .
اما طيار طائرة مي8 المصاب فكان الملازم الاول الطيار ( ح . ه ) و كانت اصابته شديدة في ساقه ولا يستطيع السير عليها بدون عصى ولغاية هذا اليوم . ومع الاسف فبعد مغادرته العراق في تسعينيات القرن الماضي تم تجنيده من قبل العميد محمد عبدالله ودخل العراق بصحبة المحتل الامريكي.
استغليت وجودي في ذلك اليوم ونفذت عملية استطلاع مسلح للقاطع وقصف الاهداف المعادية في جبل گردمند. وشرحت ما حدث لمفرزة السرب والتحقت الطائرة الثانية التي رافقتني الى المفرزة تعويضا للطائرة العائدة.
موقف طريف
عادة ومنذ ان كنا ننفذ الواجبات في شمال الوطن قبل الحرب مع ايران كنت احلق بطيران واطئ وفوق الطريق المار خلال مضيق ( گلي علي بيك ) مستمتعا بالطبيعة الجميلة رغم خطورة مثل هذا الطيران لكونه مضيق ( ضيق وذو تعرجات كثيرة ) وجدرانه عالية وطريقة الطيران بهذا الشكل يمثل متعة ومغامرة محسوبة تخفف من الملل خلال الرحلة ولكني كنت قد اعتدت المرور به واعلم تفاصيله.
بعد ان اكملت الواجب والقرار على العودة استفسرت عن من يريد ان يرافقني في رحلة العودة من ضباط الوحدات المتواجدين لقضاء اجازة او لأي واجب اخر , فلبى احدهم وكان برتبة نقيب اصطحبته معي , سلكت الطريق المعتاد وبالطيران الواطئ خلال الكلي , لاحظت الضابط وقد تملكه الرعب من المنظر فهو ينظر يمين ويسار ولا يشاهد سوى الجدران العالية واحيانا يكون الجدار امامه واقوم بالمناورة بتتبع الطريق , وكان يتمسك بالكرسي وبدون اي كلام ! حاولت ان اطمأنه بان ينظر الى وجهي وحين يراني خائفا فله ان يخاف والا فلا خطر من هذا الطيران! لم يكن يجيبني ابدا فقط يتمسك بالكرسي، ولحين اجتيازنا مدينة خليفان اتجهت وبشكل مستقيم الى مطار K1 للتزود بالوقود ومواصلة الرحلة الى التاجي , عند الهبوط حمل النقيب حقيبته وطلب عجلة توصله الى كراج كركوك ليواصل رحلته الى بغداد , طلبت منه البقاء دقائق فقط للتزود بالوقود ومواصلة الرحلة وباقل من ساعة سنكون في التاجي وتنتظرني سيارتي العسكرية وتوصله الى المكان الذي يريده , بينما ستكون رحلته الى بغداد من الكراج تستغرق عدة ساعات ولن يصل الا في ساعة متأخرة . رفض ما قلته واجابني ( لن اكرر تجربة التنقل بالسمتيات حتى وان كلفني ذلك ايام وليس ساعات ولعن الساعة التي جعلته يرافقني ) ولم تنفع مناشدتي له وان الطيران سيكون سهلا ومريحا الى التاجي , لذلك امنت له عجلة نقلته الى كراج كركوك .
الموقف في السرب 106
كانت طائرات وطياري السرب موزعين على مفارز في المنصورية والميمونة وكركوك وطائرة تصوير جوي في البصرة وكان الرائد الطيار ( ع . م .ش ) متواجد في مدينته البصرة , واقوم بتعزيز المفرزة بطيار آخر يكون بديله حين تمتعه بإجازة او اي عمل خاص به . كان الطيارون لقلة عددهم يبذلون جهدا متميزا ونكران ذات، وكان تواجدهم في السرب قليل فهم موزعين بين المفارز والاجازة الدورية او في الطريق لتبديل المفارز، اتصل يوم 20 تموز الرائد الطيار معلم الطيران ( ع . ر . ج ) وكان متمتعا بإجازة زواج مستفسرا عن الحاجة لقطع اجازته لكونه كان يتابع امور السرب وشعر بحراجة الموقف الذي نمر به , كنت في موقف محرج فالحاجة كانت لكل طيار ولكني اخبرته بان يستمر بإجازته و ان يكون تحت الطلب , ولكنني فوجئت بالتحاقه في اليوم التالي ضاربا مثلا رائعا بنكران الذات .
يوم 24 تموز/ يوليو 1983 صدر الامر بتعزيز مفرزة كركوك ب 4 طائرات مسلحة وطائرة اسعاف واحدة مع الطاقم الطبي استعدادا لمعركة گردمند . تم التنفيذ بآخر 5 طيارين ولم يعد يتواجد في السرب اي طيار وقام المساعد وهو ضابط اسلحة النقيب ( ع . ا . ش ) بواجبات آمر السرب . كلفت الرائد ( ع . ر. ج ) العمل على طائرة الاسعاف لاحتمال قيام طائرة الاسعاف بأخلاء الجرحى والحالات الطارئة الى مستشفى الرشيد العسكري فيستغل وجوده في بغداد لقضاء ليلته هناك والعودة باكرا الى منطقة الواجب .وهذا اقصى ما تمكنت من عمله اتجاه موقفه المشرف .
تم تعزيز المفرزة الفنية في كركوك بضابط اسلحة السرب الأقدم الرائد ( ك . م . ح ) ومهندس من السرب والمراتب من جميع المهن مع تهيئة الطائرات المتبقية في السرب لتكون احتياط لتعزيز الطائرات التي قد تصاب او تحتاج الى الصيانة ,وصلنا الى ديانة قبل ظهر ذلك اليوم عن طريق مطار K1للتزود بالوقود وابقاء قسم من المفرزة الفنية بصحبة المهندس لتأمين المكان الملائم للإدامة والاسكان
بعد تأشير الخرائط باشرت بالطلعات القتالية لدلالة الطيارين على الاهداف والتعرف على المنطقة والتي استطلعتها يوم امس وكان مدير الحركات العميد الطيار محمد عبد الله وآمر جناح طيران الجيش الاول العقيد الطيار ( ه . ج ) متواجدين لإدارة معركة طيران الجيش .
سير العمليات 26 – 27 تموز/ يوليو 1983
كان سياق العمليات بان يتواجد تشكيلين من طائرتين وبشكل دائم امام الهدف ( جبل گردمند ) تقوم برمي الصواريخ الحرة على ان يتبعها تشكيلين آخرين ويكون الرمي بشكل دائم طوال اليوم وبدون توقف , وينفذ الرمي بجميع انواع الطائرات وبضمنها طائرات النقل مي 8 ! , وكانت هذه الفعاليات مستمرة منذ ايام .
بعد تنفيذي لطلعتين قتاليتين قابلت امر الجناح العقيد ( ه . ج ) واعترضت على استمرار الرمي بهذه الكثافة على هدف محدد , وهذا يعتبر هدرا بالجهد مع الخطورة , بينما يمكن ادامة القصف بواسطة المدفعية أو الهاونات الثقيلة , ناهيك عن الكلفة العالية للصواريخ ولو كنت مكان العدو لتركت هذا الموقع المعلوم كونه معرض للقصف وابدلته بموقع آخر , فحمولة طائرة مي8 من الصواريخ هو 60 صاروخ تطلق في كل طلعة من كل طائرة وكذلك حمولة طائرتي 44 صاروخ وكلها صواريخ حرة تقذف خلال ثواني , وكذلك صواريخ AS12 الموجهة والتي تطلق من طائرات الالويت3 . فكم هي كلفة الصواريخ التي نطلقها يوميا والتي لا اعتقد بوجود الحاجة لها . اجابني مستنكرا لملاحظاتي ( وهل تدفع الاموال من بيت الخلفك؟ ) انفعلت واجبته بعصبية ( نعم سيدي انها من بيت الخلفني ولخلفك ) فهذه اموالنا جميعا ! رد علي لا تناقش ولا تجادل فهذه اوامر القيادة وعلينا التنفيذ فقط . انتهى اللقاء واستدعيت ضابط اسلحة السرب وطلبت منه تحميل طائرات السرب بنصف الحمولة ( 20 صاروخ ) فقط كل حمالة تحمل ب10 صواريخ بدلا من حمولة كاملة 44 صاروخ دون اخذ الاذن من آمر الجناح , واستمرينا بتنفيذ الواجبات بهذه الحمولة . عدت بعد غروب الشمس الى مطار K1 .
كانت القوة الجوية تنفذ ضربات متكررة على الهدف والعمق مع تواجد المتصديات التي تقوم بحماية طائراتنا من تدخل مقاتلات العدو.
استمرينا بتنفيذ الواجبات بنفس السياق ليومي 26 و27 تموز/ يوليو مع الايعاز لقادة تشكيلات طائرات مي8 لتأشير المناطق الملائمة لهبوط الطائرات على قمة جبل كردمند وما يجاورها تحسبا قيام العدو باستخدامها لتموين قطعاته ! .
صباح يوم 27 تموز/ يوليو توجهت الطائرات الى ديانة وفور الهبوط تم رفع البوابات الخلفية لطائرات مي8 مما يعني ان هناك انزال بواسطة هذه الطائرات (ورفع البوابات الخلفية هو لسرعة اخلاء الطائرات من الركاب) , وقد لاحظنا وجود قطعات من اللواء 32 قوات خاصة قرب مهبط الطائرات موزعين على شكل مجموعات مع اكمال جدول الاركاب على الطائرات ثم تم تثبيت رقم الطائرة وطاقمها امام كل مجموعة , وكانت طائرات الانزال موزعة على 7-9 تشكيلات كل تشكيل مكون من 3 طائرات
خطة الهجوم
تم ايجاز الواجب وهو الانزال الرأسي على قطعات العدو المتمركزة في جبل گردمند بواسطة طائرات الصولة الجوية مي8 بتشكيلات مكونة من 3 طائرات لكل تشكيل وتكون مناطق الهبوط حسب ما تم تأشيره سابقا من اختيار المناطق المحتملة لهبوط طائرات العدو .
توضح لي سبب ادامة قصف قطعات العدو في جبل گردمند وبجميع انواع الطائرات وبضمنها طائرات الصولة الجوية مي8 , حيث يكون العدو قد اعتاد على القصف المستمر وبشكل روتيني يقوم بالاختباء في الملاجئ لحين انتهاء القصف, ففي هذا اليوم وعند التقرب من الأهداف يكون العدو يعتقد بانه القصف اليومي الروتيني فيلجأ الى الملاجئ , لتحدث المباغتة بالأنزال عليه وتحقيق التماس المباشر من قبل القوات الخاصة قبل ان يفيق من المباغتة. فكان نقاشي مع امر الجناح قبل ايام بسبب جهلي للخطة المتخذة , ومع ذلك لم يكون عملي سوى الاقتصاد بالعتاد .
لم تجري عملية التزود بالوقود لطائرات مي8 لتعويض وزن الحمولة وامكانية المناورة والهبوط في المناطق الجبلية .
تم تكليف المقدم الطيار ( ي . م . ص ) لقيادة العملية وتكليف الطيارين القدامى لقيادة التشكيلات لخبرتهم الجيدة بالعمل في المناطق الجبلية .
تسلسل عملية الانزال
1_ تقوم مدفعية الفيلق الاول بتوجيه قصف مركز على جبال گردمند وسرسول وكودو وكردكو والقطعات الساندة .
2_ تقوم طائرات القوة الجوية بقصف الاهداف المنتخبة.
3_ تتواجد متصديات القوة الجوية لحماية العملية وبشكل مستمر ومنع تدخل القوة الجوية المعادية.
4_ تباشر طائرات الانزال مي8 بالانفتاح مع اختيار مناطق الهبوط المؤشرة سابقا وعند التقرب من الاهداف تقوم برمي منطقة الانزال امام كل تشكيل بحمولتها من الصواريخ تمهيدا للهبوط و عند عدم ملائمة المنطقة لهبوط الطائرة يجري تعلق الطائرة قريبا من الارض ويتم انزال القوة المحمولة بالقفز من الطائرة.
5_ تقوم طائرات الاسناد المزودة بالصواريخ الحرة والموجهة والمدفع الرشاش 20 ملم بتقديم الاسناد عند الضرورة وملائمة الموقف.
6_ تبدأ القطعات الارضية المتمركزة اسفل جبل كردمند بتسلق الجبل فور تنفيذ عملية الانزال مستغلة انشغال قطعات العدو بمقاومة القوة الهابطة.
7_ تعود طائرات الانزال الى ديانة لنقل الرفعة الثانية وادامة الرفعات لحين اكمال نقلها كاملة . ثم الادامة الادارية وحسب تطور العملية
التنفيذ ثم الغاء العملية
اوعزت بتسليح طائرات السرب بحمولة كاملة من الصواريخ والوقود، وبعد اكمال الاركاب انطلقت 4 طائرات من السرب 106 لتنفيذ القصف الروتيني اليومي ضمن عملية خداع العدو بعد توقف القصف المدفعي , اقلعت بتشكيل من طائرتين من السرب ومعي في طائرتي آمر الجناح الاول العقيد( ه . ج ) لقيادة عملية الانزال, وبدأت طائرات الصولة بالإقلاع تباعا وحسب التوقيتات المقررة , اتجهت جميعها الى الهدف بطيران واطئ بصمت لاسلكي تام , وبمنظر مهيب وترقب لما سيحدث , قبل وصول الطائرات الاربعة الاولى صدر الامر من المجس الجوي في ديانة بإلغاء الواجب . استلمت جميع التشكيلات الامر وعادت الى مهبط ديانة .
تبين لا حقا سبب الغاء الواجب هو عدم تمكن القوة الجوية من قصف الاهداف المحددة لعدم تمييز الطيارين الاهداف بسبب الغبار العالق في الجو.
استمرت الفعاليات اليومية في ذلك اليوم وعادت جميع الطائرات الى مطار K1 عند الغروب لإيهام العدو في حالة وجود عيون له في المنطقة وعدم كشف العملية.
التنفيذ يوم 28 تموز/ يوليو 1983
وصلت التشكيلات صباح يوم 28 تموز الى معسكر ديانة , وتمت الاعمال كما جاء في الخطة وتم القصف المدفعي ثم قامت القوة الجوية بقصف الاهداف المحددة واقلعت 4 طائرات BO105ثم تبعتها طائرات الصولة مي8 وطائرات الاسناد وحسب التوقيتات المقررة وبصمت لا سلكي تام , وكان قرص الشمس قد ارتفع عن الافق مما لا يؤثر على الرؤيا عند التقرب من الهدف . اقلعت هذا اليوم بمفردي وكان آمر الجناح الاول بصحبة الرائد الطيار ( ع .ر . ج ) وبطائرة BO105 محملة بالصواريخ لقيادة العملية .
قاد التشكيل الاول المقدم الطيار ( ي . م .ص )وهو المعتمد عليه في نجاح العملية فأي تردد منه يؤثر على جميع التشكيلات , تقدمت طائرات الصولة بصمت وترقب لما سيحدث والجميع يحبس انفاسه ( رهبة من الموقف وترقب المجهول ) استمرت الطائرات بالتقرب من الهدف وكانت الدقائق أو اجزائها تمضي ونترقب ماذا سيحدث هل ستفتح نيران العدو المضادة للطائرات على تشكيلاتنا ؟ هل كشفت العملية والعدو هو الذي سيفاجئنا؟ الف حساب يدور بخلد المنفذين للعملية التي يلفها الصمت والترقب القاتلين نترقب وندعو الله تعالى سلامة منفذيها ولا نعلم من سنفقد من زملائنا بعد لحظات؟ وقت عصيب لا يمكن وصفه! كيف سنتصرف لو كان العدو قد نصب كمين لطائراتنا؟ امور عديدة كانت تدور بخلدي ولكوني وحيدا بالطائرة لا استطيع البوح بها لاحد (للتنفيس عن القلق) .
قبل دقائق تم مشاغلة الاهداف من قبل التشكيلين المتقدمين بعد قصف طائرات القوة الجوية، اقتربت طائرات الصولة من الهدف بنسق واحد لجميع الطائرات يتقدمها قائد الانزال البطل المقدم الطيار ( ي . م . ص ) , وفي المراحل النهائية للهبوط اطلقت جميع طائرات الصولة صواريخها على المنطقة المحددة لهبوطها ترافق ذلك مع كسر الصمت اللاسلكي من قبل امر الجناح وبنداء ( الله اكبر , الله اكبر , الله اكبر ) وبصوت عالي , وكان لهذا النداء الاثر المعنوي والنفسي الكبير ( فقد اقشعر جسدي ) وبدأت ارتجف من هول الحالة ! . بعد القصف استمرت الطائرات بالتقرب من مناطق الهبوط، وهنا تكمن اخطر مرحلة في العملية، فتكون الطائرات في اضعف الحالات وهدفا سهلا للمدافع حيث تكون بارتفاع قليل وهدفا واضحا وبدون سلاح للدفاع عن النفس ولا يمكن تقديم اي اسناد، , ولا يتمكن الطيار من المناورة لكون سرعته قليلة لذلك يحتاج الى القوة القصوى للمحركات يستخدمها للسيطرة على الطائرة لان ( قوة الرفع تتعامل طرديا مع عوامل الرفع ولكن عامل السرعة يكون طرديا مع مربع السرعة ) فكل ما كانت السرعة قليلة يحتاج تعويضها برفع قدرة المحركات دون تجاوز المحدوديات . ويستطيع العدو من استخدام سلاحه الشخصي و اصابة الطيارين الواضحين امامه. وهنا تكمن شجاعة وايمان وصبر الطيارين (وتحسب كل ثانية من التقرب للهدف وكانه الدهر بكامله! ) بدون امكانية للمناورة او التردد سوى التقدم وبصدور مفتوحة لحين الهبوط وانزال القوة المحمولة (وهي حالة لا يمكن تصورها لكونها خارج المعقول ) . ولكن العملية كانت مفاجئة للعدو وحين ايقن ان هذه الطائرات ستهبط على مواضعه كانت الطائرات في المراحل الاخيرة فكان رد فعله عشوائيا ومرتبك وغير منظم . اعلن قائد الانزال وبصوت مرتبك اصابة طائرته ولكنه رغم ذلك استمر لحين ملامسته الارض وترجل القوة المحمولة وتوالت نداءات عدد من الطيارين بإصابة طائراتهم بأسلحة العدو ورغم ذلك استمرت التشكيلات وبشجاعة نادرة من اتمام المهمة والعودة الى ديانة حاملين الجرحى من القوات الخاصة الذين اصيبوا داخل الطائرات وحاملين اوسمة الشرف بالإصابات المباشرة لطائراتهم من اسلحة العدو التي لم تمنعهم من حمل الرفعات المتتالية لتعزيز القوة الهابطة على العدو الذي افاق من الصدمة وبدأت نيرانه تتركز على الطائرات الهابطة مما ادى الى خسائر بسقوط عدد منها خلال الرفعات اللاحقة . التحم ابطال القوات الخاصة بمعركة ملحمية مع العدو وبكافة الاسلحة والرمانات اليدوية والسلاح الخفيف وكما سمعت وصلت الى الاشتباك بالأيدي المجردة . كنا في طائرات الاسناد نراقب المعركة دون ان نستطيع تقديم الاسناد بسبب الاشتباك المباشر مع العدو، كنت وحيدا بطائرتي ومن هول الموقف كانت ساقاي والتي تسيطر على دواسات التحكم على المروحة الخلفية للطائرة ترتجفان بشدة وحين انتبه على وضعي اتكلم مع نفسي وبصوت عالي (ولك جبان لماذا ترتجف اصمد اثبت) لأسيطر على ساقي ثم انتبه بعد قليل بتكرار الحالة واعود لا كلم نفسي ( لست جبان ولكن هول الموقف يؤدي الى هذه الحالة ) .
مع اشتداد اشتباك القوات الخاصة مع العدو تقدمت طائرات الاسناد المسلحة لتقديم الاسناد الناري في عمق الموضع الدفاعي المعادي ومناطقه الادارية وانفتاح اسلحته الساندة لغرض تحييدها ومنعها من التدخل في المعركة وتدميرها، وفعلا تم قصف تجمعاته واسلحته الساندة في جبل سرسول شرق جبل گردمند، وجود طائرات الاسناد فوق منطقة الاشتباك اعطى معنويات عالية لقوات الصولة،
وبدأت ملامح انهيار العدو و مع نفاذ العتاد وصلت تشكيلات جديدة من طائرات الاسناد، تم ايجاز طياريها وعادت طائرات الاسناد الاولى الى ديانة، وتم فحص الطائرات وتحميلها بالعتاد والوقود والتوجه الى گردمند , وحينها كانت طائرات الاسناد فوق الهدف قد انهت مهمة الاسناد لنحل محلها .
يفصل بين جبلي گردمند وسرسول وادي بسيط ( غير عميق أو رقبة ) وخلال تبديل تشكيلات طائرات الاسناد انتهز العدو الفرصة وحاولت قطعات العمق الادارية واسلحة الاسناد الهروب من خلال الطريق النيسمي بين الجبلين , وعند تقربي من قمة گردمند كان العدو في حالة هزيمة وابطال القوات الخاصة فوق مواضعهم الحصينة , لاحظت رتل عجلات تزيد عن 20 عجلة تحاول الهروب مستغلة الوادي بين الجبلين المخفي عن الرصد , حاولت قصف الرتل ولكن لم اتمكن من اصابته لكون الرتل كان يسير في مضيق لا يمكن استهدافه بالصواريخ التي اطلقت عدد منها فشلت في اصابتها ولكن كانت النتيجة ان توقف الرتل وسارع ركابه لأخلاء العجلات والاحتماء بالعوارض الجبلية , ناديت تشكيل من طائرتي الويت3 العائدة للسرب 30 والمسلحة بالمدفع الجانبي 20 ملم ( الذي اعرف خصائصه وخصائص الطائرة كوني عملت في السرب 30 سبعة سنوات ) ليلتحق بي وبعد الدلالة عولج الرتل وبسهولة بواسطة المدفع الرشاش وتم تدميره بشكل كامل مع ملاحقة افراد العدو المنتشرين هناك , فقد كان صيدا سهلا وثمينا .
كل هذا وكانت طائرات الصولة مي8 تواصل نقل القوات الخاصة و الاسناد الاداري بنقل مستلزمات ادامة العتاد ومواد التحصين.
بعد كل طلعة يقوم قائد التشكيل بكتابة تقرير المهمة ( على نموذج رسمي ) يشرح به كافة تفاصيل الطلعة الجوية , وترفع فورا الى غرفة الحركات للاطلاع عليها واتخاذ الاجراءات اللازمة على ضوء التقارير المقدمة وحسب الحاجة .
بعد وصول تشكيل جديد للمنطقة ونفاذ الصواريخ عدت الى معسكر ديانة . للتزود بالوقود والعتاد . ذهبت الى محل استراحة الطيارين لتناول الطعام والشاي واخذ قسط من الراحة بعد الجهد الكبير منذ فجر هذا اليوم، وجدت الرائد الطيار ( ح . م . د ) احد قادة تشكيلات الصولة ممددا على الارض وبحالة يرثى لها وهو مصاب وجسمه وملابسه مملوءة بالأشواك , ويشكو من الاصابة عانقته وحمدت الله تعالى على سلامته , اخبرني بان طائرته مي8 قد اصيبت من قبل العدو في الطلعة الثانية , وفي الامتار القليلة قبل الهبوط مما ادى الى سقوطها وتحطمها , وتمكنت القوة المحمولة من القفز منها بسلام وقذف هو والطيار الثاني الملازم الاول الطيار ( ا . ز ) من المقصورة وتدحرج الى السفح لحين الوصول الى قطعاتنا التي كانت تتسلق الجبل والتي قامت بإخلائه الى ديانة , وبقي الطيار الثاني في مكان تحطم الطائرة , وطلب مني وهو ينخاني بان اعود لأخلاء الطيار واعادته الى ديانة ( اخوي اخوي اريده منك ) وهذه قمة الوفاء فرغم اصابته لم ينسى زميله . واخبرني بانه كان في المرحلة الاخيرة للهبوط عندما ظهر امامي احد جنود العدو وهو يوجه قاذفة RBG نحوي ولم اتمكن من المناورة واستمريت بالتقدم للهبوط فأصابتني القذيفة مما ادى الى انفجار وتحطم الطائرة.
توجهت وبطائرة مفردة الى المكان المحتمل لتحطم الطائرة وبدأت ابحث عن الطيار (وهو عمل عبثي، فلا يمكن ايجاده في مثل هذه المنطقة الوعرة) وكان طيراني بسرعة بطيئة وارتفاع واطئ كي أتمكن من تفتيش المنطقة علما بان الاشتباكات لا زالت قائمة مع العدو. ويبدو بان العدو قد عزز دفاعاته ومن جبل ( كودو ) المشرف على قصبة رايات بمدفع ضد الطائرات بعد بدأ الانزال لكونه لم يكون موجود خلال عملية الانزال . ويبدو بانه رصد طائرتي لكونها هدف سهل ( ارتفاع واطئ وسرعة بطيئة ) فاستهدف طائرتي وكانت الانفلاقات حولي وبشكل كثيف كنت اشاهدها ولكن ولا اعلم لماذا لم اهتم بها ! واستمريت بالبحث دون اكتراث للانفلاقات التي تستهدف طائرتي ! وهنا سمعت نداء من احد طياري السرب 30 الملازم الاول الطيار ( ر . ز . س ) وهو يحذرني وبعصبية ( سيدي الانفلاقات حولك بكثافة وقريبة منك , اترك المنطقة ) وبينما كنت اجيبه بانني اراها اصيبت طائرتي بشظايا احدى الانفلاقات ونفذت الى مقصورة الطيار مما اجبرني وكرد فعل سريع الخروج من المنطقة بعد اعادة السيطرة على الطائرة . عدت الى ديانة خائبا و لكن وجدت الطيار الذي كنت ابحث عنه قد وصل سالما الى ديانة بعد اخلاءه بواسطة عجلة تابعة لأحدى الوحدات التي كانت تتسلق الجبل .
بعد استراحة مناسبة اقلعت وحسب تسلسل الواجبات بتشكيل الى منطقة الانزال وكانت قطعاتنا تتسلق (جبل كردكو ) شمال محور جومان رايات حاج عمران . والمشرف على قصبات جومان ورايات وحوضها الكبير , طلب مني المجس الجوي بالاتجاه صوب جبل كردكو وحين اقترابي من المجس وبطيران واطئ اشار لي الى ربيئة تعلوهم تعرقل تقدمهم , كانت المسافة قريبة جدا ولخشيتي من الخطأ اكدت عليه للدلالة على الربيئة , وبعد التأكيد وجهت صاروخين عليها وكانت الاصابة مباشرة وسمعت تهليل عامل المجس وانطلق عدد من الجنود من ربيئتهم الى الربيئة التي كانت تعرقل تقدمهم ثم استمروا بالتقدم .
استمرت فعالياتنا وتعزيز القطعات لغاية غروب ذلك اليوم العصيب المتعب المليء بالأحداث .
تقرر مبيت جميع الطائرات الصالحة للطيران في ديانة تحسبا لما يستجد من فعاليات في اليوم التالي , بعد اخلاء الطائرات المصابة الى الجناح الاول في K1 لإدامتها وتصليح الاعطال والاصابات , وكذلك اخلاء الطيارين المصابين الى المستشفيات وكل حسب شدة اصابته ومنهم من نقل الى مستشفى الرشيد العسكري في بغداد بطائرة الاسعاف .
بعد الطلعة الاولى تم تكليف الرائد الطيار ( ع . ر .ج ) بمسؤولية طائرة الاسعاف الجوي مستغلا نقله لجرحى الحالات الحرجة الى مستشفى الرشيد العسكري والمبيت في بغداد والعودة صباح اليوم التالي مبكرا ( تقديرا لحالته وقطعه اجازة الزواج ) ولحين انتهاء المعركة .
لم يكون معسكر ديانة مهيأ لاستقبال هذا العدد من الطيارين والفنيين لذلك فقد قضينا ليلتنا في العراء وكانت وسادتنا (حجارة وفوقها البيرية ) وافترشنا الارض وكان نوما عميقا بعد يوم متعب .
يوم 29 تموز/ يوليو كان الموقف مستقر لصالح قطعاتنا بعد استعادة جبال گردمند وسرسول وكودو وكردكو والسيطرة على محور راوندوز حاج عمران كاملا . استمرت طائرات مي8 بواجبات الاسناد الاداري وطائرات الاسناد المسلح بواجباتها لتقديم الحماية ورمي تجمعات العدو بالعمق . وقمت وبصحبة آمر الجناح الاول بطلعة استطلاعية للقاطع وبشكل مفصل ورمي قطعات العدو في المناطق المشرفة على حاج عمران , وقدم التقرير المفصل لنتائج الاستطلاع لقيادة الفيلق .
كان اختيار اسراب مي8 لهذه العملية لمن كان طياريه لهم الخبرة الجيدة في طيران الجبال لصعوبته , وعلى الخصوص قادة التشكيلات وكذلك طياري طائرات الاسناد. يوم 28 تخلف عدد قليل من قادة تشكيلات طائرة مي8 بعد ان الغي الواجب لليوم الماضي عن المشاركة وآثروا البقاء في مطار K1 .تم توجيه الاتهام لهم بتعمد عدم الالتحاق في يوم الانزال بعد ان تكشفت لهم خطورة الواجب ( ولكل انسان ظرفه الخاص لا نعلم به ) , احيل هؤلاء الطيارين ( وهم برتب متقدمة ) على التقاعد وبرتبتين ادنى . احدهم صديقي المقرب تم اغتياله بعد الاحتلال امام بيته بعد ان تأكد القاتل من هويته بمناداته وعند اجابته تم اغتياله. رحمه الله تعالى.
عدنا مع غروب ذلك اليوم الى مطار K1
يوم 30 تموز استمرت الفعاليات في ديانة. وصلت الاخبار بتعرض العدو في قاطع زرباطية وتحقيقه بعض الانجازات وان المعارك دائرة في ذلك القاطع مع اخبار بتنفيذ اعدامات ببعض الضباط بتهمة التقصير أو التخاذل وتطويق احد الافواج في مرتفعات الدراجي. عدنا مع الغروب الى مطار K1 .
يوم 31 تموز صدر الامر باعادة كافة التعزيزات الى مقراتها مع بقاء المفرزة الثابتة المكونة من طائرتين ، عادت 4 طائرات وبصحبتها المفرزة الفنية والمهندس وضابط الاسلحة الى مقر السرب – التاجي بعد ان قاموا بواجباتهم وبصورة مشرفة مواصلين الليل بالنهار لأجل ادامة الطائرات وتأمين المواد الاحتياطية وتصليح العطلات وادامة العتاد وادامة منظومات الرمي . فهم حقا يستحقون الاشادة .
اما الطائرة الخامسة فكانت بقيادتي وكلفت بنقل احد القادة من قاعدة الحرية في كركوك الى قاعدة فرناس في الموصل ثم العودة الى التاجي بعد التزود بالوقود من مطار (الصينية في بيجي) .
وللأسف فقد صرح قائد الفيلق الاول اللواء الركن (نعمة فارس ) للأعلام ونشرته مجلة الف باء ( كنت احتفظ بالنسخة وفقدتها حين بحثت عنها الان ! ) بانه اختار اصعب واخطر الحلول لاستعادة جبل گردمند بالأنزال الرأسي على العدو ونجحت العملية ( وبدون اية خسائر!!! ) وهذا غبن للتضحيات التي رافقت العملية.
لم اطلع او اقرأ في التاريخ العسكري بان يجري انزال القطعات المحمولة بواسطة السمتيات على العدو مباشرة. فالإنزال يكون اما امام العدو بمسافة معقولة كما حدث في معركة ( جسر قناة التغذية خلال معركة الفاو عام 1986 ) كما جاء في مقال لي سبق ان نشر في الگاردينيا بعنوان (فرسان طيران الجيش في معركة الفاو ) , او خلف خطوط العدو كما حصل في معارك تحرير جزر مجنون عام 1988. لذلك فان هذه الملحمة تعد فخرا لجيشنا الباسل ولطيران الجيش والقوات الخاصة .
بعد انسحاب القوات الخاصة من جبل گردمند واستلام المشاة للمواضع الدفاعية تمكن العدو من الاستيلاء على جبل گردمند مرة اخرى واستمر احتلاله الى شهر مايس 1986 حيث تم طرد العدو منه من قبل الفيلق الخامس المشكل حديثا وبخسائر كبيرة في طائرات مي17 وطائرات الاسناد المسلحة اكثر من ما فقدناه في المعركة الاولى.
قام العدو بتعرض واسع في قاطع مهران زرباطية كما جاء اعلاه و وفصلت مشاركتي مع السرب 106 في المعارك من خلال مقال نشر في الگاردينيا بعنوان ( وجوه اخرى من بطولات فرسان طيران الجيش ) . وكانت فيها اول خسائر السرب حيث استشهد النقيب الطيار (سحاب سيد وادي) وتحطمت طائرته واحتجز طيارين من السرب بأمر القائد العام للقوات المسلحة واحالتهم للتقاعد ثم اعادتهم بعد اشهر للخدمة بعد اتضاح الامر ,واصبت فجر يوم 8 /8 /1983 وتمكنت من اعادة الطائرة الى ( بدرة ) واصيبت طائرة معاون آمر السرب وتم اخلائه من قبل الطائرة الثانية في التشكيل وتم اخلاء طائرته من ارض المعركة ومن ثم ارسالها مع طائرتي المصابة الى شركة ( كاسا ) في اسبانيا لغرض التصليح واعادتهما للخدمة . مع استمرار تكليف الرائد الطيار ( ع . ر . ج ) بواجبات طائرة الاسعاف طيلة ايام المعركة تعويضا له عن اجازة الزواج .
كانت هذه خسارة كبيرة للسرب فقد نقص 4 طيارين بضمنهم آمر السرب بعد ان دخلت المستشفى نتيجة الاصابة ونحن اصلا نعاني من نقص في عدد الطيارين. لذلك فقد عملت على رفع الحالة المعنوية لمنتسبي السرب وطياريه لتجاوز ما حدث، وكانت استجابتهم رائعة فلم تبدوا عليهم اية آثار سلبية لما اصاب السرب من خسائر، واستمروا بأداء واجباتهم بروح وطنية عالية وهذا هو نهجهم.
طائرات الإسعاف BK117
تعاقدت وزارة الصحة ( نيابة عن وزارة الدفاع ) كما حصل سابقا في طائرات ( BO105 ) الاسعاف مع الشركة الالمانية المصنعة ( مسر شمت ) لشراء انتاجها الجديد المشترك مع اليابان ( BK117 ) للإنقاذ الجوي وقامت وزارة الصحة بالتعاقد بسبب الحظر على توريد السلاح الى العراق فالطائرات تكون للاستخدامات المدنية .
وصلت طائرة منها الى مطار بغداد الدولي وتم الامر لي باختبار صلاحية الطائرة للعمل بالأجواء العراقية , نفذت الواجب يوم 17 /8 /1983 من مطار بغداد الدولي باتجاه منطقة ديانة والهبوط على جبل ( سر حسن بيك ) وبدون توقف , ثم التزود بالوقود من ديانة والعودة . وباستثناء طريقة تشغيل الطائرة فلا تختلف بقية القيادات عن طائرة BO105 .
وفي يوم 20 /8 تم الاختبار مرة ثانية والى مطار حديثة والعودة بدون التزود بالوقود . قدمت تقرير التجربة وكانت ناجحة والطائرة ملائمة للعمل في الاجواء العراقية وبكفاءة جيدة . وبالفعل تم التعاقد على شراء سرب منها والحق بقيادة القوة الجوية تحت اسم السرب 117 واسكانه في قاعدة تموز الجوية في الحبانية
دخول مستشفى القوة الجوية
راجعت مستشفى القوة الجوية بعد اشتداد الالم في منطقة الظهر نتيجة الاصابة التي اصبت بها في المعركة السابقة، ونتيجة الفحوصات والاشعة ظهرت اصابتي بكسر في فقرتين مما استدعى رقودي في المستشفى لتلقي العلاج اللازم، وعند استفسار الطبيب المختص عن سبب الاصابة طلب تنظيم تقرير للإصابات الفورية لتثبيت شدة الاصابة .
رقدت في غرفة وكان معي ضابط برتبة ملازم طيار من احد اسراب طائرات ميك 21 تطلبت حالته الصحية تلقيه العلاج في المستشفى , وكانت تصلني يوميا مواد غذائية وغيرها يشاركني بها . ونتسامر ليلا من خلال الذكريات لتلافي الملل بعد انتهاء العلاج اليومي الذي يجري خلال الدوام الرسمي وبعده لكلينا , وتدور الايام وعندما كنت بمنصب ( آمر جناح طيران مدرسة طيران الجيش ) في الصويرة عام 1988 ان التقي بهذا الطيار تلميذا في السرب 530 للتدريب الاساسي ومنه ينتقل الى السرب 117 طائرات الانقاذ الجوي BK117 التابعة للقوة الجوية .
نلت هدية رئيس الجمهورية مسدس نوع طارق للآمرين الجرحى , دون نيل نوط الجريح لسبب عجيب في قانون نوط الجريح والذي ينص على ان تكون الاصابة من الامام ويصاحبها نزف الدم!! لذلك لم يشملني النوط وانما فقط المسدس الهدية. كنت اعاني ومنذ زمن سابق من الم في المعدة , فاستغليت رقودي بالمستشفى لأقوم بمراجعة اخصائي الباطنية العقيد الطبيب ( ن . ع ) الذي طلب مني اجراء الفحص بالأشعة الملونة ( الباريوم ) للمعدة والتي اظهرت وجود قرحة في الاثنى عشري مما استدعى للخضوع لعملية الفحص بالناظور ( وهي عملية مزعجة جدا ) اثبت وجود القرحة وموقعها . فخضعت لعلاج القرحة . واصبحت زبونا شبه دائم لهذا الطبيب الكفوء مهنيا وذو اخلاق عالية واستمر بعلاجي لاحقا بعد ان تكرر النزف وخضعت لعدد يتجاوز ال15 عملية الفحص بالناظور عند تكرار النزف .
غادرت المستشفى مصحوبا بمنع الطيران نتيجة تناولي ادوية علاج القرحة ولشهري ايلول وتشرين اول 1983 , وخلالها جرت معركة بنجوين شارك طيارو السرب فيها من خلال مفرزة كركوك مع تعزيزها بعدد من الطائرات .
خلال المعركة استشهد المقدم الطيار وليد عبد المجيد المنسوب الى السرب 30 والذي سبق وان جرح في معركة گردمند , فكان نبأ استشهاده مؤلما لي لعلاقتي القوية معه ولم التقي به بعد معركة گردمند لحين استشهاده رحمه الله تعالى .
رغم الواجبات الكثيرة والعدد القليل من الطيارين فكان السرب يكلف بواجبات متعددة ومنها ان الحقت طائرة الويت3 من السرب 30 لأجراء تجربة تركيب مصباح الانقاذ الليلي قام بالتجربة المعلم الاقدم في السرب الرائد الطيار ( ع. ر . ج ) ثم كرر التجربة على طائرة BO105 وكان ميدان رمي العزيزية هو منطقة التجارب .
في احد ايام شهر ايلول اتصل بي هاتفيا مدير طيران الجيش واخبرني بترشيح الرائد الطيار محمود عبوش (استشهد عام 1991) كونه معلم طيران في السرب ليكون مشرفا على دورة في فرنسا لمدة 9 اشهر ويستفسر هل لدي مانع من ترشيحه؟ ورغم احتياج السرب لخدماته كمعلم طيران وطيار منفذ للواجبات ويشكو السرب من قلة عدد الطيارين، ولكن لم اقف حجر عثرة في طموحه فمثل هذا التكليف يتمناه الكثير، فوافقت فورا وبدون تردد دون استشارة اي احد املي بطياري السرب بإمكانية ملأ الفراغ الذي يتركه غيابه , وفي هذا الحال يكون السرب قد فقد 5 طيارين استشهاد واحد وحجز اثنان ومنع طيران امر السرب ثم الايفاد للطيار الخامس ! ولكن لم اجد اي شكوى من الطيارين لقوة اواصر الزمالة ونكران الذات بينهم. تم الايفاد ولكن بعد اقل من شهرين عاد الى السرب بعد ان تورط بحادثة شخصية في فرنسا استدعت اعادته وتعويضه بمعلم طيران من سرب اخر حل محله مشرفا على الدورة.
في الشهر ذاته ايلول نقل آمر الجناح المقدم الطيار ( ه . ا .ت ) ونسب المقدم الطيار ( ح .ز . ز) آمرا لجناح طيران الجيش الثاني وكلاهما تجمعني معهم علاقة وثيقة قديمة.
زيارة مدير طيران الجيش
نهاية شهر أيلول/ سبتمبر1983 زار الجناح مدير طيران الجيش وبرفقته الرائد الطيار الركن ( ا . ع . ا ) من شعبة الحركات لتفقد وحدات واسراب الجناح . وضمن جولته قام بزيارة السرب وحينها كان جميع طياري السرب خارج السرب بواجبات المفارز او الاجازات الدورية او تبديل المفارز . وكنت الطيار الوحيد في السرب اوضحت الحالة التي يمر بها السرب مع التأكيد بان تواجدي في مقر السرب هو بسبب منعي من الطيران والا لكان السرب خالي من الطيارين . لذلك رجوته بان يوعز بالإقلال من تكليف السرب بالمفارز على ان نكون متهيئين لتعزيز اي قاطع عند الضرورة وان تواجد الطيارين في مقر السرب يؤدي الى تنفيذ خطة التدريب وخاصة ادامة المعلومات النظرية لهم , وتطرق الحديث الى مسائل اخرى ادارية تخص السرب , عند نهاية الزيارة خاطبني مدير طيران الجيش ( اوصيك بإدامة التدريب والمحاضرات الارضية لتطوير مستوى الطيارين ) . عجبت لما يقوله فقبل قليل اشتكيت من عدم تواجد الطيارين بسبب كثرة المفارز وحرصي على ادامة التدريب والمحاضرات! فأجبته ( وندمت بعدها على طريقة الجواب ) نعم سيدي سأذهب غدا الى السوق واشتري مرآة كبيرة اضعها امامي والقي المحاضرات على نفسي . لم يعلق المدير على تجاوزي ( وهو يتمتع بخلق عالي وتجربتي معه منذ ان كان آمر الجحفل الجوي الاول في كركوك ) . نظر الي ضابط الحركات مستنكرا تجاوزي بالكلام ولامني بعدها (وهو صديق مقرب) كيف تتكلم وبهذه الصلافة مع المدير؟ اجبته وماذا تريدني ان اجيب وانا اشكو له عدم تواجد الطيارين لأجل ادامة التدريب ويوصيني بعدها بإدامة المحاضرات ؟ . كان ردي يستحق العقوبة ولكن المدير وبأخلاقه العالية تجاوز الامر وجعل عقوبتي ذاتية بالندم على ما قلته .
لم احتمل الابتعاد هن هوايتي وعملي المفضل بممارسة الطيران، لذلك راجعت مستشفى القوة الجوية واقنعت الطبيب المختص بإيقاف العلاج واعادة صلاحيتي للطيران , وبالفعل وبعد اجراء الفحص بالناظور وايقاف العلاج اعيدت صلاحيتي للطيران وعدت الى عملي وهوايتي مطلع شهر تشرين ثاني . وباشرت بتدريب الطيارين المتواجدين في مقر السرب بالرمي بواسطة المدفع 20 ملم في ميدان رمي العزيزية وحسب تواجدهم في مقر السرب والى نهاية النصف الثاني من عام 1983 . وستكون مقالتي القادمة ان شاء الله تعالى عن النصف الاول من عام 1984 واحداثها.
كنت اتمنى واعد العدة لأجل ان تكون ملحمة گردمند مفصلة بشكل اكثر مما رويته , ولكن ومع الاسف لم اجد من يلبي رغبتي ويزودني بما عاشه وعلى الاخص ابطال طائرات مي8 المنفذين للعملية الاسطورية في الانزال الفدائي على جبل كردمند رغم اتصالي بمن كان منفذا للعملية من طياري طيران الجيش او من الذين قاموا بالصولة الارضية من ابطال اللواء 32 قوات خاصة رغم توصلي لاحد ابطال المعركة ولدوره المتميز يلقب ( گردمندي ) نسبة للجبل الذي قام ومن معه بشرف تطهيره من العدو . وسيشهد التاريخ لهم بهذا العمل البطولي الذي لا يمكن وصفه الا لمن شارك به وشعر بالموقف العصيب وخاصة لحظات التقرب الاعزل.
لعن الله تعالى من كان السبب في خشية هؤلاء الابطال من الادلاء بشهاداتهم عن معركة يفخر العراق بإنجاز ابنائه عمل غير مسبوق وشرف وفخر لكل من شارك به
اما بعد نجاح العملية وتضحيات اقل من المتوقع فلو كنت احد صناع القرار حينها او مستشار لرفضت هذه العملية نظرا لخطورتها وما يتوقع من خسائر لا يستوجب الموقف التضحية بها , كما ان نجاح العملية جر الفيلقين الثاني والخامس الى اعادة العملية وبخسائر فادحة في الطائرات والارواح خلال عمليتي ( جبل ميمك عام 1987 , وگردمند الثانية عام 1986 )
973 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع