أيام زمان - الجزء ٤٧ خراعة خضرة

أيام زمان - الجزء ٤٧ خراعة خضرة

من منا لم يزر يوماً حقلاً أو مزرعة، فاستدار على حين غرة ليرى "شيئاً" يبدو وكأنه يحدق به، متمايلاً مع نسمات الهواء في شتى أنحاء العالم، يستعين الفلاحون منذ القدم بأولئك الحراس المجانيين الذين لا غنى عنهم للتخلص من شر بعض الطيور، خصوصاً الغربان، التي تقتات مجاناً على حساب محاصيلهم.

في البداية اختُرعت الخراعة لأسباب عملية، فاتساع الأراضي المزروعة وتكاسل الفلاحين، مع تطور وسائل الزراعة، جعلا من العسير جوب الحقول يومياً لطرد الطيور، وبما أن الحاجة أمّ الاختراع، عمد المزارعون إلى توكيل هذه المهمة إلى ملابسهم القديمة، بيد أن تقليد الأرياف تحول إلى تسلية لدى المزارعين وأهل المدن على حد سواء.

خرّاعة خضرة، أو (خيال مآته). والمآتة (الخرّاعة أو الخريعة) أو العلامة كما تسمى في بعض أرياف العراق، ويسمونه في بلاد الشام بالفزاعة، تعمل من الخرق البالية وتركب على خشبة تشبه الصليب، ويوضع على رأسها طرطور لتشبه شكل البشر، وحين تهزها الرياح تفترضها الطيور شخصا فتفر، ولا تعود تلتقط الزرع أو البذور. فان الطيور وبالأخص العصافير والغربان ذكية جدا، وسرعان ما تتعود على الخرّاعة فلا تخافها ثم تحط عليها تدريجيا، حتى تبدأ بالذرق عليها واللعب حولها، ومن أقوالهم (فلان خراعة خضرة)، تعني الرجل الذي لا رأي له ولا فعل، وتظل خراعة الخضرة قادرة على أداء مهمتها بنجاح في تخويف جميع الطيور، إلى أن يأتي أول طائر ليقف فوق رأسها، فيكتشف الجميع أنها مجرد هيكل خشبي أجوف لا حياة فيه، ويتم أحياناً وضع الأجهزة الصوتية المختلفة بعد اختراعها في الوقت الحاضر، حتى تقوم بترويع الحيوانات والطيور بما في ذلك تسجيلات أصوات الحيوانات المفترسة أو الحشرات المزعجة، فعلى سبيل المثال لردع الغزلان عن المزارع يتم استخدام أصوات الذباب، وكذلك أيضاً يتم استخدام أصوات المدافع، وأصوات إطلاق الرصاص من البنادق لإبقاء الوز المهاجر خارج الحقول.

وتسمى أيضا (رجل القش) نسبة للقش الذي تصنع منه خراعة الحضرة، أو تسمى (نطُاٌر) وهو ما يكون على هيئة رجل ينصب في الزرع وإبعاد الحيوانات المضرة به، وفي المراعي لإخافة المفترسات من الحيوانات، وجاءت الكلمة من "نوطورو" notoro. أرامية (معربة)، و(مآته) من القبطية (metouwi) أي (فلاح)، أو (خيال) والخَيال خَشَبة عليها ثياب سود تُنْصب للطير والحيوانات فتظنه إِنساناً، و(أما الخيال الذي ينصبونه بين الزروع للتهويل على الثعالب وغيرها فهو النطَّار أو اللعين أو المجدار، و(مَخْيُوْل) الاسم من المصدر(خيال) أي خيال الشيء. والمخيول يصنعه الراعي وهي عصا طويلة تركز في الأرض، يضع الراعي عليها عباءته ليوهم الأغنام بوجوده فتذهب بعيدا، ولتخويف السباع فتظنه أنسانا، والمخيول هو ما يكون على هيئة رجل ينصب بين الزرع لإخافة العصافير.
خراعة حضرة هذا النموذج الذي صنعه الفلاح، جاء قبل مئات بل الأف السنين، حيث صنع الفلاح نموذج خرافي ووضعه وسط حقله أو مزرعته، ليكش بها العصافير والطيور التي تأكل الحبوب، ويعتقد الطائر أنه في حالة القرب من هذه الخراعة سيهاجم فيبتعد، مما يشكل محاولة خادعة من المزارع للحفاظ على محصوله الذي يكدح طوال الموسم، من أجل الحصول على محصول، يستطيع بيعه حتى يحصل على عائد مادي نظير تعبه طوال الموسم، لقد تفنن الفلاح بصناعة هذا النموذج الخرافي، حيث البس الفلاح النموذج كل الأزياء الغريبة والعجيبة على مر التأريخ القديم والمعاصر، وتفنن الفلاحين في صناعة خراعة الخضرة، بصورة عامة ويلبسونها الدشداشة في العراق، والبشت في الخليج، والجلابية في مصر، والسروال في بلاد الشام، ويحشونها بالقش ويضعون الطربوش، أو العقال، أو الكوفية، أو الجراوية، أو العمامة كغطاء للرأس وكل حسب زيه المحلي المستخدم في بلاده. كما يلبسونها بعض الفلاحين ملابس صياد لأن الصياد يطلق النار على القطيع الذي يدخل المزرعة، ويقال عنها دمية حيوان ولكن مفترس كالبومة والثعبان فهي مصنوعة بأكملها من القش وتم ربط الأجزاء العاكسة القابلة للحركة بواسطة الرياح لزيادة الفعالية.

ارتبط اسم هذا النموذج الموضوع تحت الشمس والبرد، والمتحمل لكل أنواع العذاب ارتبط اسمه بالفشل والفاشلين فكل فاشل في عمله يسمونه خراعة خضرة، ورغم هذا الفشل والسمعة السيئة والفشل الكبير المصاحب لعمله، يصر الفلاحين على استخدامها في الحقول، لتخويف الطيور والعصافير الحديثة العهد بحياتها أو الغبية أن صح التعبير، وكذلك من أجل إخافة الأبقار والطيور لعدم تناول المحاصيل، ولحمايتها من التلف يقف كثير من الناس بين الابتسامة والخوف، حين يشاهدون خراعة خضرة وسط الأراضي الزراعية، يستغربون
من وجود تلك الدمية أو الفزاعة أو المانيكان، وسط مساحة واسعة من الحقول، وهم لا يعرفون بدايتها وهي تستخدم لإخافة الطيور أو ربما تستخدم كأهداف للتدريب على الرمي، أو ضربات السيف أو كدمى للحرق أو للفت انتباه ثيران المصارعة.
يعود تاريخ خراعة الحضرة أو خيال المآتة إلى ما يقرب من 3000 عام، ومن الواضح أن نيتها كانت تخويف الغربان، لأنها من أكبر الطيور ويمكن أن تستهلك قدراً كبيراً من حبوب الحقول في وقت الزراعة أو أثناء الحصاد، يقال أيضا خراعة الخضرة في الأصل فرعونية، وقد ذكرت في النصوص الهيروغليفية، وهناك برديات شرحت كيف تم استخدامها من أجل إخافة سرب طيور السلوى والسمانى من أجل اصطيادها، حيث تُنصب شبكة من خيوط رقيقة ثم تتم إخافة الأسراب لتعلق في الشبكة فتكون مؤونة من اللحم للمزارعين، ومن هذه الطريقة بدأ استخدام خراعة الحضرة في الحقول لإخافة الطيور ومنعها من أكل محاصيل الحبوب وغيرها من المزروعات، وانتقلت إلى الإغريق من الفراعنة، وكان هؤلاء قد نقلوا عن المصريين القدماء الكثير من علومهم وتقنياتهم، لكن خراعة الخضرة الإغريقية كانت عبارة عن خشب منحوت على شكل شخصية أسطورية تدعى "بريابوس"، وكان قبيح الشكل ويدهنونه بالأحمر ويضعون في يده الهراوة لمزيد من التخويف.
أما المزارعون اليابانيون قاموا بدورهم بحماية حقول الأرز، فكانوا ينصبون أعمدة من القصب أو الخيزران ويرفعون فوقها الأقمشة والقش، ويضعون الأسماك والحيوانات الميتة كي تصدر روائح نتنة تُبعد الطيور، وكانوا يسمون فزاعتهم "كاكاشي"، أي ذات الرائحة النتنة، ومع مرور الزمن راحوا يصنعون الفزّاعة على شكل إنسان، وهي عبارة عن خشبة محشوة بالقش وعلى رأسها قبعة، وبقيت تحمل الاسم القديم نفسه على الرغم من أنها فقدت رائحتها الكريهة.
خلال العصور الوسطى لبريطانيا نشأت خراعة الخضرة، كأطفال صغار حقيقيين كانوا يمرون في الحقول، ويرمون الحجارة عندما تهبط الطيور في الحقول، حيث كانوا أيضاً يدقون على أشياء تسمى المصفق، (قطعتان من الخشب المسطح متشابكان معاً) لمطاردتهم بعيداً، بعد أن قتل الطاعون العظيم في بريطانيا ما يقرب من نصف الناس عام 1348، لم يكن هناك عدد كاف من الناس للعمل في الحقول وهكذا صنعوا العرائس من أكياس القش المحشوة ووجوهاً منحوتة من القرع واللفت وتقف على عمود.
في ألمانيا كانت الخراعة (الفزاعة) خشبية وتشبه السحرة، حيث كان من المفترض أن تعجل فزاعات الساحرا بقدوم الربيع. وفي بريطانيا أثناء العصور الوسطى، كان يتم استخدام الفتيان والفتيات الصغار في الفزاعات الحية أو مروّعات الطيور حيث كانوا يقومون بدوريات في حقول المحاصيل ويخيفون الطيور عن طريق التلويح بأذرعهم أو رشقهم بالحجارة وفي أوقات لاحقة حشو المزارعون أكياساً من القش وصنعوا وجوهاً من القرع واتكأوا رجل القش على العمود لإخافة الطيور.

في الولايات المتحدة صنع المزارعون الألمان المهاجرون فزاعات تبدو بشرية والتي تحولت فيما بعد إلى بعبع حيث كانوا يرتدون ملابس قديمة مع منديل أحمر كبير حول أعناقهم.
استخدمت القبائل الأمريكية الأصلية في جميع أنحاء أمريكا الشمالية، الفزاعات أو مذبح الطيور ومعظمهم من الرجال البالغين، وفي جورجيا انتقلت عائلات الخور الهندي إلى أكواخ في حقول الذرة، لحماية محاصيلهم خلال موسم النمو وفي الجنوب الغربي، وخاض الأطفال مسابقات لمعرفة من الذي يمكن أن يصنع الفزاعة الأكثر رعباً.

ألهمت نظرات الفزاعات المخيفة عدداً من كتاب قصص الرعب ومخرجي أفلام العيد، التي تستهوي الأطفال والمراهقين في أيام الأعياد. منها رواية بعنوان "فزاعات منتصف الليل"، ألّفها أر. أل. ستاين. ومثلما يُستشف من العنوان، "تستيقظ" فزاعات الرواية في منتصف كل ليلة، فتصبح "مخلوقات" شريرة تطارد أهل المزرعة وأي سيء حظ يمر من هناك صدفة، كشاب وخطيبته نفد بنزين سيارتهما في ظلمة الليل، فتورطا حين جاءا لطلب النجدة من المزرعة، تحاول الشواخص الشريرة التهام الأطفال وقتل الكبار، لكنها مع بزوغ الفجر تعود لوظيفتها الوديعة النافعة، فلا تفزع سوى الغربان المتطفلة.
لا تزال الفزاعات تحرس الحقول في جميع أنحاء العالم خلال موسم النمو، فاليوم يستخدم بعض المزارعين الفزاعات التكنولوجية بدلاً من القش والأشكال الخشبية والفزاعات التكنولوجية، مثل شرائط الأفلام العاكسة المرتبطة بالنباتات، لخلق وميض من الشمس أو بنادق ضوضاء أوتوماتيكية، تعمل بغاز البروبان حيث يقوم مزارعون آخرون في الهند وبعض الدول العربية بوضع رجال عجوز في الكراسي لرمي الطيور بالحجارة لإبعادها عن المحاصيل تماماً.
مع التوازن في الطبيعة وتطور الزمن، أين ذهب استخدام الفزاعة في العالم الحديث؟ يُنظر إليها اليوم على أنها
عنصر زينة في فترة الخريف إنها مزينة بالملابس القديمة وقبعات القش وحشو القش والألوان الزاهية وعادةً ما تكون محاطة بالخضروات المحصودة، وبالات القش والأوراق الزاهية والقرع، ويبدو أنهم يراقبون هذا الحصاد الوفير على أنه عرض أكثر من كونه هدفاً وظيفياً.
يقام معرض سنوي لها في قرية بايول في أقصى شمال فرنسا، قرب الحدود البلجيكية، وينظم مهرجان سنوي آخر في قرية آردلو الفرنسية، المطلة على بحر المانش قرب ميناء كاليه. وثمة احتفالات مماثلة في مدن وقرى أوروبية أخرى، لاسيما في ألمانيا وبلجيكا وهولندا والدول الإسكندنافية وبريطانيا، يقيمونها للفرح والمتعة، مع تنظيم مسابقات للفوز بجائزة أجمل فزاعة أو أكثرها رعباً أو غرابة، وما شابه.
بعيداً من المهرجانات والمسابقات والقصص والأفلام والروايات، تظل الفزاعات مجرد أدوات نافعة لا تؤذي أحداً ولا تصحو في منتصف الليل، لا يخشاها غير الحمائم والغربان الشرهة التي، لولاها، لأبادت محاصيل مواسم بأكملها عن بكرة أبيها، أما عندنا، فيظل الاستخدام الاجتماعي الساخر لمصطلح فزاعة أو خرّاعة خُضرة يشير إلى الرجل الذي لا يحلّ ولا يربط في العمل، بل مجرد صورة قد تضلل البعض.
المصدر/ مواقع التواصل الاجتماعي / محرري المواقع

 للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://www.algardenia.com/mochtaratt/61265-2023-11-29-18-10-49.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

606 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع