إتفاقية ترسيم الحدود الجنوبية الغربية لجمهورية العراق مع المملكة العربية السعودية
بعد الإطلاع على مقال الأخ العزيز الصقر ( مهمة قتالية للسرب 106 ) قراءة المقال حفزت ذاكرتي على إستذكار مهمتين كلفت بها في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي تستوجب توثيقها لأهميتها .
سأبدأ بالمهمة الثانية أولاً لإنها إثيرحولها لغط كثير بين فئات المجتمع العراقي في حينه وخاصة الذين كانوا يتربصون الأخطاء لغرض إسقاط نظام الحكم في العراق لكونها تتعلق بإتفاقية ترسيم الحدود بين جمهورية العراق والمملكة العربية السعودية .
قبل بداية التعرض الواسع للجيش العراقي في الحرب العراقية الإيرانية لردع الإعتداءات المستمرة للجيش الإيراني على المخافر الحدودية العراقية والمدن الحدودية في 22 أيلول 1980 ، صدر أمر نقلي من الفوج الثامن الآلي لواء المدرع 34 الفرقة الآلية الأولى إلى أمرية مواقع الفيلق الثالث التي يقع إسكانها مع إسكان قيادة الفيلق الثالث في الثكنة الحجرية في الناصرية ، وقد صادف إلتحاقي للأمرية بعد ظهر يوم 22 أيلول 1980 وهو اليوم الأول للضربة الجوية الشاملة للقوة الجوية العراقية البطلة.
بعد تصديق إتفاقية ترسيم الحدود بين جمهورية العراق والمملكة العربية السعودية ، الذي كان قبل بداية الحرب العراقية الإيرانية بفترة قصيرة وبعد التغييرات التي طرأ ت على خط الحدود تم ترشيحي للجنة تثبيت المخافر الحدودية الجديدة ممثلاً عن قيادة الفيلق الثالث .
كانت اللجنة برأسة آمر لواء السادس حدود عقيد شرطة ممثلا عن وزارة الداخلية لأن المنطقة المراد إعادة تثبيت المخافر الحدودية فيها تقع ضمن قاطع مسؤولية اللواء السادس حدود وعضويتي ممثلاً عن وزارة الدفاع وعضوية رئيس مهندسين دائرة ( الطابو ) التسجيل العقاري في محافظة النجف .
تنقلت من مدينة الناصرية إلى مدينة الديوانية التي يتواجد فيها مقراللواء السادس حدود بوسائط النقل المدنية وبعد وصولي إلى مدينة الديوانية ولقائي بأمر اللواء حدد موعد سفرنا صباح اليوم الثاني إلى مدينة النجف بعد التنسيق هاتفياً مع العضو الثالث في اللجنة وهو رئيس مهندسي دائرة
( الطابو) التسجيل العقاري في محافظة النجف ، وكانت مثابة التجمع بالقرب من معسكر مركز تدريب مشاة النجف الذي يقع على طريق ( الديوانية – الشامية – أبو صخير - النجف ) في صباح اليوم الثاني تنقلنا بصحبة آمر لواء السادس حدود من مدينة الديوانية إلى مدينة النجف وحال وصولنا إلى معسكر مركز تدريب مشاة النجف وجدنا رئيس المهندسين واقف ينتظرنا بالمكان المحدد ، وهو رجل متوسط القامة مربوع البنيه في العقد الخامس من العمر حسب تقديري الشخصي وكان يحمل رول من الخرائط للمنطقة ، لم تسعفني الذاكرة بتذكر إسم آمر لواء السادس حدود وإسم رئيس المهندسين ،
الأمور الإدارية للمهمة كانت من مسؤولية آمر لواء السادس حدود وكان أهم شيئ لتنفيذ المهمة هو الدليل الذي إصطحبناه في الرحلة .
خارطة جمهورية العراق مقياس 1 / 000 000 10
تقريبا مسافة بين ( 1- 2 ) كيلومتر من مركز تدريب مشاة النجف بإتجاه مدينة أبو صخير توجد فتحة ترابية بإتجاه اليمين واضحة المعالم ينحدر منها الطريق الترابي النيسمي بإتجاه الصحراء ، هذا الطريق الترابي الذي يؤدي إلى ناحية (الشبجة ) بعد قطع مسافة قصيرة لاحظت عدم وجود أي علامات أرضية واضحة المعالم في الطريق مجرد أثر مسيرعجلات ، لكن توجد أبار ماء محيطها غير بارزة عن مستوى سطح الأرض بين الواحد و الأخر مسافة مسير نهار على الحيوانات ، كان هذا الطريق يستخدم للسفر إلى بيت الله الحرام في موسم الحج في زمن الدولة العباسية وما بعدها ، زوجة الخليفة هارون الرشيد ( زبيدة ) خلال رحلتها لأداء مناسك الحج بعد معاناتها لعدم تيسر مصادر المياه في الطريق آمرت زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد بحفر أبار الماء على طول الطريق وسمي الطريق بإسمها ( درب زبيدة ) كما مؤشر على الخرائط داخل الأراضي العراقية والأراضي السعودية ، ويسمى أيضاً درب الحمامات ، العجلة لا تستطيع السير بسرعة أكثر من 40 كيلومتر في الساعة ، بحدود الساعة الثانية بعد الظهر وصلنا إلى ناحية (الشبجة) المدينة صغيرة يوجد فيها عدد قليل من البيوت ومعظم بيوتها مبنية من مادة الطين ويقطن هذه المدينة رعاة الإبل ومهربي الأغنام ، ويوجد فيها مقر أحد أفواج لواء السادس حدود كانت هذه المدينة هي المحطة الأولى من المهمة حيث قام آمر الفوج بضيافتنا وأوينا الليلة الأولى في مقر الفوج .
تنويه لمعلومات القراء الكرام
كان من المقرر إنشاء طريق يربط دول الخليج العربي بدول البحرالأبيض المتوسط سوريا ولبنان مروراً بالأراضي العراقية ، يمربالمدن الصحراوية التالية من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي ( منطقة الكيلو 160 – النخيب – الشبجة – السلمان – البصية – البصرة ) إلا أن ظروف الحرب العراقية الإيرانية حالت دون تنفيذ ذلك وتم تنفيذ القسم الأول منه فقط بين منطقة الكيلو 160 ومدينة النخيب .
في صباح اليوم الثاني إستيقضنا من النوم مبكراً وبعد تناول طعام الفطور ركبنا عجلة آمر لواء السادس حدود نوع ( رنجروفر) الدليل في المقعد الأمامي المجاور للسائق وآمر اللواء في المقعد الخلفي الأيمن و رئيس المهندسين في المقعد الخلفي الأوسط وأنا في المقعد الخلفي الأيسر وفي الخلف مخابر مع جهاز لاسلكي تم تشبيكه على شبكة قيادة فوج الحدود تعقبنا عجلة بيكب فيها أفراد الحماية مع ترامس ماء و أرزاق طوارىء
وعفش المنام ، كانت الخطة أولاً التوجه جنوباً إلى الحدود الفاصلة للمخافر الحدودية بين محافظة النجف مع محافظة المثنى .
بعد مسير أكثر من ساعة وصلت العجلة إلى أثر تقاطع نياسم على الأرض ولإرتفاع درجة الحرارة أصبحت الرؤيا ضعيفة من داخل العجلة بسبب ظاهرة السراب فقد الدليل الإتجاه الصحيح وطلب توقف العجلة وبعد ترجلنا من العجلة أخذ يتفحص المنطقة وينظرإلى جميع الجهات ، المنطقة منبسطة لاتوجد فيها أي عوارض طبيعية دالة سوى بعض العليقات والأعشاب الصحراوية وظاهرة السراب تسبب تغوش النظر ، لكن الدليل يمتلك خبرة جهاز الجايرسكوب البشري ، رفع بكفه الأيمن حفنة تراب وقربها من أنفه وشمها وسار بضع خطوات في الإتجاه الأخر ورفع حفنة تراب أخرى بكفه الأيمن وقربها من أنفه وشمها وأخبر آمر اللواء بالإتجاه الصحيح ، لكي نواصل المسير خشى آمر اللواء من فقدان الإتجاه في هذه المنطقة الصحراوية سئله عن كيفية معرفته الإتجاه الصحيح ، فأخبره بأن هذه النياسم هي أثر لمسيرالحيوانات التي تسلكها الأغنام للمهربين إلى المملكة العربية السعودية والإتجاه الأخر هو أثر لرعاة الإبل في المنطقة حيث تترك الحيوانات أثر فضلاتها على الأرض ومن خلال ريحة الفضلات تَعَرّف على الإتجاه الصحيح لأن ريحة فضلات الأغنام تختلف عن ريحة فضلات الإبل وبعد مسير أكثر من ثلاث ساعات وصلنا إلى المخفر الحدودي الكائن بين الحدود الفاصلة لمحافظة النجف مع محافظة المثنى وهو مخفر حدود الفارس.
المخافر التي شملتها الجولة من إتجاه الجنوب للحدود الفاصلة بين محافظة المثنى مع محافظة النجف ثم المسير بإتجاه الشمال مع خط الحدود حتى مخافر حدود محافظة الأنبار وعددها 14 مخفر وهي كما يأتي :
مخفر الفارس – مخفر 17 تموز – مخفر الديفية – مخفر المعاينة – مخفر الليمة – مخفر الأمغر – مخفر دبوسة – مخفر السويف – مخفر عرعر – مخفرحامر – مخفر الكرية – مخفر العموية – مخفر العطارية – مخفر الأبيض
خارطة اليوم الأول من الجولة من مخفر حدود 17 تموز ألى مخفر حدود المعاينة
رجعنا ثانية نسير بإتجاه معاكس مع خط الحدود من مخفر حدود الفارس الكائن على الحدود الفاصلة بين محافظة المثنى ومحافظة النجف بإتجاه الشمال وقبل الغروب بوقت قليل وصلنا إلى مخفر حدود (المعاينة ) حيث يوجد في هذا المخفرمقر سرية حدود .
بعد وصولنا إلى أي مخفر حدودي كنا ندرس الأرض المحيطة بالمخفر ونناقش مجتمعاً مكان موقع المخفر و أهمية موقعه من الناحية العسكرية ونتخذ قراربأهمية بقاءه في موقعه أو تغيير موقع المخفرإلى مكان أفضل بما يتلائم مع مسار خط الحدود الجديد.
أوينا الليلة الثانية في مخفر حدود (المعاينة) بضيافة آمر السرية وبعد تناول طعام العشاء دار حديث بيننا مع رئيس المهندسين حول ترسيم الحدود ، هذا الرجل كان رجل مهني يمتلك معلومات في غاية الدقة والأهمية ويجيد قراءة الخريطة بشكل ممتازجداً ويعرف المنطقة شبراً شبراً ، فأخبرنا بأن إتفاق ترسيم الحدود كان بمنتهى الدقة والعدالة ، بحيث لم يذهب متر مربع واحد من الأراضي العراقية إلى أراضي المملكة العربية السعودية والعكس صحيح وإن كل كلام يقال بإن العراق تنازل عن أراضيه للمملكة العربية السعودية مجرد إفتراء وهرطقة كاذبة بهدف تشويه سمعة الدولة العراقية.
المملكة العربية السعودية كانت متعاقدة مع شركة كورية لتثبيت الدعامات الحدودية هذه الدعامات مصنوعة من الكونكريت مثبته في الأرض بعمق لايسمح برفعها بسهولة والقسم الظاهر منها بإرتفاع متر أو أكثر قليل مكتوب عليها من جهة الغرب المملكة العربية السعودية ومن جهة الشرق جمهورية العراق وكانت الرؤيا متبادلة بين عارضة و أخرى .
كذلك الجانب السعودي متعاقد مع الشركة الكورية على بناء المخافر الحدودية في أراضيهم وفق أحدث المواصفات تتضمن تجهيز المخفر بمولد كهرباء مع حفر بئر ماء وتأثيث المركز بأثاث درجة أولى .
خارطة اليوم الثاني من الجولة من مخفر حدود المعاينة الى مخفر حدود عرعر
سوف يظهر مخفر عرعر في الخريطة الإخيرة
في صباح اليوم الثالث إستيقضنا من النوم مبكراً أيضاً وبعد تناول طعام الفطور ركبنا العجلات وتوجهنا بإتجاه الشمال بإتجاه مخفر عرعر،
كان آمر اللواء له معرفة أخوية حميمة بأمري المناطق في الجانب السعودي وحقق لقاء مع أحدهم ورحبو بنا أشد ترحيب وأشادو بدور الجيش العراقي الباسل في الدفاع عن الإراضي العراقية ضد إعتداءات الجيش الإيراني .
طرفة كان آمراء النواحي السعوديون ينصبون بيوت شعر بجوار بنايات المخافر الحدودية ويجلسون في بيوت الشعر وبجوارهم ترعى الإبل بينما المخافر مقفلة .
قبل الغروب وصلنا إلى مخفر حدود عرعر في الجانب العراقي موقع هذا المخفر يختلف عن بيقة المخافر لكون طريق (النخيب - جديدة عرعر) واضح المعالم حيث يسلكه المسافرين للتنقل بين جمهورية العراق والمملكة العربية السعودية قبل تعبيده وأوينا الليلة الثالثة في هذا المخفر.
خارطة اليوم الأخير من الجولة من مخفر حدود عرعر إلى مخفر حدود الأبيض
في صباح اليوم الرابع إستيقضنا من النوم مبكراً وبعد تناول طعام الفطور توجهنا نحو بقية المخافر الحدودية بإتجاه الشمال الغربي ، طبيعة الأرض في هذه المنطقة توجد فيها وديان كثيرة منخفضة نسبياً تشكل برك ماء في موسم الأمطار إلا إنها تساعد على الحركة أفضل من المناطق التي تجولنا فيها سابقاً ، بعد الظهر بقليل وصلنا إلى مخفر حدود الأبيض وهو محطتنا الأخيرة . وعدنا بإتجاه مخفر حدود عرعر وحال وصولنا إلى طريق (جديدة عرعر- النخيب ) توجهنا نحو الشرق سالكين هذا الطريق الذي كان غير معبد في حينه بإتجاه ( قصر الإخيضر – الرزازة - كربلاء - النجف - الديوانية ) مع حلول الليل وصلنا مدينة الديوانية .
تنويه لمعلومات القراء الكرام
بعد ضرب مفاعل تموز في التويثة من قبل القوة الجوية للعدو الإسرائيلي في 7 حزيران سنة 1981 ، صدرت الأوامر من قيادة القوة الجوية والدفاع الجوي بفتح مراصد كتيبة الإنذار والسيطرة التابعة لقاطع الدفاع الجوي الثالث على خط الحدود الغربية مع المملكة العربية السعودية ، واجهت قيادة قاطع الدفاع الجوي الثالث معضلة إختيار أماكن إنفتاح المراصد وكيفية تأمين الحماية الأرضية لها لكون المنطقة صحراوية ولا تتوفر لديهم معلومات عن إنفتاح المخافر الحدودية ، كنت في حينه أعمل ضابط إرتباط أرضي في قاعدة علي الجوية حينئذ أخبرتهم بالمعلومات التي حصلت عليها من هذه الجولة وسهلت لهم مهمة الإستطلاع وإتخاذ القرار لتنفيذ هذه المهمة .
فوزي البرزنجي
11 شباط 2018
570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع