عـمر علي.. سيرة حياة قائد عسكري عـراقي
ما انفكَ الكثير من العراقيين خلال عقود الاربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عن الحديث حول اللمحات المشرقة والسيرة العطرة لضابط عراقي شجاع سطر ملحمة بطولية في السفر الخالد لجيشنا الباسل إبان الحرب الاولى من الصراع (العربي – الصهيوني) عام (1948 -1949) انه المقاتل المقدام امير اللواء الركن (عمر علي بكر بيرقدار) وسنتحدث بسطور موجزة عن حياته الكريمة الزاخرة بالمواقف المشرفة.
ولد عام 1910 في قلعة كركوك واكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها ودخل المدرسة العسكرية الملكية ببغداد (الكرادة الشرقية) عام 1928 ضمن دورتها الخامسة وتخرج منها برتبة ملازم عام 1931 ونسب امر فصيل في الفوج الاول (موسى الكاظم). رقي الى رتبة ملازم اول عام 1935 ونقل معلماً الى مدرسة الاسلحة الخفيفة (معسكر الوشاش) ومنها نقل معلماً الى المدرسة العسكرية عام 1936 وبقي فيها لحين التحاقه بمدرسة الاركان العراقية بدورتها الخامسة بعد ان رقي الى رتبة نقيب عام 1938 فتخرج منها نهاية شهر كانون الاول عام 1939 ونجح بامتياز ومنح قدماً ممتازاً لسنتين وعين بمنصب مقدم لواء 14 (الذي شكل حديثاً حينذاك) وشارك بالحرب (العراقية – البريطانية) اعقاب حركة مايس عام 1941 (حركة رشيد عالي الكيلاني – رئيس الوزراء) وساهم اللواء بتأخير تقدم القوات البريطانية على محور نهر الفرات (البصرة – الناصرية – السماوة) وبعد ترقيته الى رتبة رائد ركن نقل الى منصب مقدم لواء القوة الالية. واستمر (عمر علي) في تبؤ المناصب المختلفة بوحدات الجيش حيث نقل الى منصب امر (ف2 ل5 فق 2) في شهر آب عام 1944 وترقى الى رتبة مقدم ركن قي شهر تشرين الثاني عام 1944 واحتل فوجه اعلى قمة لجبل (بيرس) عام 1945 واطلق عليه (الفوج الثاني العالي) وشارك في حركات شمال العراق وحتى نهاية عام 1947.
في منتصف عام 1948 شاركت معظم قطعات الجيش العراقي في حرب الانقاذ بفلسطين وانيطت الى القوات العراقية مسؤولية السيطرة على المنطقة التي تضم المدن الفلسطينية (جنين – نابلس – طولكرم – قليقلة – كفرقاسم). شارك الفوج الثاني في هذه الحرب وخاض خلالها معارك شرسة مع العصابات الصهيونية. حيث حاصرت تلك العصابات احد افواج اللواء الرابع في (جنين وقلعتها) فأوعزت القيادة العراقية الى الفوج الثاني من اللواء الخامس الذي كان يقوده المقدم الركن عمر علي بالاسراع لنجدته فسارع بـإكمال استحضارات الهجوم متعطشاً للقتال. أدى صلاة الفجر اماماً بفوجه وبعد الفراغ من ادائها صاح بأعلى صوته الجهوري (العالي الفوج الثاني العالي) ثم كبر عدة مرات وصدحت حناجر الجنود والضباط بصوت واحد مدوي (الله اكبر) ارتفعت معنويات المقاتلين الى اعلى مستوياتها وتقدم صفوفهم كالأسد الهصور مفجراً حماسهم وأصبحوا كبركان ثائر يقذف حممه الملتهبة. زحف المقاتلون الى الامام يسابقون قائدهم وانقصوا على اعدائهم كالصقور الجارحة فرقت صفوفهم وشتت جمعهم واصبحت جثث قتلاهم مبعثرة على الارض المحيطة بقلعة (جنين) وقد عمل السلاح الابيض (الحربة/ السكين) فعلته الرهيبة بهم. تمكن الفوج من كسر الطوق وهربت القوات الصهيونية تاركة اكثر من (300) جثة لقتلاها في ساحة المعركة واستولى على الكثير من التجهيزات والمعدات والاسلحة المتروكة. التقى مقاتلو الفوجين يحتضن بعضهم البعض ويصدحون بأعلى أصواتهم (الله اكبر) كان نصراً مبيناً لمنتسبي (الفوج الثاني العالي) وقائدهم المغوار. بعد نجاحه الباهر مكللاً بالغار بادر بالاندفاع صوب مدينة (حيفا) إلا ان الاوامر المشددة صدرت اليه بالتوقف وعدم مواصلة التقدم بعمق الاراضي الفلسطينية. بعد عودة القوات العراقية المشاركة في حرب الانقاذ منتصف عام 1949 عين عمر علي بمنصب امر لواء الخامس وآمراً لموقع الموصل بنفس الوقت بعد ان رقي الى رتبة عقيد ركن. بعد مرور حوالي ثلاث سنوات نقل امراً للكلية العسكرية بعد ترقيته الى رتبة زعيم / عميد ركن وتخرجت خلال فترة قيادته لها للاعوام (1953 -1955) ثلاث دورات هي (30-31 – 32).
كلف بمنصب متصرف (محافظ) السليمانية وكالة للفترة (1955 – 1956) ونجح بإدارتها واحدث تطوراً فيها. بعد الانجازات الكبيرة التي حققها بلواء السليمانية عرض عليه مسؤولية احدى متصرفيتي الموصل او البصرة الا انه فضل للعودة للخدمة في الجيش. حيث صدر القرار بتعيينه قائداً لفرقة المشاة الاولى التي اتخذت من لواء/ محافظة الديوانية (القادسية) مقراً لها بعد ترقيته الى رتبة امير اللواء الركن بداية عام 1957. في مطلع شهر مايس 1958 طبقت الفرقة تمرينا تعبويا بالقطعات باستخدام العتاد الحقيقي (الذخيرة الحية) بمستوى جحفل لواء مشاة الي بالاضافة الى وحدات اخرى من الفرقة ضمن المنطقة الممتدة من صحراء الرطبة وحتى اطراف بحيرة الحبانية – الرمادي للايام (5 -11) مايس عام 1958..
(نسب حينها الزعيم/ العميد الركن عبد الكريم قاسم امر ل19 فق 3 رئيساً لهيئة الحكمين المشرفة على تطبيق التمرين). اثناء تنفيذ عملية رمي حقيقي للمدفعية لاسناد افواج المشاة الهاجمة على اهدافها (حسب التمرين) صباح يوم 11 مايس 1958 سقطت قذيفتين من مدفع ميدان على مقربة من تلة المثابة (سرادق المدعوين) التي يقف عليها الملك وولي العهد ورئيس اركان الجيش وبعض قادة الجيش والملحقون العسكريون لدول حلف بغداد...
(اصدر حينها ر ا ج الفريق الركن رفيق عارف امراً بإيقاف الرمي فعالج الموقف الخطير الذي كاد ان يسفر عن وقوع خسائر بالارواح وشكل حينها مجلس تحقيقي عن اسباب الحادث ولم يتوصلوا الى نتيجة بسبب تأثير تنظيم الضباط الاحرار على لجنة التحقيق برئاسة العقيد الركن عبد العزيز العقيلي واعتبر الحادث خطأ فنيا غير مقصود او متعمد واغلق التحقيق).
علماً ان اللواء الذي نفذ التمرين هو ل مش 15 الالي وامره الزعيم/ العميد الركن ناجي طالب واسكانه معسكر الشعيبة – البصرة. حاول العقيد الركن عبد الغني الراوي امر ف مش الي استغلال تنقل اللواء من الرمادي الى بغداد وبالتعاون مع مجموعة ضباط مجتمعين ليلاً داخل معسكر ابي غريب وعلى رأسهم العقيد الركن عبد الوهاب الشواف ومنهم الرائد خزعل السعدي امر مدرسة الدروع والرائد خليل ابراهيم العلي امر ك دب المثنى بالاضافة الى اخرين بلغ عددهم اكثر من خمسين ضابطاً للقيام بمحاولة انقلابية وإسقاط الحكم الملكي ليلة 11/12 مايس عام 1958 لكن قائد فق1 اصدر امراً الى اللواء بالتعسكر في المنطقة المحصورة بين الفلوجة وابي غريب ومنح المشاركين بالتمرين اجازة يتمتعون بها في مناطق سكناهم مما ادى الى فشل هذه المحاولة التي سبقت ثورة 14 تموز 1958).
في الساعة السادسة من فجر يوم الاثنين 14 تموز 1958 سمع قائد الفرقة الاولى اللواء الركن عمر علي نبأ قيام الثورة من اذاعة بغداد بصوت العقيد الركن عبد السلام عارف (الذي بسط سيطرته على العاصمة بغداد بوحدات ل مش20 فق3 خلال عملية تنقله ليلة 13 /14 تموز 1958 من معسكر جلولاء ماراً ببغداد قاصداً الاردن لتبديل ل مع 6 / رتل الهادي الموجود على اراضيها). اوعز قائد فق1 الى امر لواء الاول احد تشكيلات فرقته الموجود في معسكر المسيب / الحامية بتنفيذ خطة امن بغداد ولكن سيطرة الضباط المرتبطين بحركة الضباط الاحرار على مقر اللواء واعتقال امره الزعيم / العميد الركن وفيق عارف (شقيق الفريق الركن رفيق عارف ر ا ج) حال دون ذلك. مساء يوم 14 تموز ودع القائد عمر علي منتسبي وحدات فرقته في الديوانية وغادرها فجر يوم 15 تموز بالملابس المدنية مع عائلته الكريمة متوجهاً الى بغداد ومساء نفس اليوم حضر الى ديوان وزارة الدفاع مقر رئاسة الوزراء والتقى بقائدي الثورة (الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام عارف) مبرراً موقفه من الثورة بأنه قائد فرقة يتحمل مسؤولية الامن الداخلي والخارجي للمحافظات الجنوبية من العراق ولا علم له مسبقاً بهذه الثورة وهويتها الحقيقة وعلى اثرها اعتقل في امرية الانضباط العسكري (آمرها العقيد عبد الكريم الجدة) واحيل الى المحكمة العسكرية العليا الخاصة (محكمة الشعب/ المهداوي) بتهمة التآمر ضد الثروة ومحاولة تقويضها وهي في مهدها.
استمرت محاكمته التي بدأت من الجلسة الخامسة والستون في 7 شباط 1959 وحتى الجلسة الثامنة والتسعين في 6 نيسان 1959 وحكم عليه بالاعدام والطرد من الجيش. في اذار عام 1960 اصدر رئيس الوزراء (اللواء الركن عبد الكريم قاسم) قراراً بتخفيف عقوبة الاعدام الى السجن لمدة سبع سنوات وفي ايلول عام 1961 خففت عقوبة السجن الى خمس سنوات. بقي القائد عمر علي في السجن حتى صدور المرسوم الجمهوري رقم (647) في 19 تموز 1964 والقاضي بالافراج عنه. في 23 نيسان عام 1969 الغيت تهمة التآمر وعقوبة الطرد من الجيش ورد اليه اعتباره. بعد اطلاق سراحه عاش اللواء الركن المتقاعد عمر علي ما تبقى له من الحياة في مسقط رأسه مدينة كركوك مبتعداً عن الحياة العامة ولم يمارس اي نشاط اخر. انتقل القائد الشهم الى رحمة الله في ايلول 1974 عند عودته من العاصمة اللبنانية – بيروت الى بغداد بعد رحلة علاج بحادث سيارة (اصطدام /انقلاب) التي كانت تقله بمنطقة قريبة من مدينة الرطبة – الانبار. هناك روايتين في اسباب الحادث، رواية تبين انه تعرض لعملية اغتيال على الطريق العام من قبل عناصر اجهزة النظام السابق واخرى تذكر ان عناصر من جهاز الموساد الاسرائيلي قامت بتصفيته انتقاماً منه. ومن خلال مناقشة الموضوع وتحليله نتوصل الى انه ليس كل حادث سيارة يقع على الطريق البري يكون مشبوهاً او مشكوكاً فيه حيث هناك حوادث كثيرة حصلت بسبب السرعة وانفجار اطار احد دواليب السيارة او نتيجة نوم وغفلة سائقها وخروجها المفاجئ من الطريق يؤدي الى انقلابها / اصطدامها. علماً لا يوجد ما يشوب العلاقة بين المرحوم عمر علي والنظام السابق بل العكس كانت جيدة لانه لم يمارس اي نشاط مشبوه او معاد ولم يشكل خطراً يهدده يبرر تصفيته. لكن لا استطيع ان أؤكد او انفي بالوقت نفسه علاقة الموساد الاسرائيلي بالحادث بسبب الحقد الدفين عليه لانه اوجعهم واذلهم بمعركة جنين خلال حرب فلسطين (1948- 1949) ولا ننسى روح الانتقام التي يمتاز بها الصهاينة لكل من حاربهم او وقف ضد تنفيذ مخططاتهم الجهنمية حيث تتوفر لدى الكيان الصهيوني امكانات التسلل والاختراق بعمق الاقطار العربية المحيطة به والاراضي العراقية ايضاً وتوجد حوادث عديدة تدعم ذلك.
بانتقال روح المرحوم القائد عمر علي الى الرفيق الاعلى تكون قامة سامقة من اعمدة الجيش العراقي قد هوت على أرض العراق العزيز واحتضن ترابها الغالي جسده الطاهر لتبقى ذكرى ذلك الرمز الشامخ من رموز جيشنا خالدة وعطرة في ذاكرة العراقيين النجباء ويبقى مشهد قبره يذكر الاجيال القادمة بأن هذا الرمس احتضن جسد رجل صنديد سطر مسيرة حياته بأحرف من نور تبقى تضيء الدرب ونبراساً للاخرين ما بقيت الحياة. كان وسيبقى جيشنا الباسل الحصن الحصين والصرح الرصين الذي يرص الصفوف ويوحد الجهود لمسيرة طويلة شاقة لتحقيق العزة والكرامة لعراقنا الحبيب. ندعو الباري عز وجل للقائد عمر علي ولجميع شهداء جيشنا الابرار ان يتغمدهم بواسع رحمته وان يسكنهم فسيح جناته انه سميع مجيب..
المصدر:المشرق
الكاتب:زهير عبد الرزاق
1412 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع