الموسيقار بيتهوفن في بغداد
في عام 1974 سافر صديقي الاستاذ سعيد مهدي الهاشمي الى الاتحاد السوفيتي لدراسة علوم الاقتصاد وتحديدا علم المالية في المعهد العالي او ( معهد ماركس العالي) الذي يقع في مدينة لينيغراد حيث كان شغوفا في تعلم اللغة الروسية حتى يستطيع الدراسة لاحقا بشكل جيد ,
وبعد اكثر من عام استطاع الاستاذ سعيد من اتقان الروسية بشكل جيد حتى انه اجتاز امتحان اللغة الروسية بدرجة امتياز . وفي تلك الفترة اصبح لدية الكثير من الاصدقاء الروس ومن غير الروس الدارسين في ذلك المعهد . وكان من ضمن هؤلاء الاصدقاء زميلة روسية تكن له كل التقدير والاعتزاز لما لديه من اخلاق وطموح جعلت جميع من في المعهد في حب تام لاستأذنا العزيز . وذات صباح جاءت هذه الزميلة الروسية الى الاستاذ سعيد وقالت له عندي طلب وارجوا ان توافق علية ؟ فأجابها سعيد وما هذا الطلب ؟ قالت.. ان لديها صديقة عزيزة من جمهورية هنكاريا الشعبية وهي في العقد الخامس من العمر وإنها توسلت بي من اجل اعداد لقاء يجمعنا نحن الثلاثة لاني قد قلت لها ان لدي صديق يدرس معنا من بلد اسمه العراق .. لذلك تود طرح بعض الاسئلة عليك .. وارجوا ان لا ترفض طلبي هذا ..فقال لها انا حاضر لكل سؤال تود صديقتك طرحة علي . فتهللت اسارير وجهه زميلتي الروسية بالفرح وذهبت مسرعة الى احدى كابينات الهاتف حيث اتصلت بزميلتها الهنكارية على الفور لتخبرها بخبر قبولي وحددت موعدا لذلك . وكان الموعد هو الخامسة عصرا من مساء ذلك اليوم وذهبت مع زميلتي الروسية الى مكان سكن السيدة الهنكارية حيث كانت تسكن في شقة راقية في احدى ضواحي لينيغراد وعند وصولنا سكن السيدة الهنكارية رحبت بنا كثيرا وارتبكت من شدة فرحتها بعدها افهمتني زميلتي الروسية ان زميلتها الهنكارية هي الان في صدد اعداد الحصول على شهادة الكانديدات التي تعني شهادة الدكتورا حيث كانت متخصصة في دراسة الفلكلور الشرقي العربي بشكل عام وتحديدا الفلكلور العراقي بشكل خاص وقد ارسلت من قبل جمهورية هنكاريه لذلك الغرض . كانت هذه السيدة الهنكاريه في قمة السعادة لقبولي دعوتها وقد اعدت لنا مأدبة في غاية الكرم والفخامة وكانت مهتمة لما اقول... ولا تزال تكتب كل ما اقول بالحرف الواحد , وقد وجدتها شديدة الحرص ان اكون مرتاح في جلستي.. وجلبت لنا الشاي والقهوة والفطائر الروسية اللذيذة . فكنت حريصا ان اعطي الوصف الكامل لعادات وتقاليد بلدي العراق لأنها كانت تعطي الوجه المشرق لبلدي وكيف كانت هناك حضارات متعددة قبل 6000 سنة تسمى بلاد سومر و اكد و البابليون والأشوريين وغيرها من الحضارات التي يزخر بها تاريخ العراق القديم . بعدها سألتها ؟ ماذا تريدين ان اخدمك في مسارك هذا يا سيدتي ؟ فأجابت اود معرفة عادات وتقاليد الشعب العراقي لان الغموض يكتنف هذا الشعب عند الدول الغربية و الاوربية وانأ واحدة منهم لا اعرف اي شيء عن بلدكم العراق فلو تسأل اي شخص هل تعرف بلد اسمة العراق فيقول كلا , وانأ بالذات المتخصصة في شؤون العراق لا اعرف اي شئ عن بلدكم .. فارجوا من حظرتكم الاجابة عن اسئلتي ؟ فقلت لها تفضلي ؟ فقالت لي هل لديكم بقرة ؟ هل لديكم خروف ؟ هل لديكم سيارة ؟ هل لديكم حصان ؟ هل عندكم فاكهة التفاح او البرتقال ؟ فتألمت كثيرا لسماعي هذه الاسئلة وفهمت منها انهم يتصورن بان بلدنا صحراء في صحراء ونعيش نحن خلف الإبل.... فقلت لها والألم يعتصرني ... ان العراق صاحب اول حضارة في التاريخ وهو الذي اكتشف الكتابة والعجلة والقوانين وهو ارض الانبياء والأولياء والصالحين وهو بلاد ما بين النهرين وهو الوجه المشرق للعالم اجمع ونحن نمتلك ما لا تمتلكه جميع دول العالم مجتمعه من عادات وتقاليد وفلكلور متميز فعلى سبيل المثال نحن نصوم كل يوم في شهر رمضان منذ الصباح الى المساء لتجتمع العائلة جميعا على مائدة الافطار لتفطر على التمر واللبن حيث يقومون بصلاة المغرب بعدها يجتمع الناس في المساجد لتأدية صلاة التراويح وبعد خروج المصلين يجتمع الاصدقاء والأحباب في حلقات لمزاولة لعبة المحيبس ولعبة الصينيه لأنها من الالعاب الرمضانية المشهورة , اما الإحداث التي تتخلل هذه الالعاب فهي قصائد في حب الرسول والأغاني الشعبية والبستات البغدادية وشعر الدارمي والبوذيات .. فكانت مشدودة ومنتبهة غاية الانتباه وسألتني كيف يتسنى لشخص معرفة مكان المحبس من بين ثلاثون رجلا ؟؟ بعدها تأتي صواني البقلاوة والزلابية وهي من الحلويات العراقية الشهيرة وكانت تسمي البقلاوة ( بكلاوه) بسبب صعوبة لفظ كلماتنا العربية .. وقد بدأت اشاهد ان زميلاتي الروسية والهنكارية يذرفن الدموع ..بعدها تكلمت لهم عن العادات والتقاليد في الزواج حيث يذهب الرجال بإعداد كبيرة ( اربعون رجل فما فوق ) الى بيت اهل الفتاة لمقابلة ذويها من اجل طلب يدها وإذا حصلت الموافقة يقرؤون سورة الفاتحة بعدها تقوم النساء بإطلاق الهلاهل والزغاريد , وفي اليوم التالي يذهب الاهل لشراء الذهب او النيشان وشراء مستلزمات العروسة وغير ذلك... فتوقفت عن الكلام والسبب ان زميلتي الروسية والهنكاريه اجهشن في البكاء وذرف الدموع .. فقالت لي السيدة الهنكاريه بالحرف الواحد ..ان حياتكم وعاداتكم في العراق جميلة ورائعة وانك عندما كنت تتكلم وتشرح لي عن فلكلور العراق وعن بغداد اشعرتني وكأني في حفلة من حفلات موسيقى بتهوفن الشهيرة فقد حلقت بعيدا كالفراشات.... فارجوا اعطائي المزيد والمزيد ..بعدها تكلمت لها عن الامثال الشعبية الدارجة التي يزخر بها فلكلور العراق وتكلمت لها عن بيوت البصرة والموصل و بغداد القديمة وشناشيلها المميزة وعن الاهوار وعن شمالنا الحبيب وعن دجلة والفرات وعن الازياء الشعبية المختلفة لكل منطقة للنساء والرجال وعن الاكلات الشعبية وعن الثأر وعن رقصة الجوبي وكذلك العادات المختلفة لكافة اطياف الشعب العراقي وغير ذلك الكثير والكثير ... حتى استمرت جلستنا الى حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل لكثرة المعلومات وكثرة العادات الفلكلورية العراقية الاصيلة .. فلم تزل السيدة الهنكارية تكتب وتكتب بكل شغف ومتابعة حتى قالت لي انك قد اديت لي خدمة جليلة وعظيمة لي والى الشعب الهنكاري لان الغرب والشعب الهنكاري يجهل تماما هذه الطقوس والعادات والفلكلور العراقي الجميل وانأ بدوري سوف انشر كل ما كتبته وتعلمته عنك وعن بلدك العراق وسوف يقرئها ابناء شعبي بشغف كبير وبلهفة عالية وقالت ...اني في غاية السعادة والفرح فعندما كنت تتكلم عن بلدك العراق كنت كأنني استمع الى موسيقى الموسيقار الشهير بتهوفن تصدح من بغداد .
799 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع