جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية/ ح٥

جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية/ ح٥

كانت حياة جميلة منظمة جدا ولم تشعر بتقادم الزمن عليها ومرور الأيام والسنوات وكانت تحب المناسبات والاعياد والحفلات وحتى اذا لم تكن هناك مناسبة فهي كانت تحب ان تعمل مناسبة وتخلق جو وتعمل اكل وتشعل شموع وبخور ولم تعرف في حياتها شيء اسمه أصدقاء فالناس حولها كلهم متساويين وكلهم أصدقاء وكانت تلتقي مع أصدقاء السيدة أسماء زوجة اخيها في مناسبة شهرية منتظمة هي يوم قبَول النساء وقبَول بفتح القاف كلمة عثمانية مازالت تستعمل لغاية الان في المستشفيات والدوائر في تركيا وتعني استقبال وهذا التقليد اصله قديم في مدينة بغداد منذ العهد العباسي وقد توارثه العهد العثماني مثلما توارث بقية التقاليد والأعراف ونظام الحكم والإدارة وهو اجتماع مرة واحدة في الشهر للأصدقاء والجيران في يوم محدد من كل شهر للالتقاء وتبادل الاخبار.

وقد استمر القبَول الى نهاية العهد الملكي تقريبا وكانت السيدة أسماء عقيلة الشيخ احمد كمال تعمل حفل الاستقبال ( القبَول ) يوم خمسة من كل شهر وكان يوم قبَول الرجال الذي يعمله الشيخ احمد كمال العشرين من كل شهر وكان الرجال في الغالب يستعملون كلمة مجلس والنساء يستعملون كلمة قبَول..

وكانت جميلة تقوم بتحضير كل شيء خاص بالقبَول قبل عدة أيام وكانت تقدم فيه الكيك والكليجة بأنواعهما ومختلف المعجنات والموالح وفي بعض الأحيان كانت تعمل كبة الحلب المصنوعة من الرز والمحشورة باللحم والكرفس والكشمش وتعمل أنواع البورك المشوي والمقلي..

وخبز عروك الذي كانت تقدمه ساخنا وحسب طلب الضيف , وخبز العروك هو خليط من اللحم المفروم والبصل والكرفس والكاري مع عجين الخبر وكان يخبز في التنور بنفس حجم خبز التنور العادي وكانت جميلة تقوم بإعداد المشروبات المتنوعة كالشاي والقهوة والحليب وشاي الدارسين.

وشاي الحامض وأنواع المحلبية والكاسترد وكانت تقدم صحونا من التمور والمكسرات , ويمتاز العراقيين من دون بقية الشرقيين بشرب شاي الحامض وخصوصا في الشتاء ويتم تحضير شاي الحامض من النومي الناشف الأصفر او الأسود الذي يطلق عليه العراقيين نومي بصرة حيث يغلى بالماء الساخن بعد تكسيره وإخراج بذوره المرة منه الى ان يصبح لونه اصفر اللون ويستعمل كذلك كعلاج للمغص والاسهال وهو مشروب منعش لما يحتويه من كمية كبيرة من فيتامين سي ويستعمله العراقيين كذلك في طبخ اللحم والدجاج لإزالة الدسم منه ويطبخ مع الرز المخلوط بقطع لحم الغنم لإعطاء نكهة مميزة وطعم حامض ,

وكانت جميلة تتفنن في عمل خلطة الحلويات بالكيك والفواكه حيث تضع طبقات الكاستر والجلي والمحلبية بيننها قطع الكيك والفواكه على الطريقة الفرنسية في اطباق عميقة وكبيرة وكانت تحرص ان يكون الكيك بنكهة البرتقال في مواسم الأعياد حيث كانت تقوم ببرش قشور البرتقال و وضعها في الكيك لإعطاء نكهة مفرحة وكانت تعمل الكيك بالقهوة التركية في أيام الشتاء لتعطي نكهة شعورا ً بالدفء حيث كانت تخلط ملعقة كبيرة من القهوة التركية مع الزبدة والعسل فتجعل الكيك ذو رائحة نفاذة ودسامة تدفئ الابدان وكان القبَول الشهري المجال الوحيد الذي يلتقي فيه الناس ويتكلمون في شؤونهم الخاصة لعدم وجود وسائل ترفيه او اتصال بين الناس في ذلك الزمن وكانت النساء نادرا ًما يخرجن من البيت وكانت جميلة تقوم بإعداد وتنظيم كل شيء وتنصب السماور الخاص بالشاي قبل ساعة من موعد القبول الذي كان يبدأ من الساعة الرابعة عصرا ويستمر الى السابعة مساء..

وكلمة تنصب السماور تستعمل في بغداد للدلالة على تحضير السماور حيث تبدأ بغسل السماور وتعبئته بالماء واشعال النار في داخله بواسطة الجمر وبعد الغليان تعمل الشاي وتضع قوري الشاي الكبير فوق البخار المتصاعد من قمة السماور , والسماور هو كلمة مركبة من كلمتين عربية وعثمانية مركبة وهي سماء + وار وتعني ( هبة السماء ) وكثيرا ما كانت كلمة ( وير) مستعملة في المقاهي البغدادية وذلك عندما يقوم شخص بدفع حساب مشروبات لأشخاص اخرين فيقولون ان فلان صاح وير على الجماعة أي دفع حسابهم جميعا ً وتلك كانت عادة الاعيان والتجار عندما يدخلون المقاهي فيتزاحمون على دفع حساب كل من في المقهى حتى لو لا يعرفون الجالسين في المقهى , والسماور وعاء ماء معدني اسطواني الشكل بداخله أنبوب يبدا من قاعدته التي يوضع فيها الجمر وينتهي في القمة ويتم ملء السماور بالماء ويغلى حتى يتصاعد منه البخار الذي يقوم بتخمير الشاي الموجود في ابريق الشاي الذي يجلس في قاعدة العلوية للسماور , وتلك الطريقة هي افضل طريقة لصنع الشاي بطريقة التبخير والمساور في تلك الأيام كان يعمل بالفحم او الحطب ثم تطورت صناعته بنوع جديد له فتيلة ترسل نارا زرقاء ويعمل بالنفط اثم اصبح السماور كهربائي لكن نكهة الشاي المصنوع في سماور الحطب تختلف كليا عن بقية الأنواع , وكانت جميلة تتفنن في عمل الشاي حيث تقوم بغلي الماء مع كمية من حبوب الهيل لأكثر من ساعة ثم تستعمل ذلك الماء في صنع الشاي فيصبح الشاي ذو نكهة هيل قوية ومذاق دهني مع الشاي الأحمر المتخمر..

وكانت عند ترحيبها بالضيف الجديد في بعض الأحيان تضع السكر في استكان الشاي ثم تصب الماء الحار عليه اولا ليصل الى ربع الاستكان ثم تصب الشاي فيظهر شكل الشاي غريبا فربعه الأسفل ابيض وثلاثة ارباعه العلوية احمر وما ان يبدأ الضيف بتحريك ملعقة الشاي حتى يختلط اللونين ويصبح الشاي بلون واحد ولم تكن تغير مكان ملعقة الشاي في تقديمها للضيوف في وضعها في الصحن لان أي تغيير في مكان الملعقة له معاني مختلفة عند البغادة ومعظم تلك المعاني سيء ,

وكانت تضع كل الاكل على طاولة مستطيلة طويلة مغطاة بشراشف بيضاء مطرزة نهاياتها بالزهور الملونة وفي بداية الطاولة تضع الصحون والسكاكين واللاعق والشوك وعلب المحارم الورقية التي تختارها بحيث تكون ملونه ومعطرة وعلى طاولة بعيدة عن الاكل كانت تضع علب السكائر للراغبين بالتدخين وكانت تحرص ان يكون كل شيء ابيض للدلالة على الفرح والاناقة والنظافة ,

واذا كان الوقت صيفا كان القبول يقام في الحديقة الخلفية الكبيرة قرب حوض الأسماك الملونة وتحت الأشجار الكثيفة حيث الهواء العليل ورائحة الرازقي والغاردينيا والشبوي الليلي تملء الأجواء , واذا كان الوقت شتاء تعمل القبَول في گبة الخطار (غرفة الاستقبال الرئيسية ) التي تقع في مدخل البيت.

وتقوم بإشعال الحطب في مدفأة الحائط في الغرفة الكبيرة وتقوم بشوي البلوط والكستناء على نار مدفأة الحائط وتقدمه للضيوف ساخنا في نهاية القبول وقبل خروجهم , والبغادة يستعملون كلمة گبة بالكاف الفارسية المُفخمة وهي تحريف لكلمة قبُة العربية وهي تسمية عباسية قديمة للغرفة وكلمة الخطار تعني الضيوف وقد انقرضت تلك التسميات مع نهاية الحكم الملكي واستعملت بدلها كلمة غرفة الضيوف كجزء من حملة منظمة قادها النظام الجمهوري لتغيير الكلمات والمفاهيم التي كانت سائدة في المجتمع العراقي خلال الحكم الملكي , وكان عدد النساء الذين يحضرن قبَول السيدة أسماء الشهري بين العشرين والثلاثين سيدة.

وكانت جميلة تستقبلهم عند مدخل الباب الداخلي للبيت بمرشات ماء الورد الفضية الجميلة وتأخذ عباءة كل واحدة منهنَّ وتعلقها قرب الباب في رواق مدخل البيت وعند انتهاء القبَول وخروجهن توزع عليهن عباءاتهن , وكانت النساء في ذلك الزمن يكتبن الحرف الأول من اسمائهم باللغة الإنكليزية على بطانة العباءة من الداخل لكي لا تختلط مع عباءات الاخريات من النساء خلال الزيارات والعباءة العراقية هي اللباس الوطني الذي تمسكت به المرأة العراقية التي لم تكن تعرف الحجاب او الخمار وغيره من الأزياء التي ظهرت حديثا والعباءة تتكون من قطعتين مخاطتين مع بعض بشكل شبه مخروطي من الوسط لتعطي الشكل البيضوي الفضفاض وفيها مخارج للأيدي وفي منطقة الراس يتم خياطة النهايات بوضع حبل خفيف عند منطقة الرأس لكي لا تسقط العباءة من راس المرأة ولا تضطر المرأة العراقية لكي تتلحف بالعبارة وتلفها حول نفسها كما العباءة التونسية او الشادو الفارسي مثلا لان موديل العباءة العراقية يجعلها تقف على رأس المرأة ولا تسقط منها , وكانت السيدة أسماء تزور بقية النساء في مواعيد قبولهنَّ الشهرية واذا كانت لا تتمكن من حضور القبول فإنها ترسل من يخبر صاحبة القبول باعتذارها عن الحضور.

وعند دخول التلفونات الى البيوت اصبح الاتصال بالتلفون لتنظيم كل المواعيد , وبالمقابل اذا لم تتمكن احدى السيدات من عمل قبول لضيافة نساء المحلة لظرف طارئ فإنها تتصل بجميع السيدات وتعتذر لتؤجل قبولها الى الشهر القادم.

جميلة لولب ديناميكي خلال القبَول فعلى الرغم من العمل الكثير الذي تقوم به فقد كانت تنتظر موعد القبول لكي تلتقي بنساء المحلة , وكانت خلال القبول تسلّم على هذه وتضحك مع تلك وتتكلم مع اخرى وتسال عن أولادهم وبناتهم واذا ما حضرت القبَول سيدة لأول مرة فأنها تأخذ المعلومات مسبقا ً عنها وتتأكد من ان حضورها القبول سيتناسب مع بقية الضيوف وتقوم بتعريف تلك السيدة على بقية السيدات في القبول وتعطيها اهتماما خاصا وتجاملها لكي لا تشعر بالوحدة وبعد انتهاء القبول تعطي موجزا عن تلك السيدة لكل من لم يحضر القبول من نساء البيت في ذلك اليوم , وكانت معظم الوقت خلال القبول واقفة تقوم بتقديم المأكولات والمشروبات للضيوف وتحفظ على ظهر قلب ما يتحدثون به من كلام لتقوم في الشهر القادم بمتابعة تلك الاخبار او لكي تقدم موجزا بأخبار ضيوف القبول الى كل من لم يحضر القبول تلك الليلة من نساء العائلة , وكانت تعرف تفاصيل حياة معظم الضيوف واذا سألها احد عن امرأة معينة فأنها تعطيه تقريرا نفسيا وصحيا وتاريخيا واجتماعيا عن تلك المرأة فقد كانت لها القدرة على تقييم الناس بعمق وتفهم الكثير من نواياهم من خلال تعاملها معهم ومن خلال ردود افعالهم , وفي الصيف اذا جلست بوجود الضيوف في القبول فإنها تجلس على كرسيها الخشبي ذو الخلفية البيضوية المغلفة بخيوط الخيزران في مكان محدد تحرص على ان تجلس فيه او بالقرب منه وهو قريب من حوض الأسماك الملونة في الحديقة واينما تغيير مكان او اتجاه جلستها في الحديقة فأنها تحرص على ان تكون قريبة من تلك الزاوية وتنظر الى حوض السمك الملون بين فترة وأخرى بعمق وتغوص في التفكير الى ان يناديها احد الحضور فترتعش وتنتفض وتنتبه على نفسها فتصحى من سرحانها وتستجيب للنداء وقد لاحظ الصغير عمر تمسكها بتلك المنطقة من خلال مراقبته لها ولنظراتها فسألها في احد الأيام لماذا لا تغيرين مكان جلوسك في القبول وتجلسين دائما في هذا المكان القريب من حوض السمك ؟

فقالت له انه كان المكان المفضل لسيدنا الملك غازي عندما كان يزورنا في بعض أيام الجُمع لتناول الإفطار مع جدك وكان يجلس دائما قرب حوض الأسماء الملونة وكان يحب في الإفطار ان يأكل كباب العروك ويحب المربى المرة مع الزبدة والخبز الحار ، وجميلة كانت تتفاءل بذلك المكان لأنه مكان الملك غازي الذي تحبه وبعد ان توفى الملك غازي وكلما ذكرت جميلة اسمه في حديثها كانت تقول عبارة تقطّع القلب وهي: ان الملك غازي مظلوم مثلي.
جميلة لم تشكي لاحد في حياتها ولم تعترض على طريقة حياتها وهي تخدم ثلاثة أجيال ولم تذكر طول حياتها انها اسفة لأنها لم تتزوج ولم يكن لديها حياة خاصة وأبناء يرعونها عندما تكبر وبقيت الى اخر لحظة من حياتها تخدم الشيخ احمد كمال والسيدة أسماء واذا خرجت من البيت لاي طارئ فإنها تعود بسرعة وتقول يجب تحضير الاكل للشيخ احمد كمال والسيدة أسماء فهم في انتظاري وبالمقابل فهم لم يقبلوا بتناول الطعام من غير يد جميلة وكانت علاقتهم غريبة فبعد تناولهما الطعام سوية تقوم بتقديم بعض الحلويات لهما وطوال فترة تناولهما الطعام كانت تقف الى ان ينتهيا من الاكل فترفع الصحون الفارغة الى المطبخ واذا مرض احدهما فلن يغفل لها جفن طول الليل فتسهر على راحته وكانت جميلة يوميا تستيقظ صباحا عند الشافعي وقبل الممجد ثم تتوضأ وتنتظر الممجد ثم المؤذن فتصلي وتبدأ يومها , والشافعي عند البغادة هو وقت الفجر وهي تسمية عباسية قديمة قد انقرضت مع انقراض ذلك الجيل وكان موعد تنبيه الاذان في العراق مثل بقية الدول الإسلامية حيث يقوم المُمَجد بتمجيد الله والتسبيح قبل الاذان الرسمي بفترة قصيرة وكان المُمَجد عادة متمكن من قراءة المقامات الصعبة وذو صوت جميل وقد تم منع التمجيد في المساجد قبل الاذان في العهد الجمهوري مع تدخل الدولة في عبادات الناس واحوالهم.
في قبَول الرجال كانت جميلة لا تدخل القبَول لتقديم الطعام لهم لان ظهور النساء امام الرجال الغرباء غير مسموح به في ذلك الزمن، وكانت تضع كل شيء على الطاولة قبل ان يحضر الضيوف وكان الخدم او أبناء الشيخ احمد كمال الخمسة من يقوم بخدمة الضيوف واذا لم يكن احد من الشباب موجود في البيت فان الضيوف يشربون ويأكلون بأنفسهم ويتسامرون الى ان يحل عليهم المساء حيث كان قبول الرجال اكثر هدوء ً على الرغم من عددهم الأكبر من قبول النساء, وعند قبول الرجال تغادر السيدة أسماء وبقية نساء العائلة البيت لزيارة الأقارب او الجيران حتى لا يراهم ضيوف قبول الرجال وتبقى جميلة فقط في المطبخ لتلبية أي احتياجات اضافيه خاصة ,ان ما يتم تداوله في قبول النساء هو الشؤون العائلية والطبخ وتفصيل وخياطة وحياكة الملابس والاحوال العائلية كالزواج والطلاق والولادات الحديثة، وكانت النساء يتعلمن من بعضهن البعض تفصيل وخياطة الملابس ومن ما يشاهدنه من ملابس نساء السفراء والقناصل الأجانب او ما كن يجلبنه من ثياب من بريطانيا وإيطاليا وبقية دول أوروبا.

وفي بداية الخمسينات ظهرت مجلة بوردا التي انتشرت بشكل واسع في العراق وكانت تحتوي على صور الملابس وقياساتها بالسنتمتر وكانت هناك هدية شهرية مع المجلة هي خارطة كبيرة لفستان الشهر وتتبارى النساء في تفصيل فستان الشهر وارتدائه لإثبات مهارتهن في فن الخياطة , وبوردا هي اسم عائلة المانية متخصصة في الخياطة في جنوب غرب المانيا.

وأصدرت السيدة ايني بوردا اول مجلة للتفصيل والخياطة وقامت بإنشاء دار طباعة ونشر سنة 1949 ثم تطورت وأصبحت مجموعة شركات وتعتبر مؤسسة بوردا رمزا ً للمعجزة الاقتصادية الألمانية وقد اختفت مجلة بوردا من العراق لكنها مازالت تباع في أسواق العالم والشرق الأوسط , اما مجلس الرجال فكان صالون ادبي وثقافي وديني وسياسي حسب الأغلبية من الضيوف وحسب الاحداث في ذلك الشهر وعند انقراض حفل الاستقبال الشهري (القبول او المجلس) في بغداد بعد انتهاء العهد الملكي ظهرت صالونات أدبية بشكل محدود كان يعملها الادباء والفنانين من اجل تبادل الأفكار وتطوير القدرات والتعرف على اخر المستجدات وحتى تلك الصالونات قد انقرضت بالتدريج مع فوضى الانقلابات والاحداث التي عصفت بالعراق وتفرق العراقيين بين الأحزاب المتناحرة بعد انتهاء الحكم الملكي .

ثقافة حياكة الملابس كانت منتشرة جدا في ذلك الزمن قبل ظهور الملابس الجاهزة وكل سيدة كانت لديها صندوق خاص بالأصواف وأدوات الحياكة وكانت هناك محلات متخصصة في بغداد لبيع الاصواف وأدوات الحياكة وكانت الاصواف عادة تأتي من المانيا وبريطانيا وإيطاليا , وجميلة كانت تحوك بسيخ الحياكة وبالسنارة التي هي اصعب من الحياكة بسيخ الحياكة وقد تعلمت ذلك الفن من السيدة أسماء وكانت جميلة تحيك الجوارب والكفوف والشالات النسائية والرجالية والجاكيتات والبلوزات والطواقي خلال فصول السنة وتقدمها هدايا في فصل الشتاء لأفراد العائلة وكانت تختار نوع الصوف والألوان حسب سن الشخص الذي ستحيكها له وفي فصل الشتاء عندما تنتهي من الحياكة ويتبقى لديها اصواف مختلفة تقوم بحياكة جبة الدرويش وهي عبارة عن جاكيت مفتوح من الامام وبدون ازرار وياقة واكمام ويسميه البغادة يلك وهو ( السديري ) وكانت جميلة تحيك الألوان على شكل مربعات بحجم كف اليد فيظهر الشكل عبارة عن مربعات مختلفة الألوان في نسق واحد جميل وعادة ما كانت جبة الدرويش تهديها الى الصبيان والشباب والشابات , وجبة الدرويش تشبه من حيث التصميم والألوان المرقعة ما يرتديه المهرج في السيرك او ما يرتديه الدرويش المتصوف من ملابس مرقعة من مختلفة الالوان .
ليس كل من يحضر القبول من الرجال او النساء يعمل قبول شهري في بيته ويدعو الناس لزيارته فلو حضر مثلا عشرين شخص القبول فان اقل من نصفهم فقط من يعمل حفل القبول الشهري بانتظام , وحيث لم يكن الناس في ذلك الزمن يتزاورون رسميا بشكل مستمر الا في المناسبات والاعياد لكن في بعض الأحيان كانت هناك لبيت الشيخ احمد كمال زيارات خاصة بحكم عمله في الحرس الملكي كزيارة الملك غازي لتناول الإفطار في يوم الجمعة الأولى من كل شهر بصحبه الأمير عبد الاله او الشريف حسين بن علي زوج الاميرة بديعة بنت الملك علي او الشريف حسين بن ناصر رئيس التشريفات ومن ثمة نائب رئيس الديوان الملكي وقد كان على علاقة وثيقة قديمة وتفاهم مع الشيخ احمد كمال بحكم الزمالة في العمل وكذلك عملهما في الدولة العثمانية والانضباط الذي تعلموه من العثمانيين وكان الشريف حسين بن ناصر يزور الشيخ احمد كمال في الأعياد والمناسبات كافة منذ ان عملا مع بعض في بداية عمله في العشرينات في البلاط الملكي لغاية ان ترك العراق الى الأردن في نهاية الأربعينات.
في أيام الجمع وبعد الصلاة مباشرة يزور رجال المحلة الشيخ احمد كمال لشرب القهوة والسلام على بعضهم البعض والتحدث بالأمور التي العامة وقبل انتهاء شرب القهوة ومغادرة الجميع مرة واحدة يقول احد الحضور:

الجمعة القادمة قهوتكم عندي وهكذا يتزاور الناس أسبوعيا زيارات قصيرة بعد كل صلاة جمعة وتلك الزيارة لا تتجاوز الخمسة وأربعين دقيقة و يرجعون بعدها الى بيوتهم لتناول طعام الغداء مع عوائلهم وكان ذلك التقليد ساريا بعد كل صلاة جمعة الى ان حصل انقلاب تمور 1958 الذي الغى النظام الملكي والغى معظم التقاليد التي كانت سائدة في المجتمع بعد ان تم زرع التفرقة والخوف والشك بين الناس بحيث اصبح العراقي يخاف ان يسلم على جاره حتى لا يتم اتهامه بشيء بعد ان تفرق الناس بين الأحزاب التي ظهرت بعد العهد الملكي , وكان الناس يتشاركون في الافراح والاحزان واذا مرض احدهم فان كل الجيران يعرفون ذلك ويقدمون النصائح والمساعدة ويزورون المريض ويشجعوه وفي شهر رمضان والأعياد والمناسبات يتزاورون ويتبادلون الأطعمة والهدايا فيما بينهم , واذا ما توفى شخص فان الجيران يؤجلون اعراسهم ولا يفتحون المذياع او التلفزيون بصوت عالي احتراما لحزن الجار , وكان احترام الميت واجب سواء كان مسلما او مسيحيا او يهوديا.
كان بيت الشيخ احمد كمال في بداية الثلاثينات يعج بالناس والحركة وكانت جميلة تساهم مع الخدم في رعاية أبناء وبنات اخيها حسب مقدرتها وتوفر الوقت لديها وفي احدى الولادات لم تتمكن السيدة اسماء زوجة الشيخ احمد كمال من ارضاع مولودتها الصغيرة لنضوب الحليب لديها وكانت الطفلة الرضيعة عدة أيام لا ترضع الا النزر القليل ويتم إعطائها القنُداغ وهو الماء والسكر للمحافظة عليها من الجفاف واخذ الجميع البحث عن مرضعة وطلبت جميلة من الكرجية التي عندهم في البيت ان تبحث عن مرضعة وقد وعدتها ان تعطيها خاتمها الذهبي اذا عثرت على مرضعة خلال اقرب وقت ,

وفي صباح اليوم التالي جاءت الكرجية بمرضعة روسية فأرضعت الطفلة وكانت المرضعة الروسية تزور العائلة يوميا الى ان بلغت الطفلة سنة من عمرها وفطمتها من الرضاعة وذلك مقابل أجور وضيافة يومية للمرضعة وهدايا وعندما كبرت الطفلة كان اخوتها يسمونها المسقوفية وهي تسمية بغدادية تطلق على الأشخاص القادمين من روسيا نسبة الى مدينة موسكو و المسقوفي هو نعت سيء اذا استُعملَ بين الشباب والشابات للدلالة على الانانية واللؤم وبقي ذلك اللقب يلاحقها طول حياتها .
من عادة سكان بغداد في زمن الدولة العثمانية استخدام اشخاص للعمل في البيوت من جورجيا وقد انقرضت تلك العادة بالتدريج بانقراض الدولة العثمانية وبقي ما بقي منهم في العراق لغاية نهاية الحكم الملكي ,

وكان البغادة يسمون المرأة منهم كرجية والرجل كرجي وكانوا يختارونهم من الاجمل والأكثر شبابا وذكاء وخبره في الحياة وكان الكرجي او الكرجية بمثابة الوصيف للشخص أكثر منه الى الخادم وكان يرافقه في زياراته خارج البيت او يستقبل معه الضيوف في البيت او ان يحضر معه الأعياد والمناسبات وكانوا يحترمونهم بحيث لا يطلقون عليهم لقب خادم او خادمة فيقولون الكرجية مالتي او الكرجي مالتي ومن اعجاب سكان بغداد بجمال هؤلاء الأشخاص القادمين من جورجيا كانوا يطلقون أسماء كرجي و كرجية على مواليدهم حتى كان اشهر قارئ مقام عراقي وافضل من قرأ القران الكريم والمقامات العراقية في نفس الوقت فنان عراقي اسمه فلفل كرجي وكان من يهود بغداد .

في يوم من أيام الشتاء كان لجميلة نذر في مقام الشيخ عبد القادر الگيلاني وقد اخذها احد أبناء اخوها بسيارته لكي تؤدي نذرها بمعية سميعة زوجة ابن اخيها الشهيد الطيار واخذت معها الصغير عمر وما ان نزلت من السيارة عند باب المسجد حتى نسيت نفسها وغاصت بين جموع الناس تريد الوصول للمقام وبقيت سميعة والصغير عمر يبحثان عنها في كل مكان وبعد جهد جهيد وجدوها في الغرفة الداخلية لقبر الشيخ عبد القادر تجلس عند رأسه وتتكلم معه وتؤشر بيدها وتحركها وتتوقف عن الكلام ثم تعود وتتكلم والناظر اليها يعتقد انها تتكلم مع شخص حي في داخل المقام وبعد ان انتهت من نذرها وطقوسها قالت ان لديهم وقت ثلاث ساعات حتى يعود ابن اخيها ليأخذهم بالسيارة للبيت فبقيت زوجة الشهيد جالسة في الايوان الداخلي للجامع وذهبت جميلة بصحبة عمر لزيارة قبر احد الأقارب الموتى في مقبرة الشيخ عمر السهروردي القريبة وقد كان الوقت مازال عصرا والناس يتوافدون لزيارة المقبرة المليئة بأشجار النخيل والسدر وفي مكان ليس بعيدا عن باب المقبرة كان القبر المقصود فجلست جميلة عند راس القبر وقرات عليه القران وتكلمت بهدوء وكأنها ترسل موجات من الرحمة والنور الى صاحب القبر ولم يستغرق ذلك وقتا طويلا وفي الطريق الى خارج المقبرة لاحظت ضجة وتجمع ناس حول شجرة سدر كبيرة وما ان دخلت مع عمر بين الصفوف حتى كان هناك درويش يجلس على الأرض وفي يده مسبحة خشب طويلة وعدد من النساء يتكلمون معه وفجأة وقف الدرويش على قدميه وابتعد الناس من حوله واتسعت دائرة المتفرجين حوله وقامت احدى النساء بوضع قفل حديدي على صخرة صغيرة على الأرض في وسط الدائرة وهي تقول له وتكرر جملة : افتح القفل وابطل السحر , فقام الدرويش بقراءة سورة من القران وكلمات غامضة وصرخ عدة صرخات ارعبت الحضور ثم دار حول القفل ثلاث مرات بمسافة خطوتين تقريبا ثم دار حول نفسه من اليمين الى اليسار ونظر الى القفل بهدوء وساد صمت غريب بين الناس المتجمهرين وفجأة انفتح القفل بدون ان يلمسه الدرويش وهاج الناس وهرب معظمهم الى خارج المقبرة من الخوف وسقط بعضهم على الأرض من شدة الضحك وخرجت جميلة تركض يتبعها عمر فأمسكت بيده وقالت له لا تخبر احد بما رأيت وخصوصا امك , لأنها كانت تخاف ان يلومونها لماذا ذهبت للمقبرة ولماذا وقفت تتفرج على الدرويش وقد كانت زيارتها بالأساس الى الشيخ عبد القادر .
في طريق العودة زارت قبر الشيخ مفتاح وقرات الفاتحة على روحه وسلمت عليه سلام خاص , والشيخ مفتاح هو ابن احمد المغربي العالم الصوفي المغربي الذي نذر نفسه لعباده الله وبعدها اتجها الى جامع الشيخ عبد القادر وعند وصولهم كانت سميعة بانتظارهم مع احد الدراويش وقد استغربت جميلة من وجود الدرويش فأخبرتها سميعة ان لديه بازبند يريد ان يبيعه لها وما ان سمعت جميلة بذلك حتى اصابتها موجه من الهيجان والصراخ في وجه الدرويش وطردته من المكان ولم تكلم سميعة التي خافت منها ومن ردة فعلها المفاجأة وبعد ان مشى الجميع خطوات حتى وقفت جميلة صاحبة القلب الطيب واعتذرت من سميعة وقالت لها ان البازبند هو خرافة وليس له تأثير وبدلا من دفع مبلغ كبير لشرائه يمكنك دفع نفس المبلغ لعمل اكل للفقراء في مطبخ الشيخ عبد القادر والله سيحميك ويرزقك لقاء اطعام الفقراء بدلا من البازبند وتصالحت معها سميعة وعادوا للبيت , وجميلة على الرغم من معاصرتها لتلك الفترة الزمنية التي كان يسود فيها الجهل والتخلف كانت تحمل وعيا ً عالياً وتدرك ان القوة من الله وليس من غيره من الأشخاص والاشياء , والبازبند هو نوع من الطلاسم يعملها شخص اختصاصه بين الملا والساحر لقاء مبلغ كبير وكان الناس يربطونها على ساعد اليد الأيمن اعتقادا منهم بقوته لحمايتهم من الاعتداءات واعطائهم الرزق , وموضوع اغلاق الاقفال لعمل الربط بين الناس كان شائعا في ذلك الزمن وهي من المعتقدات الشعبية كنوع من أنواع السحر وكان منتشرا بكثرة في العراق ومصر، حيث يتم اقفال قفل حديدي واخفاء مفتاحه في لحظة عقد قران شخص بهدف عدم تمكين الزوجين على انجاب الأطفال ويسمى الضحية مربوط ، وقد انقرضت تلك المعتقدات بتطور المجتمعات.
كانت جميلة مولعة بالنذور وأخذ الخيرة والخيرة في اللهجة العراقية تعني قراءة الطالع فكانت في بعض الأيام وخصوصا ليلة الخميس على الجمعة وقت المغرب تأخذ عمر او أي طفل او طفلة قريب منها وتقول له تعال نأخذ خيرة وتذهب الى اقرب تقاطع شارعين وترمي سبع حصوات في تلك الشوارع وتقف تنتظر الأشخاص الذين يمرون بالقرب منها ويتكلمون فأول مجموعة تتكلم تسمعها وتفهم ما يضمر لها المستقبل او ما الذي تريد ان تعرفه وفي بعض الأحيان كانت ترمى الحصوات وتنسحب وتطلب من الأطفال البقاء في تقاطع الطرق وتطلب منهم ان يسمعون اول اثنين يتكلمون وينقلون لها ذلك الكلام وكانت تلك الطريقة شائعة بين الناس وذلك لبساطتهم وعدم قدرتهم على فهم الأمور وما سيحصل في المستقبل ,

ومن اهم نذورها كان نذر خضر الياس وكانت تأخذ عمر معها دائما لعمل النذر لمرافقتها الى حافة نهر دجلة القريب من البيت فكانت تأخذ معها عُدّة النذر وتلك العُدّة عبارة عن كرب النخيل وشموع ونبات الياس تضعها جميها تحت عباءتها في زنبيل , وكرب النخيل هو مكان التقاء سعفة النخيل بجسم النخلة قد تم قطعه بطول ثلاثين الى أربعين سنتمتر ليكون شكله مثلث والكرب مجوف من الداخل ويطفو على سطح الماء وكانت جميلة تذهب وقت غروب الشمس الى نهر دجلة في قرب المكان الذي تم بناء مدينة الطب فيه لاحقا وهي المنطقة المقابلة الى خضر الياس في جانب الكرخ وتقوم بثقب الكرب ووضع الشموع ونبات الياس في تلك الثقوب وتشعل الشموع وتضعها في مجرى النهر فتطفو مسترسله في الماء لتعطي جوا بهيجا لضوء الشموع وسط بداية الظلام وكان عمر يقوم بمساعدتها في حمل معدات النذر وكان يقف بجانبها وهي تقرا سور من القران تبدأها بأية الكرسي وتردد اذكار وكلمات صوفية لم يكن يفهمها على ماء نهر دجلة السريع الجريان ثم بعد ذلك تحدث موجات وتظهر فقاعات في الماء فيغيب عمر في عالم من الفانتازيا تجعله يرتعش من النشوة وعند انتهاء جميلة من قراءة طلاسمها تقوم باشتعال الشموع المثبتة على كرب النخيل وتضع الكرب على الماء فتطفو في الماء متهادية في جو روحي عميق ترافق عينا عمر الشموع الطافية في الماء الى ما لا نهاية, وقد كانت جميلة تقرأ ادعية وطلاسم عديدة لم يتمكن عمر من فهم معظمها لكنه بقي محافظا على تلك الاسرار بناء على توصية جميلة المستمرة له بعدم الإفصاح عنها لاحد حتى لا يزعل سيدنا وتقصد السيد خضر الياس(ع), لم يسال عمر في يوم من الايام جميلة عن مصطلح سيدنا الذي كانت تستعمله جميلة فقد تستعمله للدلالة على الملك غازي او للدلالة على خضر الياس (ع) لأنه كان يفهم ذلك من سياق الجملة.
كانت جميلة تحب مساعدة الناس وتلبية النذور كان المبرر الأكثر قبولا في توزيع الأطعمة وخصوصا للفقراء فكانت يوميا تأخذ كل ما تبقى من الاكل بعد الغداء او في وقت المغرب الى الفقراء القريبين من البيت وفي أوقات الظهيرة حيث الجميع يأخذون نوم القيلولة فجميلة لا تنام وكانت عادة ما تقوم بعمل كيك او أنواع خبز العروك باللحم او خبز العباس وهو خبز عادي مع ريحان ونعناع وجبن ابيض مالح لتوزعها على الناس حتى لو لم يكونوا فقراء لمجرد انها تفرح بتلك العملية لأنها كانت تحب ان تطعم الناس من يدها وتفرح كثيرا عندما تسمع اطراء الناس لطبخها..

وقد كانت يوميا تقريبا تزور مسجد الأمير عبد الاله الذي يبعد خطوات من البيت وتوزع الأطعمة على الفقراء واذا لم يكن فقراء توزعه على المصلين وكانت على علاقة قوية من زوجة الامام وقصة بناء ذلك الجامع الصغير الجميل تعتبر من غرائب الاحداث في تلك الفترة , ففي صباح احد أيام الجمع زار الملك غازي بيت الشيخ احمد كمال امر حرسه الملكي لتناول الإفطار بصحبة الأمير عبد الاله وبعض الاشراف ومن خلال الحديث اخبر الملك غازي الشيخ احمد كمال بانه قد حلم قبل أيام بان الشيخ احمد كمال يهديه ورقة كتب عليها اذان الصلاة كاملا فضحك الشيخ احمد كمال وقال له بان جلالتكم قد سهلتم علي ما كنت افكر به , فمن عدة أيام كنت افكر في حاجة سكان العيواضية الى جامع للصلاة واحياء مناسباتهم الدينية والشخصية وليس لديهم جامع والمنطقة حديثة البناء وكنت افكر في اغتنام الوقت المناسب للطلب من جلالتكم لبناء جامع صغير, عندها قال الملك غازي سوف احقق حلمي وأمنيتك في نفس الوقت وابني الجامع ومن مالي الخاص وفعلا اشترى قطعة ارض في مكان مميز يقع على شارعين ويربط الشارع النازل من بيت المدفعي على نهر دجلة بالشارع الموصل الى كلية طب الاسنان بجانب دار الايتام ومدرسة العيواضية الابتدائية لبناء الجامع وتلك الأرض تقع قريبة جدا من بيت الشيح احمد كمال بعد فترة زمنية قليلة توفى الملك غازي بتلك الحادثة الغامضة ولم يتمكن من بناء الجامع وبقيت الأرض كما هي وتقاعد الشيخ احمد كمال من الخدمة وجلس في البيت وفي يوم من الأيام زاره الأمير عبد الاله الوصي على العرش حين ذاك واخبره بانه سينفذ وعد ابن عمه الملك غازي ببناء الجامع ومن ماله الخاص , وفعلا فقد تم بناء الجامع وطلب الأمير عبد الاله من أبناء عمه في مدينة مكة المكرمة ان يرسلوا له امام وخطيب من الحرم المكي وهو سيتكفل به وبعائلته وفعلا حضر الامام وزوجته من مدينة مكة المكرمة وسكنوا في بيت صغير في داخل حديقة الجامع وانجبوا العديد من الأبناء والبنات وتعايشوا مع اهل المحلة وكان الامام يشارك الجميع في افراحهم واتراحهم ويقف معهم في كل محنهم وازماتهم وقد تم منحه الجنسية العراقية هو وزوجته ومن بعد ذلك أولاده واحفاده , وكانت جميلة دائمة التردد على بيت الامام وكلما رزق بمولود جديد تقوم جميلة بخياطة الثياب للمولود الجديد كهدية منها وبعد زوال الملكية ومجيء الجمهورية كانت جميلة تفتخر دائما بالجامع وكانت تتأسف لما حصل من احداث مؤسفة حلت على العراق حيث كانت تقول ان الجامع مَلَكي وليس جمهوري فقد بناه الملك غازي وابن عمه الأمير عبد الاله من مالهم الخاص وحتى امام الجامع من الحجاز وليس من عراقي , كان الجامع مبني من الطابوق الأصفر الجميل وله مأذنة على الطراز البغدادي المغولي في وسطها حلقة مقرنصة ومزخرفة بنفس نوع الطابوق تتسع لوقوف لعدة اشخاص في نفس الوقت والجامع تم بناءه مرتفعا عن الأرض قليلا وبعد المدرجات الامامية تصل الى طارمة جميلة واسعة ثم الباب الخشبي المرتفع وفي قبة المدخل مقرنصات جميلة من الطابوق الأصفر وبعده فناء الجامع الداخلي المزخرف بنفس نوع الطابوق الأصفر وأرضيه الجامع من الكاشي ذو اللونين الأصفروالأبيض الجميل ومفروشة بالحصير الناعم للمصلين وكانت جميلة في بعض الأحيان تدخل الجامع ضمن نذورها عند خروج المصلين , فقد تنذر بان تقوم بكنس الجامع وتنظيفه مثلا او اطعام كل الفقراء الذي في باب الجامع وكانت في بعض الأحيان تأخذ شتلات من الزهور او الأشجار الصغيرة من البغوان (البستانجي) تركي في بينهم وتأتي بها الى الجامع لتعطيها الى امام الجامع ليزرعها في حديقة الجامع الجميلة وكان تركي البغوان الذي يشتغل فلاح في حديقة البيت محظوظا لان جميلة لم تتركه في يوم ما يرجع الى بيته بدون ان تعمل له رزمة طعام ليأخذها الى بيته وفي المواسم كانت تجمع الملابس التي تستغني عنها العائلة وتعطيها الى البغوان تركي بعد غسلها وكويها مع العيدية , والبغوان تركي كان يعمل في بيت الشيخ احمد كمال منذ ان كان صبيا اعزب وقد تزوج وصار عنده أبناء ومع تقادم الزمن اخذ يصطحب ابنه الأكبر معه لمساعدته في العمل عندما تقدم به العمر ,

وكان يستعمل بايسكل إنكليزي قديم حيث يضع أدوات الحديقة خلفه ويربطها بقوة مع المسحاة الطويلة وكان يزرع وينظف الحديقة الكبيرة في البيت ويعتني بالنخيل والحمضيات وعندما كان يشاهد نساء البيت في الحديقة لا يقترب منهم او يدخل اكثر في الحديقة احتراما لخصوصيتهن وحتى عندما كان يتكلم مع جميلة كان ينظر الى الأرض ولا ينظر في وجهها حياء ً منها واحتراما ً لها وتلك كانت عادة الرجال عندما يتكلمون مع نساء غير نسائهم في ذلك الزمن , تركي كان يزرع معظم الخضروات في الحديقة ماعدا البصل الذي كان البغادة يتشاءمون من زراعته في حدائقهم المنزلية ..

وكانت جميلة في نهاية موسم الصيف تجفف الفلفل والباذنجان والبامية والطماطم في غرفة في الطابق الثاني من البيت لتناولها في الشتاء..

وكانت تعمل انواع المخللات والطرشي وتصنع من الخيار مخللات لذيذة بالماء والملح او بزيت الزيتون وبعض الأحيان مع الشمندر الأحمر الذي يصبغ المخللات باللون الأحمر وكان الناس يشترون الملح الخشن بالتنكات من البدوي الذي كان يلف على البيوت في فترات منتظمة مع ناقة كبيرة الحجم يحمل عليها أكياس كبيرة من الملح وكانت جميلة تشتري الملح بكميات كبيرة للاستعمالات العديدة في البيت.

وكان البدوي يبيع الملح بالتنكة ولا يحمل معه أي ميزان وكان الناس يعطوه الخبز اليابس طعاما للبعير مجانا فيبيع الملح ويأخذ نقوده ويعود بأكل مجاني للبعير وقد انقرض البدوي بياع الملح في بغداد في فترة منتصف السبعينات مع ظهور شركات تصنيع الملح وبيعه في الأسواق في علب صغيرة معقمة.

الى اللقاء في الحلقة القادمة
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/59164-2023-06-22-12-28-09.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

995 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع