محطات من ذاكرتي عن سيرتي الوظيفية من بداياتها
عند تخرجي من كلية الشرطة في (8 شباط 1969) نسبت للعمل على ملاك آمرية قوة الشرطة السيارة (ألغيت في عام 1973) والتي نسبتني وعدد من ضباط دورتي (23) من خلال القرعة في الفوج العاشر والذي كان مقره في منطقة (شيوه سور) (الوادي الأحمر) وكانت تقع على الطريق الواصل بين محافظة كركوك وقضاء (كويسنجق) وتبعد عن المحافظة المذكورة مسافة تقدر بحوالي خمسة وثلاثون كيلومتراً وتتميز المنطقة بخصوبة أراضيها المتموجة والتي تتخللها الوديان والهضاب الكثيرة وبساتينها المنتجة لأنواع الفاكهة والمشهور منها التين والعنب كما تضم المنطقة على ذكر أهلها ضريح الصحابي اومر مندان (عمر مندان) والذي يقبل على زيارته سكان المنطقة وأغلب مناطق كردستان الأخرى على أمل أن يشمل المرضى منهم ببركاته ويشفي الذين يعانون من الأمراض النفسية والعقلية حسب معتقداتهم وما دمنا نتحدث عن هذا الصحابي الذي لم يسلم من عمليات الأنفال سيئة الصيت من خلال هدم مزاره أسوة بما تم هدمه من المدن في كردستان (الأقضية والنواحي والقرى) ومئات الجوامع فيها وتجريف بساتينها وردم آبارها وعيونها في عام (1987)،
كاتب المقال مع زميله العميد باران ومن خلفهما مقام الصحابي عمر مندان
صورة من داخل مقام الصحابي بعد إعادة بنائه من قبل أهالي المنطقة
حيث خول الرئيس العراقي (صدام حسين) ابن عمه (على حسن المجيد) صلاحيات مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية بموجب القرار المرقم (160) في (18 آذار 1987) مجلس قيادة الثورة للإشراف على تنفيذ سياسات السلطة المركزية في المنطقة الشمالية ومن ضمنها منطقة كردستان وحينها كان يشغل مهام أمين سر مكتب تنظيم الشمال ومقره في محافظة كركوك.
صدام حسين وابن عمه علي حسن المجيد
صورة من قرار مجلس قيادة الثورة رقم 160 الصادر بتاريخ 18 آذار 1987
كلف احد ضباط الجيش وكان برتبة نقيب بمهمة إزالة مرقد الصحابي المذكور مستصحباً معه عدد من الجنود بالإضافة الى شفل عسكري وعند شروعه بالعمل انبرى لهم خادم المقام معترضا حيث وقف في مواجهة سائق الشفل ليمنعه من تنفيذ الأمر وهو يتضرع باكيا متوسلا بالنقيب (سيدي ... لخاطر الله لا تهدم ضريح الصحابي الجليل وتحاشوا غضبه وانتقامه...) سحبه النقيب من يده مخاطبا إياه : (كاكه لا تتدخل هاي أوامر الحكومة واذا كان صحابي خلى هو يحمي نفسه وينتقم ويخبل اللي صدر الأمر وأنصحك بالابتعاد عن المنطقة لأنها محظورة أمنيا والتعليمات توجب قتل أي إنسان أو حيوان يتواجد في المنطقة بعد ترحيل سكانها الى (المجمعات القسرية) أشار النقيب لسائق الشفل بيده للبدء بتنفيذ المهمة والتي انجزها على خير ما يرام وساوىٰ المقام بالأرض وخادمه يلطم على رأسه ويترك المكان رافعا كلتا يديه الى السماء ولسانه يلهج بالدعاء باللغة الكردية للانتقام من رأس النظام وأعوانه الذين تنكروا لقيم المواطنة والإنسانية الحقة وأباحوا لأنفسهم اقتراف هذه الجرائم المشينة بحق مواطنيهم ومقدساتهم.
كاتب المقال وزميله المرحوم الملازم أحمد عبود الدليمي ويظهر خلفهما الوادي الأحمر في 15 آذار 1969
لقد أصيب مصدروا هذه القرارات بجنون العظمة والذي جعلهم يسرعون الخطى نحو حتفهم ومصيرهم المحتوم جراء ما اقترفوا من جرائم حاسبهم الله جلت قدرته عليها حيث (إنَّ الله يُمْهِلُ ولا يُهْمِل) وهنا أود الإشارة الى إنني وبالرغم من قصر الفترة التي عملت فيها في المنطقة المذكورة إلا إنني حظيت بود وصداقة العديد من سكانها ولازلت.
محافظة أربيل -قضاء كويسنجق
وفي موضوع ذو صلة بما نحن بصدده فقد كان قضاء كويسنجق وهو من أعرق أقضية العراق مرشحا للشمول بقرار الهدم والإزالة وترحيل سكانها وقد حال دون ذلك محاولات وتدخلات العديد من أعيانها ووجهاء وشخصيات محافظة أربيل وتقودني ذاكرتي الى مراجعة العديد منهم للشيخ (ميزر نوري الفيصل الجربا) وهو من شيوخ عشيرة شمر العربية العريقة.
كاتب المقال مع الشيخ ميزر نوري الفيصل الجربا
استجاب لمطلبهم وعقد العزم على مقابلة الرئيس العراقي (صدام حسين) والذي كان على علاقة طيبة معه وصاحب حظوة عنده فاقتنع بما طرحه عليه وألغى قرار هدم وإزالة القضاء المذكور في اللحظات الأخيرة. كانت مهمة الفوج تأمين الحماية لطريق السيارات في أوقات النهار من نشاطات قوات البيشمرگه ابتداء من ناحية (دارمان) ومروراً بناحية (شوان) والوادي الأحمر ولغاية وادي دبابة أما مسؤولية الفوج الثالث والذي كان مقره في ناحية (طق طق) فهو تأمين الحماية للطريق من الوادي الأخير ولغاية قضاء (كويسنجق).
ناحية طق طق
إن طبيعة تضاريس المنطقة كما ذكرناها بالإضافة الى كون الطريق المكلفين بحمايته كان بعد تسويته قد فرش بالحصى الناعم ولم يكن مبلطاً وتسهل زراعة الألغام فيه، وهذا جعل من مهمة قوات الشرطة أمراً صعباً ومحفوفاً بالمخاطر لتواجد مفارز البيشمرگه بالقرب من إمتداد الطريق وكان من نتائج هذا الوصف للمنطقة والوضع العسكري غلق هذا الطريق في أحيان كثيرة وانعدام المرور فيه وكما حصل في أول التحاقي بالفوج حيث تسبب زراعة الألغام فيه بقائنا محاصرين مدة تقارب الشهرين وأوشكت المواد الغذائية (الأرزاق) لدينا على النفاذ لغاية قيام قوات عسكرية كبيرة بحملة لإعادة فتح الطريق. عملت في السرية الأولى والتي كان عدد منتسبيها يبلغ سبعون شرطياً وكانوا مناصفة من محافظتي الناصرية وكركوك وبالذات من مناطق (قره تبه)، وكثيراً ما كانت تحصل مشاحنات بينهم مردها اختلاف أصول الطرفين العرقية والمذهبية ولم تفلح محاولتي للقضاء على هذه الظاهرة إلا بعد أن جاءنا نقلا الرائد (إسماعيل خضر محمد) وكان ضابطاً مسلكياً مخضرماً وبعد أن باشر العمل معنا في السرية (آمر سرية) لعدة أيام واطلاعه على تفاصيل ومجريات العمل تبين له بأن المشكلة الوحيدة التي نعاني منها مشكلة الاحتكاك بين أفراد الشرطة وما ينجم عن ذلك من انشغال الضابط في الإصلاح بين المتخاصمين ومعاقبة المسيء، اعتبر الرائد (إسماعيل أبو حقي) معالجة المسألة هذه أمرأً هيناً وبأنه سوف يعالجه بكل بســــــــــاطة ( باجر شوفوا شراح اسوي بيهم، اذا أنتو تاركيهم بدون شغل فينشغل بالحجي والنقاش والشقه ونتيجتها هذي المشاكل)،
كاتب المقال والمنظر خلفه يبين طبيعة تضاريس المنطقة في 15 آذار 1969
في صباح اليوم التالي جمع أفراد السرية وقسمهم الى مجاميع كل مجموعة تتألف من عشرة أفراد وبعد استثناء المكلفين بالواجبات طلب من كل مجموعة النزول الى الوادي وجلب الحصى، كل مجموعة بلون وشكل وحجم معين واستمر الحال في ذلك اليوم والأيام اللاحقة وأفراد الشرطة منشغلين بالنزول الى الوادي والصعود منه وهم يحملون الحصى ويفرشونه على أرضية المعسكر ولنهاية عصر كل يوم عند انتهائهم من العمل يصبحون بأشد حالات الإرهاق والتعب وفور تناول طعام العشاء يخلدون للنوم والراحة وهكذا الحال في كل يوم وبذلك تنعدم لديهم فرص المشاحنات وخلق المشاكل . في أحد الليالي كنت جالساً عند الرائد (إسماعيل) فأستفسر مني: (ملازم محي الدين تعرف تلعب طاولي) وعندما أجبته بالإيجاب فتح حقيبته وأخرج منها لعبة الطاولي وفتحها بكل تأني وعناية وهو يقول: (ملازم محي الدين تعرف هذا الطاولي مال من؟)
فأجبته: لا والله ما اعرف مال من
فأجابني: هذا الطاولي مال أحد سلاطين الدولة العثمانية
بدأنا المنازلة وكنت محظوظاً في اللعب تلك الليلة قام أثنائها (أبو حقي) بإنزال سلة كانت معلقة في سقف الغرفة وأخرج منها تمرة واحدة لنفسه وتمرة أخرى ناولني إياها ومن ثم أعاد تعليق السلة في مكانها في سقف الغرفة، ولدى اعتراضي على ذلك طالباً منه إنزال السلة لنأكل من التمر كفايتنا أجابني: (ملازم محي الدين هذا مو عبالك تمر اعتيادي...ضوگه هذا التمر بس اكو نخلة وحدة تحمل هذا النوع من التمر بالعراق وهي عندي بمزرعتي) عاودنا المنازلة في لعبة الطاولى وتفوقت عليه تفوقاً ساحقاً عكرت مزاجه فأغلق الطاولي بقوة وهو يستفسر مني: (ملازم محي الدين اشگد صارلك تلعب طاولي)
فأجبته: (سيدي صارلي ثلاث أشهر من أجيت للفوج تعلمت من الضباط)
صورة تبين تضاريس المنطقة
نهض واقفاً وهو في اشد حالات الغضب وخرج من الغرفة حاملاً الطاولي فتعقبته وإذا به يرمي الطاولي من اعلى التل المرتفع الذي كان يعلوه مقر سريتنا بكل ما أوتي من قوة، لم أشاهد مسار الطاولي ومحتوياته لظلام الليل، ولكنني كنت اسمع صوت سقوطه وتناثر أقراصه (البوالة) فوق أرضية الوادي المكسوة بالحصى والرمل، عاتبته قائلاً: (ليش سيدي شمرت الطاولي بعدين بيش نلعب) أجابني: غاضباً: (يابه دروح صارلي خمسة وثلاثين سنة العب طاولي وبالأربعينيات غلبت حسقيل اليهودي بمحله المربعة هسة انت تجي صارلك ثلاثة اشهر تغلبني بعد ما العب طاولي بحياتي)، المعلوم أن نتيجة هذه اللعبة تعتمد على ثلاثة عوامل أولها الخبرة والإتقان وثانيهما الحظ وثالثهما الحيلة والغش للمتمكن منه في بعض الأحيان، المهم في صباح اليوم التالي أرسلت عدد من افراد الشرطة للبحث عن الطاولي ومحتوياته جاءوني بعلبة الطاولي مضعضاً وخمسة أقراص. (سيدي بس لكينه هذي وصعب نلگي الباقيات ولسان حالهم يقول مشبهين مصير أقراص الطاولي والزارين) بحظ شاعرنا السوداني إدريس محمد حين يقول:
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يـــوم ريح اجمعوه
تقودني ذاكرتي أثناء عملي في المنطقة المذكورة الى حدث آخر عندما عسكر بجانب فوجنا فوج الصاعقة والمظلي الأول وكان آمره اذا لم تخني ذاكرتي هو العقيد الركن (وضاح) بعد يومين من استقرار الفوج المذكور تم دعوة جميع ضباطه الى وليمة غداء بهدف الترحيب بهم والتعارف بين الطرفين وبعد انتهاء تناول الطعام وشرب الشاي اقترح احد الضباط ولغرض التسلية إجراء مباراة بين ضباط الفوجين في التسديد وإصابة الهدف من اجل ذلك تم وضع علبة صفيح لمعجون الطماطم تم وضعها لمسافات بدأت من الخمسون متراً، تناوب الضباط المتبارون من الطرفين في التصويب على الهدف وكانت كفة ضباط الجيش هي الراجحة في إصابة الهدف بسبب كون المذكورين من النخبة في الجيش العراقي من حيث اللياقة البدنية والتدريب على مختلف صنوف القتال والرماية والتصويب.
كاتب المقال وهو واقف مكان السرية الأولى التي كان يعمل فيها
أصيب آمر فوجنا المقدم (شياع البراك ) بخيبة أمل من نتائج المباراة على أن ذهنه تفتق على فكرة إشراكي في المنافسة وهو ينادي: وين ملازم محي الدين؟
أجبته: نعم سيدي
أجابني: تعال أنت ضابط كردي أريدك تصيب الهدف
تقدمت نحو المكان المخصص للتصويب وأنا أردد مع نفسي:
سيدي خو مو كل كردي متمكن ومقتدر على التصويب آني عايش في بغداد
أخذت وضع الانبطاح
أمسكت البندقية
وحولت عتلة الأمان
صوبت نحو اسفل الهدف
طبقت الفرضة والشعيرة
أغمضت عيني اليسرى
قطعت التنفس
ضغطت على الزناد
كانت المفاجئة...حلقت العلبة في السماء وهي تدور حول نفسها
المقدم (شياع البراك) ينهض من مكانه وهو يصرخ:
لو هيجي التصويب لو ما لازم، ملازم محي الدين إجازتك القادمة أسبوعيين
(كانت الإجازة الدورية أسبوع واحد في الشهر)
انسحبت من المكان بهدوء خوفاً من إعادة تكليفي بالتصويب على الهدف مرة ثانية والإخفاق المؤكد في إصابته.
بعد صدور بيان الحادي عشر من آذار (1970) واتفاق الحكومة العراقية مع الحركة الكردية وإنهاء حالة القتال في كردستان والأوضاع الاستثنائية وكان من جملة القرارات التي اتخذتها الحكومة هو سحب الكثير من القطعات العسكرية والشرطة وإعادتها الى مقراتها الثابتة في وسط وجنوب العراق وكان فوجنا ضمن الوجبة الأولى من القطعات التي شملها السحب الى مقر آمرية قوة الشرطة السيارة في بغداد (حالياً تشغلها كلية الشرطة)، بتاريخ (23 آذار 1970) حيث تم تخصيص قاطع من ملاحق البناية الواسعة للآمرية المذكورة ليعسكر فيه فوجنا بعد يومين جاء الرائد (إسماعيل) وجمع منتسبي الفوج واختار منا خمسة ضباط وكنت أحدهم ومائة وعشرون شرطياً وأبلغنا بضرورة الاستعداد لتنفيذ مهمة دون أن يفصح عن ماهية المهمة وطلب منا التواجد في المعسكر وفي يوم (2نيسان 1970) صباحاً ابلغنا بأن المهمة ستنفذ هذا اليوم وعلى الجميع التواجد والاستعداد لها في الساعة (8) من ذلك اليوم، وفاتني أن اذكر بأن الرائد (إسماعيل) وطيلة هذه الأيام كان يتردد على المعسكر بملابس مدنية ويضع على رأسه قبعة (كابوي) ويستقل سيارة رقمها يعود لوزارة الزراعة (بيك أب) وعندما كنا نستفسر منه (أبو حقي بيش مشغول وشنو المهمة؟) يرد علينا : (أنتو ما عليكم) المهم في الساعة المحددة حضرنا جميعاً ونحن بكامل قيافتنا العسكرية وتجهيزاتنا وطلب منا بعد إجرائه التعداد والتأكد من حضور الجميع ركوب السيارات المعدة لهذا الغرض والتي كان عددها سبعة سيارات، تفاجأ الرائد (إسماعيل) عندما اعلن الملازم (رشيد احمد عصمان) رفضه المشاركة في تنفيذ هذه المهمة ما لم يفصح لنا المذكور عن طبيعة المهمة، عندها سحبنا الرائد (إسماعيل) الى جوار السيارات الواقفة وأخبرنا بأن المهمة ستنفذ هذه الليلة في مناطق زراعية تابعة لقضاء (بلد) بالاشتراك مع قوة من آمرية الانضباط العسكري ومديرية الأمن العامة هدفها إلقاء القبض على بعض الشقاة والخارجين على القانون والمتهمين بقضايا جنائية خطيرة منها قتلهم أحد القضاة وعدد من أفراد الشرطة وأصبحت السيطرة على الموقف خارج إمكانيات الشرطة المحلية في القضاء بالإضافة الى كون حزب البعث في بدايات تسلمه للسلطة في العراق ولم يكن قد وصل الى درجة كبيرة من القوة والسيطرة على زمام الأمور كما حصل في الفترات اللاحقة. تحركت السيارات التي كانت تنقلنا وعند وصولنا بالقرب من معسكر التاجي انضمت إلينا أربعة سيارات للانضباط العسكري وهي محملة بمجموعة من جنود الصنف المذكور، وصلنا قضاء (بلد) وكان في استقبالنا عدد من مسؤولي الحكومة والحزب يتقدمهم عقيد الشرطة (عبد محمد صالح) مدير شرطة محافظة بغداد وقائمقام القضاء والذين رحبوا بنا وأمطرونا بكلمات الإطراء والمديح (هله بالشباب شوفونا همتكم وشجاعتكم انتو جايين من الشمال أنتو أبطال ما يگدر على هذوله المجرمين غيركم) بعد أن انضمت إلينا قوة من الأمن العامة ومدير شرطة محافظة بغداد وعدد من أفراد شرطة بلد كأدلاء وكانت الساعة قد وصلت الى الواحدة بعد منتصف تلك الليلة. أصدر إلينا مدير شرطة بغداد أمر الحركة وتنفيذ المهمة بعد توضيح سياقات وأهداف المهمة والتي تنحصر في إلقاء القبض على جميع الذكور ابتداء من عمر الخامسة عشر المتواجدين في قريتي عشيرة البوحشمة دون استثناء ومصادرة الأسلحة والأعتدة التي يعثر عليها فيها وبأن المطلوبين للعدالة سيتم فرزهم من قبلهم عند إحضار المقبوض عليهم من قبلنا الى القضاء، تقع القريتين المذكورتين شرق القضاء وبمحاذاة نهر دجلة وكان الطريق ترابياً وموحلاً في بعض الأماكن وانتشار المزارع على طول الخط ، لذلك كانت حركة السيارات بطيئة وتتخللها توقفات بسبب غرز عجلاتها في المناطق الطينية التي تستوجب دفعها وسحبها وفاتني أن أذكر بأن التعليمات كانت تقضي بإطفاء أنوار السيارات أثناء المسير والاعتماد على ضوء القمر والذي كان بدراً في تلك الليلة. وصلنا الى مشارف القريتين مسترشدين بالأدلاء المصاحبين لنا بصعوبة بالغة وكانت الساعة تشير الى الثالثة صباحاً. أنيطت مهمة تفتيش القرية الكبيرة بقواتنا وكان الظلام يخيم على المنطقة ويكشف ضوء القمر والنجوم في السماء بعض ملامح القرية التي كانت تعيش في سكون يتقاطع مع صوت نباح الكلاب، من اجل تطويق القرية باشر الرائد (إسماعيل) بإصدار أوامره إلينا:-
ملازم عودة...طوق القرية من اليمين
ملازم حسين...طوق القرية من اليسار
ملازم محمد...وأنت تابع ملازم عودة من اليمين
ملازم رشيد...وأنت تابع ملازم حسين من اليسار
انتظرت أوامره بالنسبة لي إلا انه التزم الصمت مما جعلني استفسر منه سيدي لعد آني؟
أجابني على الفور: أنت ملازم محي الدين مع الضياء الأول وعند إكمال تطويق القرية يكون واجبك اقتحام القرية.
على الفور أدركت بأن المذكور يريد بي شراً والانتقام مني حيث كانت علاقتي به في الأيام الأخيرة ليست على ما يرام بسبب اهتمام آمر الفوج المقدم (شياع البراك) بي وكان ذلك يغيظه.
شياع البراك
مع الضياء الأول ووضوح معالم القرية أمرني الرائد (إسماعيل) المباشرة بتنفيذ مهمتي والتي كنت قبل ذلك قد وضحتها لأفراد قوتي بوجوب اقتحام القرية من خلال اسطح منازلها الطينية المترابطة بعضها مع البعض، بدلاً من اقتحامها من خلال أزقتها وما يشكله ذلك من صعوبة وخطورة على حياتنا، فور بدئنا الصعود الى أسطح المنازل بغية الانتشار عليها والسيطرة على المتواجدين فيها بشكل محكم لم نجابه أية مقاومة خلال تنفيذ المهمة إلا أننا لاحظنا هروب شاب وهو يمتطي صهوة حصانه الأبيض وبسرعة فائقة ويخرج من القرية من جهتها الغربية باتجاه مزارع الحنطة وبالرغم من إطلاق النار عليه من عدة مصادر إلا أنه تمكن من الهروب واستمر في مساره لحين اختفائه عن الأنظار بين الأحراش ومزارع الحنطة. بعد المناداة على المتواجدين في القرية وتحذيرهم والطلب منهم وجوب استسلامهم والخروج من مساكنهم رافعين الأيادي فوق رؤوسهم الى أزقة القرية، وفعلاً امتثل الجميع للأمر بعد مشاهدتهم العدد الكبير من الأفراد الشرطة فوق سطوح مساكنهم وفي أطراف القرية، أمرت أفراد القوة بترك سطوح المنازل باستثناء عدد قليل منهم والنزول بحذر ووضع الأوصاد في أيادي جميع من تنطبق عليهم التعليمات من الذكور ونقلهم الى السيارات المعدة لهذا الغرض (سيارات نقل الموقوفين) وبعدها أوعزت الى أفراد القوة القيام بمهمة تفتيش المساكن والبحث عن الأسلحة والأعتدة وأثناء قيامنا بذلك وجدنا امرأة مستلقية على ظهرها في غرفة من احدى مساكن القرية ويحيط بها جمع من النسوة، مظهرها بهذا الشكل خلق في نفسنا الريبة والشك من وضعها وتبدل شكي باليقين عند رفضها النهوض لغرض تفتيش ما تحت الفراش السميك الذي تستلقي عليه وإصرارها على رفض ذلك متوسلة وهي تبكي معللة ذلك بأنها قد انتهت من حالة الولادة قبل دقائق وانضمام باقي النسوة الموجودات معها في الرجاء ومحاولة ثنينا عن ذلك من خلال التأثير على إرادتنا وعواطفنا
أبوي انتو مو اسلام شبيكم؟ وين شهامتكم وين غيرتكم؟...المرة مريضة وما تگدر تگوم واحنا خواتكم.
لم تؤثر فينا هذه الكلمات وعندما أمرت عدد من أفراد الشرطة برفعها مع فراشها كانت المفاجئة وجود مشجب كامل للسلاح تحتها بأنواع مختلفة (كلاشنكوف، برنو، سيمينوف، رشاش برن، مسدسات، قنابل يدوية) وبعد الانتهاء من تنفيذ المهمة وتجميع القوة جميعها باشرنا العودة الى القضاء (بلد) ووصلناها في الساعة الحادية عشر قبل ظهر يوم (3 نسيان 1970) ومعنا عدد كبير من المقبوضين عليهم وكمية لا يستهان بها من الأسلحة والأعتدة، لدى وصولنا بناية القائمقامية خرج لاستقبالنا عدد كبير من مسؤولي الحكومة والحزب وفي مقدمتهم محافظ بغداد (الحاج خير الله طلفاح) ومدير شرطة محافظة بغداد العقيد (عبد محمد صالح) وقائمقام القضاء والذين باركوا لنا عملنا وتوجيه مختلف كلمات الإطراء والمديح.
الحاج خير الله طلفاح
بعد انتهاء إجراءات تسليم المقبوض عليهم وكان عدد من ضباط ومنتسبي شرطة القضاء يحومون حول السيارتين المقلتين لهم ويتعرفون على الأشخاص المطلوبين للعدالة من بينهم، كما تم تسليم جميع الأسلحة والأعتدة التي تم جمعها من جراء تفتيش القريتين. انتهت المهمة بنجاح ولابد لي أن اذكر هذه الملاحظات حولها...
اكتفت مديرية الشرطة العامة بتوجيه كتاب شكر وتقدير الى الضباط الذين شاركوا في المهمة.
صورة من كتاب الشكر الصادر من مديرية الشرطة العامة
علمنا بعد تنفيذ المهمة بأن الرائد (إسماعيل خضر محمد) كان منشغلاً طيلة الأيام التي سبقت التنفيذ بمهمة التحضير لها، وكان يقوم بزيارة سكان القريتين موضوعة البحث منتحلاً صفة موظف كبير في وزارة الزراعة وأنه جاء ليقف على أوضاعهم واحتياجاتهم من البذور والأسمدة والمستلزمات الزراعية، كرر زيارته لهم وسجل احتياجات الجميع من تلك المواد وأخيراً طلب منهم عدم مغادرة القريتين لليومين (2 و 3 ) من الشهر المذكور القادمين لأنه سوف يحضر ومعه احتياجاتهم وسوف يحرم منها من لم يكن متواجداً وقت التوزيع، وقد اختار توقيت تنفيذ المهمة في تلك الليلة حيث يكون القمر بدراً بغية عدم استعمال أضوية السيارات المشاركة في تنفيذ المهمة خوفاُ من كشفها من قبل المطلوبين.
اعتذر لإطالتي في الحديث عن جزء من سيرتي الوظيفية في بداياتها وفي سنتها الأولى وفيها محطات معبرة عن الوضع السياسي والاجتماعي العراقي في تلك المرحلة.
رجائي ودعائي من الله العلي القدير أن يمنح الصحة والسلامة للأحياء من الذين وردت أسمائهم في مقالتي هذه والرحمة والغفران للذين تركونا الى الدنيا الأبدية.
------------
1. سميت بهذا الاسم لوجود دبابة معطوبة ومقلوبة فيها للجيش العراقي
2.شياع البراك هو والد (احمد البراك) رئيس محكمة النظر في نزاعات الملكية سابقاً
3132 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع