أيام زمان الجزء -٣٤ - الأخْتام
الختم ككلمة مستقلة، تعني شيئين وكيانين متفردين تماماً عن بعضهما البعض، وبنفس الوقت هما كيانين مرتبطين معاً؛ فالأول هو قالب الختم الذي يمتلك أصل الختم في قاعدته؛ بينما الآخر هو انطباعه فالبعض يقول عنه: بأنه ختم الختم، وهو دون شك الانطباع الذي يتركه قالب الختم.
وجدت الأختام في المتحف البريطاني أو غيره، نجدها مؤرخة ومنظمة أهي عربية، عثمانية، فارسية أم هندية، ونوع خط النقش ينتمي إلى أي مدرسة وحقبة ولمن كان يستعمل.
تعد الأختام نقلة حضارية، ومظهرا من مظاهر تطور الفن، تساعد في رصد الأحداث التاريخية وتشخيصها، وتعطي فكرة عن الأقوام التي استعملتها، والختم هو رمز ينقش على قطعة من المعدن، أو الطين، أو الزجاج، أو الصلصال، أو الأحجار الكريمة، أو غيرها، ويعبر النقش عن الملكية، ولكل ختم علامة تميزه من غيره، ويختلف باختلاف الأشخاص والمناطق.
يمكن تتبع استخدام الأختام وصولاً إلى الحضارات الأولى في العالم، وقد تم العثور عليها من بلاد ما بين النهرين إلى وادي السند، كانت هذه الأختام الأولى مصنوعة من الطين الذي تم نقشه بالأسطوانات أو الحلقات. في البداية كانوا من اختصاص الملوك والأساقفة والمحاكم الملكية، لاستخدامهم في إصدار المراسيم الرسمية وتوثيق الوثائق، أصبح استخدام أختام الشمع تدريجياً أكثر ديمقراطية، وانتشر من الأرستقراطيين إلى الأديرة والنقابات (على سبيل المثال، سيوقع الجزارون اتفاقيات مع ختم يحمل صورة خنزير أو بقرة)، كان لكل فرد ختمه الخاص، وفي الوقت الذي كان فيه الكثير من الأميين، تم استخدامها بدلاً من التوقيع لتوثيق الاتفاقيات والعقود، والوصايا والرسائل التي تمنح حقوقًا أو امتيازات، أي فعل يتم تنفيذه باسم شخص ما.
عبْر العصور اخترع الإنسان الختم في الألْف الخامس ق.م، وصنعه من الحجر اللين والطين على أشكال منها المثلث، والهرم، والفأس، والريشة، والمخروط، والمنجل، أو على شكل حيوان. وفي طرف الختم ثقب لتعليقه حلية أو تميمة بالمعصم أو العنق لحماية نفسه، وقد يكون الختم على شكل قرْص، أو أسطوانيا، سطوحه مستوية أو محدبة، ومنقوشة أو عليها روسم.
نقش الإنسان في العصر الحجري الحديث (الألف الخامس-الألف الثالث ق.م.) على الختم، صورا تدل على الصيد، والرعي، وأشكالا هندسية ونباتية وحيوانية للتقرب من الآلهة، مع بدء نشوء الممالك (2900-2350 ق.م.) كانت الأختام رديئة الصنع، ثم اتجه صانعوها نحو تحسينها، ونقشوا الموضوعات الهامة عندهم، في أشكال متناظرة، وإلى جانبها اسم صاحب الختم أو رسمه وهو يتعبد، في العصر الأكادي (2350-2150 ق.م.) أصبح رسم الختم باسم صاحبه تقليدا، واحتل موضوع تصوير الأرباب على الختم منذ العام 2150 ق.م. أهمية خاصة ولاسيما "رب الطقس". كما صور البابليون رمز الرب بدلا من صورته، وكذلك فعل الآشوريون بمحافظتهم على تقاليد صناعة الأختام.
استخدم الآراميون "الختم القرصي"، وكتبوا على الحجر والجلد وورق البـرْدي. واستعمل الكلدانيون (612-539 ق.م.) الختم الأسطواني والختم القرصي المزين سطحه برمز الرب، وأمامه متعبد، مع النقوش الهندسية.
قلد الفرس الأخمينيون (550-330 ق.م.) أختام حضارة بلاد الشام، والرافدين، وزينوا أختامهم بنقوش مستمدة من زخارف نقلت من أختام الآشوريين والبابليين ونقوشها، وكانت أختامهم حاملة لصورة الملك، وهو يصطاد، أو يقارع الأعداء، أو صور الحيوانات الأليفة. وبانقضاء العصر الأخميني، استغنى الناس عن الختم الأسطواني، واتخذوا بدلا منه القرصي، انفردتْ حضارة مصر القديمة في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد بصنع الختم على شكل "الجعل"؛ وهو خنفس الزبل، تمثيلا للمعتقد المصري، الخلق من العدم. واستخدم الختم حلية، وتميمة، وكتبت على سطحه مأثورات من كتاب "الأموات"، واستخدم ختم الخنفس بتأثير من حضارة مصر القديمة وحضارة الكنعانيين،
استخدمت الممالك اليونانية الختم للأعمال الاقتصادية، ولتحديد الملكية، كأختام جزيرة كريت، وقد حرم قانون صولون الحكيم على صانع الأختام إنتاج أكثر من نسخة واحدة منعا للتزوير، وأصبح الختم والخاتم صنوين في بلاد الإغريق، لأنه استعمل حلية للأصبع وختما للوثائق.
أما في الصين، والهند، فقد صنع الختم من الحجر، والزجاج والصلصال، وجعل على شكل زر، أو مستطيل له مقبض هرمي فيه ثقب لدخول الخيط وتعليقه، وانفردت الهند بنقش الختم على عدة وجوه، ووجدت أختام أسطوانية في الصين عليها صور التنين، والحية ذات الرأسين، التي أصبحت شعارا للختم الصيني، مع ذكر اسم صاحبه بجانبه. أخذ العرب الختم بشكله التقليدي، ونفروا من التصوير عليه، واتخذ الرسول (ص) خاتما من ورق (فضة)، وكان نقشه: "محمد رسول الله"، وتناقله كل من أبي بكر. وعمر وعثمان، وكان نقش خاتم الخليفة أبي بكر الصديق،
"نعْم القادر الله"، ونقش الخليفة عمر بن الخطاب: "كفى بالموت واعظا"، ونقش الخليفة عثمان بن عفان: "آمنْت بالذي خلق فسوى"، ونقش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "الله الـملك الحق". في العهد الأموي أمر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بتتريب الرسائل، وتطيينها على سطحها، وختمها.
أنشأ العباسيون ديوان الخاتم، الذي يتبع ديوان الرسائل، وأصبحت الأختام المزينة بالأحجار الكريمة المنقوشة حلية للملوك والأمراء، وكانت تختم بها أوامر العفو والأمان، وقد كانت الخواتم تنقش بأنواع الخطوط الجميلة، وتحْمل آيات من القرآن الكريم أو الحكم والألغاز، واستخدم الختم على المعاملات، والمعاهدات، والمراسيم، والرسائل، وحجج العقارات والأملاك، والمراسلات، والإجازات بأنواعها، ولفائف الحسب والنسب، واستخدمت الأختام الزجاجية لمراقبة صحة المكاييل والأوزان وغيرها، واهتم العلماء بدراسة أحكام الأختام وقانونيتها، ولغتها، وشأنها في الحكم الشرعي، تأثر الغرب بالحضارة العربية إبان الحروب الصليبية، ومن اتصاله بحضارة الأندلس، حتى أن الملك النورماندي روجر الثاني ملك صقلية، اتخذ خاتما عربيا عليه نقْش حكْمة عربية.
حافظت الأختام على أهميتها في الدولتين الزنكية والأيوبية، وفي العصر المملوكي اخترعت طرائق لختْم الرسائل بالشمع الأحمر، وظهرت الطرة، والطغرة أي الطغراء على المراسيم (الفرْمانات). فالطرة تحمل ألقاب السلطان، وأوامره، ومرسومه. أما الطغرة فتحمل اسم السلطان، وأسماء آبائه، ولقبه. وللطرة، والطغرة كاتب خاص. أصبح ختم الطغرة المنقوش على النقود العثمانية، والأختام العثمانية، شعارا للدولة، وقلدتها في ذلك الدول الفارسية والمغولية، والأفغانية. كلمة الطغرة تركية تدل على توقيع السلطان، وتأشيره، وقد نقلت من المراسيم المملوكية، ويختلف تركيبها الشكلي، وقيست مهارة الخطاطين وبراعتهم في النقش بنوع الأختام التي يصنعونها.
استخدم الفراعنة في صناعة الأختام الإزميل، والقلم الحاد المعدني، والمبرد، والمثقب اليدوي، وفي الحضارة العربية كان نقش الأختام وكتابتها يتم من يسار الختم إلى يمينه؛ لتظهر طباعته صحيحة على المادة المستعملة، وقد يكون للختم حامل أو ممسك يدور الختم على محوره، وقد يكون الختم هرميا ثلاثي الوجوه، أو ثنائي الوجه. وربما كان مربعا، أو مستطيلا، أو دائريا أو بيضويا أو بأشكال مختلفة، واستخدمت الصور، والكتابات والزخارف الهندسية في نقْش الأختام القديمة.
تميزت الأختام العربية من غيرها باستخدام الكتابة والنقوش الزخرفية والنباتية، وببعدها عن التصوير والتجسيم. وتنوعت الأقلام في كتابتها؛ فاستخدم الخط الكوفي القديم، والخط الفارسي الانسيابي لسهولة حفره. ونقشت الأختام الدقيقة بالخط الغباري، في حين نقشت الأختام الكبيرة كأختام المحاكم والإجازات الصوفية والعلمية والمراسيم (الفرمانات) بخط الطغراء والخط الديواني الجلي، والثلث وغيرها، وكان الخطاط هو صانع الختم وكاتبه وناقشه. في أواخر العهد العثماني بدأ استخدام الأكاسيد والأحماض الكيمياوية في صناعة الأختام، فكان سطح الختم يغطى باللك، والشمع، وينقش عليه النقش المطلوب، ثم يغطس في الحمض عدة مرات لتعميق الحفْر.
بدأت الأختام المعدنية والحجرية تختفي في العصر الحديث، وحلت محلها الأختام المطاطية، وانتشرت المكْننة الآلية في صناعتها. وانفصلت صناعة الأختام عن مهنة الخطاط الذي اكتفى بكتابة النص وزخرفته. وظهر الختم المعدني النافر المستعمل في ختم الوثائق الهامة كجوازات السفر والشهادات العلمية وغيرها.
وكثير من الدول استغنت عن الأختام تماما لتحل محلها الرموز والأرقام السرية باستعمال الأشرطة الممغنطة، وأشعة الليزر وغيرها، وأصبح الوضع القانوني للختم واستعمالاته غير ملزم للقاضي إلا للاستئناس بصحة الوثيقة مع التوقيع والتأشير، واقتصر استعمال الختم على الوثائق الرسمية، وصار للأختام هواة يجمعونها، ويعرضونها في مجموعات أثرية وتقام لها مزادات عالمية.
اختفى استخدام أختام الشمع إلى حد كبير إلى جانب شعبية المراسلات المكتوبة بخط اليد، فإن هذه الممارسة بالتأكيد لم تختف تمامًا بين أولئك الذين ما زالوا يمارسون فن كتابة الرسائل، إنها تضيف عنصرًا من التميز إلى المراسلة، باستخدام هذه الصفة الرسمية، كانت الأختام توضع أحيانًا مباشرة على المستند ولكن غالبًا ما يتم إرفاقها بالأسلوب المعلق، يتم وضع الختم على سلك أو شريط أو شريط من المخطوطات، ويتم تعليقه بشكل فضفاض بعد خيوطه من خلال ثقب أو فتحة في الحافة السفلية للمستند.
أما شمع الختم مادة شمعية تتصلب وتتحجر بسرعة بعد ذوبانها، وتُستخدم لإحكام إغلاق القوارير والقناني، ولإعطاء السرية والأمان للأوراق والرسائل، وكذلك قد تُستخدم لغرض لصق وإصلاح الأسلاك مثلًا والمواد الأخرى؛ بحيث تتميز مادته بقوة يصعب اختراقها وفتحها إلا بجهد كبير، وفي القرن السادس عشر استُخدم شمع الختم لإغلاق مظاريف الرسائل التي كان يتبادلها الملوك والأمراء، وقبل ذلك، كان الرومان يستخدمون القار لهذا الغرض. هناك تركيبات مختلفة لشمع الختم، وقد حدث التحول الكبير بعد انفتاح التجارة الأوروبية مع الهند. وخلال العصور الوسطى كان يُصنع من شمع النحل، وخلاصة الراتنج الصفراء المائلة للون الأخضر من شجرة الأركس الأوروبية. وفي البداية كان الشمع عديم اللون، ولاحقًا تمت صباغته باللونين الأحمر أو القرمزي. ومنذ القرن السادس عشر دخلت مكونات جديدة، وهي: الشيلاك، وزيت التربينتين، والراتنج، والطباشير، أو الجبس، ومواد التلوين غالبًا ما تكون إما القرمزي، أو الأحمر، وليس بالضرورة أن يكون شمع العسل موجودًا. وفي عام
1866 بدأ استخدام ألوان متعددة لشمع الختم، واليوم يتوفر بألوان صناعية مختلفة.
يأتي شمع الختم إما على شكل أعواد، أو فتائل، أو حبيبات، يتم تسخينها ووضعها على المكان المراد، فمثلًا يتم تسخين الحبيبات في ملعقة ولصقها في المكان. واستُخدمت في العصر الحديث أنماط مختلفة من شمع الختم في الطرود البريدية، والذي يتميز بمرونته.
أما المكان المختوم أو المغلق بالشمع الأحمر، فيعني أن المكان تحت تصرف الشرطة أو السلطة القضائية، أي يُمنع منعًا باتًا التصرف فيه، أو العبث بمحتوياته من قبل صاحبه أو أي جهة أخرى لحين البت قضائيًا في أمره، وأحيانًا قد لا يتم التشميع بالشمع الأحمر، حيث يتوفر شمع الختم بألوان مختلفة، لكن يُقال إن المكان مختوم بالشمع الأحمر لما يوحيه هذا اللون من رهبة وقوة.
معاني / تميمة: خرزة وما يشبهها تُعلَّق في العنق ظنًّا أنها تدفع العينَ أو تقي من الأرواح الشِّرِّيرة.
طُغْرَاءُ الرِّسَالَةِ: الطُّرَّةُ، تكتبُ في أَعلى الكُتُب والرسائل غالبًا، تتضمَّنُ نعوتَ الحاكم وألْقابَهُ، وأصلها طورغاي وهي كلمةٌ تَتَرِيَّةٌ استعملها الرومُ والفُرْسُ ثم أَخَذهَا العرَبُ عنهم.
مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/mochtaratt/55809-2022-09-30-07-37-51.html
1123 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع