قصة قصيرة / هذا الرفيق بربطة عنق خضراء
تفاجأ الرفاق المجتمعون على سطح البيت , المفترشون لحصيرة على سطح دكان الفحم الذي يمتلكه , والد رفيقهم سمير الكردي في محلة باب الشيخ , وهم ينظرون الى رفيقهم القادم متأخرا بعض الشيئ , ليبادره سمير متسائلا .
ـــ ما ربطة العنق هذه التي تلبسها يارفيق طارق؟.
نطق مسؤول الخلية تاج الدين بالقول .
ـــــ قضية شخصية يارفيق سمير
ــــ وكيف تسنى لك التجوال في محلتنا بهذا اللون الاخضر..أنه لون القوميين ؟
تساءل الرفيق سمير بذلك .
ــــ سوف أذهب الى مدينة الاعظمية بعد ان ننتهي من الاجتماع .
بهذه الكلمات رد طارق على الجميع , وهو يتحسس ربطة عنقه الأنيقة وهندامه المتميز.
فقد أعتاد طارق ان يحضر اجتماعات الخلية , وهو بكامل هندامه ما يثير أستغراب رفاقه . بل أستهجان البعض بأعتباره منخرطا في حزب للكادحين لا للبرجوازيين.
كان طارق ينظر الى ساعته في الفينة بعد الاخرى,كما لو أنه يتمنى أن ينتهي هذا الاجتماع سريعا , ليذهب الى الاعظمية حيث موعده الاسبوعي مع صديقته الجميلة. في ختام ألاجتماع وزع الرفيق تاج كراريس ثقافيه على أعضاء الخليه , فكان نصيب طارق كراستين أحداها بعنوان " ما الحزب " والثانية " الليبرالية والتسيب" . أنزعج طارق لهذه الحركة خاصة وانه ذاهب الى منطقة ساخنة ومعادية لحزبه. ولو قدر ان عثر في حوزته على الكراستين يعني نهايته من قبل معسكر القوى القومية والبعثية والاسلامية. كما انه لا يستطيع التصرف بهما , فهي أمانة يجب ان يعيدهما بعد هضم ما فيهما من افكار, فهو عليه أن يشرح في الاجتماع المقبل ما فهمه, وما يجب ان يفهمه الرفاق منه . أنفض الاجتماع عند العصر بقليل , فدس الكراستين تحت قميصه , وأحكم حزام سرواله عليهما وأستقل حافلة نقل الركاب الى باب المعظم , ومنها أستقل حافلة أخرى الى الاعظمية. عند حديقة النعمان أحدى معالم الاعظمية الراقية , التي تختلف كثيرا عن أحياء منطقة الفضل الشعبية, كانت صديقته بأنتظاره في الحديقة حيث بادرته بالاستهجان عن تأخره . علل لها تأخره لتأخر باص الاعظميه عن القدوم, وهي كذبة لا تنطلي على اي بغدادي, بسبب دقة مواعيد حركة حافلات مصلحة نقل الركاب في ذلك الزمان , بمواعيد تحاكي مواعيد باصات لندن. لثم شفتيها بسرعة البرق , بعد ان تلفت يمينا ويسارا فلم يجد في الحديقة من كائن غيرهما , فأستغرب قائلا لها .
ــــ أين ذهب الحبايب ؟
ــــ ستنطلق بعد قليل تظاهرة كبيرة تندد بالشيوعيين وعلينا المشاركة بها .
قالت ذلك وقد استسلمت اليه, يعبث بما يريد ان يعبث به في كل قطعة من جسدها, الذي توهج وهجا شعر بلسعاته هو. كانت في السابعة عشر من عمرها , ويكبرها بسنتين أو أكثر بقليل . ألا ان العمل الحزبي ساهم كثيرا في نضجه وتوسيع مدارك افكاره السياسية , فقد التحق بالحزب مع الايام الاولى لقيام ثورة 14 تموز. وها هي تمضي عليه أكثر من ثلاث سنوات وهو بدرجة نصير, ولانية لديه بالتقدم الى الامام, بسبب عدم نشاطه الحزبي , الذي لطالما نبهه عليه رفيقه تاج الدين.
أما هي فكانت تكره كل ما يمت الى الشيوعيين بصلة , وتعرف عنه كرهه للسياسة وحبه الى المغامرات النسائية , وكانت تلتذ بجرأته وهو يتحسس كل مفاصل جسدها , دون ان تبدي تبرما . أغتنم فرصة خلو الحديقة من البشر, فراح يرتشف من شفتيها رضابا , وهو يردد عليها " أدفعي بمزيد من الرضاب الى فمي فوالله صدق عمر الخيام فأنه الشهد ما بعده شهدا ". فهو مع صديقته هذه يبدو بخبرة, لطالما شككت أن يكون متزوجا في هذا العمر الصغير.
هلت طلائع التظاهرة قادمة من منطقة السفينة , بالهتافات المنددة بالشيوعيين وبشعارات قومية رافعين لافتات قماشية, كتب عليها "عاش الزعيم العربي عبدالكريم قاسم" , هذا الشعار كان أكثر ما يغيض المعسكر المعادي وخاصة الحزب الشيوعي , الذي اعتاد ان ينعت الزعيم بشعار " عاش الزعيم الاوحد عبدالكريم قاسم " أو شعار " عاش الزعيم الديمقراطي عبدالكريم قاسم". أنتفضت صديقته طالبة منه المشاركة بالتظاهرة في زمن كانت بغداد لاتخلو من التظاهرات والمسيرات الاحتفالية المناصرة للزعيم .
حتى ان تظاهرة شهيرة يتذكرها هي مسيرة عيد العمال العالمي أمتدت حتى صباح اليوم التالي. كانت النسوة والعوائل يسهرن مع هذه التظاهرات وقد جلبن معهن الاكل والشرب. كان يندس في اية تظاهرة نصيرة لحزبه اومعادية له , شريطة ان تكون مكتظة بالبنات. يذكر انه كان في تظاهرة يقودها مسؤوله تاج , عندما لمح فتاة لطالما كان يتمنى ان يتعرف بها يوما , تشارك بتظاهرة للقوى البعثية والقومية والاسلامية . فأنسل بهدوء من تظاهرته , ليندس بكل خفة وراء هذه الفتاة وراح يهتف بصوت عال يندد بحزبه بهدف ان يلفت أنتباهها له . لايهم أن تتطاول على حزبك فحبه أكيد في القلب , لايمتلكك الانزعاج فهوسك بالنساء أقوى من أن تقاومه, وهذا سبب عدم تقدمك في الحزب. كان التدافع على أشده وفي غمرة هذا التدافع ألتصق بها ومد يده الى ما كان يصبو اليه من جسدها , فألتفتت أليه مستهجنة فعلته وهي تقول له .
ـــــــ ألحق بتظاهرة الشيوعيين ستجد البنات هناك يرحبن بك .
ومالبثت أن دفعته بعيدا عنها.
توقفت التظاهرة عند ساحة عنترة , وبدأ الخطباء يلقون خطبهم , فيما أنشغل هو بالتجوال في عالم جسد صديقته البض . أما هي فكادت ان تسقط على الارض من شدة الأعياء والتعب , جراء الجهد الذي بذلته والهتافات التي أطلقتها بهستيرية .
عاد أدراجه الى محلته العزيزة "العزة" , مزهوا بهذه الصولة, بل بهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطرمن كل الجوانب.
أشتد الصراع بين بغداد والقاهرة , عقب أنفراط عقد الوحدة بين الاقليمين المصري والسوري . وكانت حرب الاذاعات بينهما على أشدها . حيث تحقق اجتماع حزبي للخلية , عندها كلفه الرفيق المسؤول تاج الدين عن لصق منشورات على الحيطان , تمثل صور راقصات مصريات وضع رأس الرئيس جمال عبدالناصر ، محل رؤوس الراقصات . بالرغم من محبته للحزب ولزعامة عبدالكريم قاسم ورفاق الزعيم من امثال فاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر وماجد محمد أمين , ألا أن تداخلا في المحبة لايعرف مرده للرئيس عبدالناصر, سوى ان هواه منذ الصغر هوى مصريا . أحب كل شيئ من مصر. تمنى لوكان يظفر بفرصة للعمل في الصحافة المصرية. وخاصة في مؤسسة أخبار اليوم الكبيرة. كان يحلو له ان يبتاع بيوميته البسيطة وهو يجوب شارع المتنبي كتب الزيات والمنفلوطي , صغيرا لايتجاوز عمره منتصف العقد الثاني , ويلتقط المجلات والصحف المصرية لينكب على قراءة ألاعمدة الصحفية لمصطفى وشقيقه على أمين . وتغمره السعادة وهويتصفح اسبوعيا صحيفة اخبار اليوم , ليقرأ بنهم الصفحة الاخيرة ومقالة كاتبه المفضل محمد التابعي من السبت الى السبت. ويوم حلت القطيعة بين مصر والعراق , انقطعت كل المطبوعات المصرية عنه, فأنشغل بأذاعتي القاهرة وصوت العرب. فنمى الحب لعبدالناصر بفعل
هذه العوامل . ويوم سلمه الرفيق تاج المنشورات أخذها منه, وعند باب أقرب بيت مر به رمى هذه المنشورات عند مجاز"مدخل" البيت بعد ان قطعها . قرر مقاطعة الحزب نهائيا بالرغم من بقاء هذا العشق له داخل قلبه . الذي خدمه أنذاك بالأبتعاد , ان لاأحد يعرف طريق بيته في محلة العزة , سوى أنه من سكان منطقة الفضل الكبيرة والمترامية الاطراف بحواريها وأزقتها. كما أنه عزف عن الذهاب الى منطقة باب الشيخ بعد ذلك .
أصبح معسكر القوى القومية والبعثية والاسلامية مسيطرا بالكامل على منطقة الفضل. بعد أن أغلقت مقهى 14 تموز معقل الحزب الشيوعي أبوابها, لتنفرد مقهى "عنجر" وتصبح مقرا لرواد القوى القومية والبعثية والاسلامية ,
وقد راحوا يتصيدون الشيوعيين في أزقة الفضل, والاعتداء عليهم بالضرب. خاصة بعد ان فقدت الفضل بطلها الاسطوري خليل ابو الهوب, أمير شقاوات بغداد بلا منازع , أثر عملية أغتيال له نفذها جلاوزة الامن العام في ساحة النصر بشارع السعدون. كان طارق بدأ بأستخدام حارات وازقة بعيدة عن الفضل , عند خروجه من "العزة" او العودة اليها. وحرم من أطلالة
الفضل على شارع الملك غازي بالمرة, متجنبا أصطياده من قبل القوميين والمتحالفين معهم.
لم تمض فترة طويلة حتى أستطاعت التنظيمات البعثية والقومية والاسلامية , من الأطاحة بحكم الزعيم عبدالكريم قاسم وأعدامه في مبنى الاذاعة والتلفزيون , في انقلاب دموي صبيحة الثامن من شباط عام 1963. وتم أعدام المئات من الشيوعيين ومن باقي القوى الديمقراطية المتحالفة . وأصبح مركز شرطة الفضل بيد جماعة الحرس القومي . فما كان من والدة طارق الا وطلبت منه اللجوء الى اقاربهم في مدينة بعقوبة وترك "العزة" فورا. وفعلا ظل مختفيا أكثر من شهرين هناك , حتى هدأت الامور بعض الشيئ وعاد متسللا الى محلته , ولازم البيت فترة ليست بالقليلة . والمفاجأة انه علم بأن الرفيق تاج الدين والرفيق سمير الكردي , أنخرطا في الحرس القومي وساهما في أصطياد كثيرا من شيوعي شارع الملك غازي .
وكانت أمنيتهما ان يظفرا به,ليقدمانه هدية الى آمر الحرس القومي لمركز الفضل المدعو ناظم كزار ومساعده جلعوط.
3397 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع