أيام زمان الجزء السادس عشر - العرضحالچي كاتب العرائض

      

أيام زمان الجزء السادس عشر - العرضحالچي كاتب العرائض

    

مهنة قديمة وموجودة من زمن السومريين والبابليين، حيث كان يجلس الكاهن في باب المعبد وينقش بالآسفين على الأجر، طلبات المواطنين للإله والملوك، وتطورت مع تطور الإنسان وحاجاته، واتخذت أشكالا وصيغاً مختلفة ومتعددة وزاد عدد ممتهنيها.

   

مهنة تراثية شعبية معروفة منذ قديم الزمان حينما كانت منتشرة مع قلة الوعي وبساطة الناس، إلا أنها مازالت متواجدة في وقتنا هذا، لتمشيه أمور ومعاملات الناس الذين هم بحاجة إليها، لقضاء مهماتهم وطلباتهم، لكون صاحب تلك المهنة يمتلك من الوسائل والطرق والخبرة التي يحتاجها الجميع في الوقت الحاضر.
كاتب العرائض أو العرضحالچي، هو من يقوم بالكتابة (شكاوى، طلب تدخل من السلطات، طلب عمل من شركات وغيرها) نيابة عن الغير. هذا الغير الذي هو إما أميا أو جاهلا، لتلك اللغة المطلوب الكتابة بها، أو ليست له الخبرة والدراية الكافيتين لكتابة ما يريده، بالطريقة الإدارية أو القانونية المطلوبة منه. مهنة كاتب العرائض منتشرة بشكل أكبر في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث، حيث تنتشر الأمية والبيروقراطية والتعقيدات الإدارية. هذه المهنة مقننة في بعض الدول من طرف الإدارة وبالتالي تخضع ممارستها لشروط.
وكلمة عرضحالچي تركية متكونة من ثلاثة مقاطع، هي (عرض) أي عرض الشكوى، و(حال) هي حالة المشتكي، أما "جي" فهي كلمة تركية تستخدم لنسبة شخص إلى مهنة بما يعني قيامه بها، وبالتالي يصبح معنى كلمة عرضحالچي هو: الرجل المختص بالشكاوى أو بكتابتها، أي كتابة حالة المشتكي على الورق من قبل (كاتب العرائض) الذي يحرر الشكوى، ليأخذها صاحبها ويقدمها للمسؤول ليحكم بها، أما الكتابة التي حررها فتسمى (العريضة) التي تعرض الشكوى أو الطلب، وكانت هذه المهنة تسمى بعدة تسميات منها العرضچي او الارضحالچي كما يسميها البعض، حيث أن أصل هذه الألفاظ تركي.
تعتبر مهنة العرضحالچي مهنة حرة، تقدم خدمات كتابية على أنواعها من قبل كاتب الطلبات، الذي يكتبها بخط يده، وهي علاقة وسطى بين مقدم العريضة، وبين المسؤول الذي يستقبل العريضة، ليقترح لها الحلول الجذرية الملائمة، وأجراء الخطوات اللازمة لصاحب الشكوى، مثل تحرير الشكاوى والعقود بأنواعها والمراسلات وغيرها، مقابل أجر مادي يتقاضاه من صاحب الطلب.
وكتاب العرائض نوعان الأول غير متعلمين ولغتهم ضعيفة وركيكة، يستخدمون كليشات معينة يحفظونها عن ظهر قلب لكنهم يتمتعون بعلاقات وطيدة مع الموظفين، ويعرفون طرق إنهاء أية معاملة بسرعة. والثاني مُلماً بالأنظمة والقوانين والأصول الشرعية والمراجعات. أغلب هؤلاء من المتقاعدين ومن الدائرة نفسها التي يجلس أمام بابها.

          

وتعتبر مهنة حرة تقدم خدمات كتابية على أشكال وأنواع ولغات مختلفة مثل كتابة المراسلات وقراءتها وترجمتها، فالخبرة الواسعة التي يحصل عليها الكاتب من تلك المهنة ترجع لحكمته في النصح والإرشاد والفتاوى ويبدى رأيه في المواقف والمشاكل والنزاعات، ولكن بصورة ودية وليست قانونية، فجلوسهم أمام المحاكم ومعايشتهم للقضايا تسمح لهم ببناء خلفية معرفية طويلة.

              

يستقبل كاتب العرائض مراجعيه على قارعة الطريق، يتواجد عادةً في مكانات قريبة من الدوائر الحكومية لتسهيل مهمة أصحاب الطلبات، فمنهم من يتخذ رصيف الشارع القريب من البناية مكاناً له وهو يجلس في إنصات وتمعن فوق كرسي خشبي قديم عفا عليه الزمن، وأمامه طاولة صغيرة وعدته من الورق والأقلام والدمغة (ستمبة)، إضافة الى مظلته الشمسية التي تحميه من حرارة الشمس وقطرات المطر، أما أكشاك كتاب العرائض حاليا تعلق على واجه الكشك لوحة ضخمة تحمل اسم صاحبه، وداخل الكشك لوحات نقشت أنواع العرائض التي يقوم بكتابها وفيها بعض الكراسي لجلوس الزبائن. ومنهم من يمتلك كابينة أو محلاً متكاملاً تتوفر فيه كل ملتزمات الجلوس والكهرباء والتدفئة والتبريد وغيرها، ولم يعد الشكل القديم "العرضحالچي" قائما حيث كان يرتدي سترة قاط كبيرة بعض الشي، وكم ردن إضافي ويضع فوق راسه السدارة، بالإضافة إلى ومنديل يمسح عرقة.
يسمع كلام صاحب العريضة، يدقق الأمور ويحفظ كل ما يسمعه من المقابل، ليدونه على الورق باللغة العربية الفصحى، دون تدخل صاحب العريضة أو إبداء أي رأى، أشبه ما تكون بالوظيفة الغير رسمية.
كاتب العرائض بسبب استقباله صاحب العريضة في أول خطوات المعاملة، يجب عليه أن يمتلك الحكمة، والتبصر في النصح والإرشاد، ويبدى رأيه في المواقف والمشاكل والنزاعات، وبصورة أولية تحمل صفة الودية وليست القانونية الإجبارية ،وبدرايتهم بالقوانين وكيفية كتابة الطلبات المختلفة اذا كانت متعلقة بالمحاكم أو دوائر التجنيد أو دوائر الطابو، وعند كتاب العرائض تباع الطوابع المالية اللازمة وبها يوثق العريضة، وأثناء حكم الدولة العثمانية، استخدموا طوابع ذات طبعة إضافية واستخدم خلال الاحتلال أثناء البريطانيون طوابع مختلفة من الطوابع التركية ، تعرف الآن تقليديا بما يسمى إصدار "بلاد ما بين النهرين" والقصد جميع الرسوم التي تستلزمها أية عريضة أو أي سند تدفع بواسطة طوابع تلصق على تلك الورقة أو ذلك السند إلا إذا كان صراحة بخلاف ذلك في هذا القانون أو في التعليمات التي تصدرها وزارة المالية.

      

وصدرت الطابع المالية عام 1923 المعروف بمناظر العراق 1923, من فئة أل ثلاث روبيات، ثم الطوابع الملكية العراقية للملك غازي (1921 - 1939)، ملك العراق (1933 - 1939)، وهذا تغيرت الطوابع مع تغير النظام في العراق.

        

والعرضحالچي، يجب أن يكون شخصية معروفة لأبناء البلدة، التي يعمل بها حتى يكون له متسع من الثقة نظرا لأنهم يعتمدون عليه في مكاتباتهم الرسمية، ولا بد له أن يكون ابن البلدة التي يعمل بها ومعروف لدى الناس بالثقة وكتمان سرهم. وكم من كاتب عرائض ساوى بين بعض المتخاصمين واستطاع أن يحل مشكلاتهم حلاً مرضياً للطرفين دون أن تصل الى الرسميات أي (مُصّلح)بمعنى الكلمة ، ولمن يرغب العمل كاتب عرائض ، عليه الحصول على إجازة ممارسة المهنة، ويشترط لمنح الإجازة أن تتوفر شروط معينة فمن يطلبها، أن يكون عراقياً و أن يكون قد أتم الثامنة عشرة من العمر و لا يكون محكوماً بجناية أو جنحة مخلة بالشرف، أما التحصيل الدراسي فلا يشترط في طالب الإجازة أن يكون حاصلاً على شهادة دراسية سوى الابتدائية، أو يجيد القراءة والكتابة بعد أن يجتاز اختباراً اعد لهذا الغرض. وتتم مفاتحة الدائرة التي ينوي كاتب العرائض ممارسة مهنته أمامها، لغرض بيان حاجتها اليه أم أنها مكتفية بالعدد، ويصدر قاضي البداءة الأول قراراً بالموافقة على الطلب أو رفضه وفي حال صدور القرار بالموافقة يمنح إجازة، ويسجل في سجل خاص لدى المحكمة ويمنح هوية خاصة بكتاب العرائض، وتشعر الدائرة التي سوف يمارس مهنته أمامها بذلك، مشيراً بان مدة الإجازة تكون عاماً واحداً. وفي حال انتقال كاتب العرائض من مكان الى أخر تسقط إجازته وعليه طلب الإجازة من المحكمة التي انتقل أليها لممارسة مهنته أمامها. يجب أن يمتلك كاتب العرائض خطاً جميلاً واضحاً في كتابته للطلب إضافة الى أن يكون ذو خبرة واسعة في اللغة والتعبير المفهوم فعليه أن يجيدها إجادة تامة لكي يفهمها الذي قُدمت إليه، لأن الخط الواضح واللغة المفهومة تزيد الحق وضوحاً، لذلك يلجأ أصحاب الطلبات الى كتّاب العرائض لكونهم متمرسين في مهنتهم ومعرفتهم بالأمور الرسمية والقانونية وأصحاب خبره وهم الذين يقومون بالكتابة نيابة عن أصحابها الشرعيين، فهم يبدأون الطلب بمقدمة وينهونه بخاتمة تفتح أسارير المسؤول.
تعد مهنة كاتب العرائض من أقدم المهن التـي بدأت في بغداد، ثم انتشرت في باقي المحافظات، حيث كانت تمارس أمام المحاكم ثم انتشرت أمام باقي الدوائر الرسمية وشبه الرسمية، ولم تكن هذه المهنة مقننة ومنظمة بتشريع لغاية الثامن عشر من أيلول عام 1971، حيث صدر قانون كتاب العرائض رقم 35 والذي ينظم كيفية منح الإجازة والشروط الواجب توفرها، فمن يمنح هذه الإجازة والجهة المختصة بمنحها والجزاء المترتب على مخالفة أحكام هذا القانون.
كان الكاتب العرائض في بداية أمره يستعمل قلم القوبيا هذا القلم الذي كان سيداً مهيمناً، فالمواثيق والعقود والمحاضر لم تكن تكتب إلا به، ولا يوجد موظف في عموم البلاد خلا جيبه من واحد بلبيسة معدنية، ولا يوجد تلميذ إلا وبلل طرف إبهامه ولونه به، ولا يوجد آخر إلا وهناك أثر منه على لسانه أو شفته. ولا تؤثر فيه الممحاة. وطابعه الرسمي أضفي عليه شيئاً من المهابة، ويستعمل كتاب العرائض بكثرة قلم القوبيا بنقل بصمة الإبهام الى الورق بعد تبليلها باللعاب وتلوينها/ وللتذكير فأن الحسابات في ستينيات القرن الماضي وما قبلها كانت تجرى يدوياً وتكتب بقلم القوبيا، وبعد المطابقة للحسابات والكتابة يمرر عليها قطعة من القطن المبتل بالماء فعندها يظهر حبر بنفسجي لا يمكن التلاعب بها. ثم استعمل قلم الحبر وأخيرا بدأ يكتب بقلم جاف، إلى أن تطور وضعه وأصبح يكتب على الآلة الكاتبة بخفة وسرعة ومهارة ثم أصبح الحاسب الآلي وسيلة الكاتب في عمله.
في منتهى البساطة يكون محله بالأسواق العمومية، وتكون كتابته ذات جمالية وعبارات عفوية مترجمة من اللهجات المحلية إلى اللغة العربية الفصيحة، ومقابل ذلك يتلقى من الناس كمشة من الفلوس ويرميها في جيبه دون معرفة كمها ويقول " خلف الله عليك، ويجيب عن استفسارات الناس بنزاهة دون خلفية ولا طمع ويؤسس جوابه على اطلاعا ته القانونية المتواضعة وتجاربه التي مر بها زبائنه السابقون، ولهذا يكون في الغالب صائبا، مما يجعل زبائنه يعطونه سمعة طيبة يملك بها الشهرة ويتهافت على مكتبه الآخرون الجدد. وفى أواخر الأربعينات أضيف إلى مهامه كتابة الرسائل. وأصبح كاتب العرائض ينافس المحامي خصوصا مَن لهم خبرة طويلة في الجلوس أمام المحاكم والدوائر وأصبح أسلوبهم في كتابة العرائض قانونياً، ويضم في فحواه كل ما يمكن أن يكسب الدعوى للمدعي. اغلب كُتّاب العرائض يتفقون مع موظفين أو حتى مع المحامين لإرسال المراجعين مقابل نسبة معينة، والبعض من المشتكين لا يعرف كيف يُقيم دعوى ويرسل المدعي من الموظف الى كاتب العرائض الذي يكتب له الدعوى مقابل مبلغ بسيط لا تكلف شيئاً. والقانون لا يمنع من قيام الموظف بالكتابة الى المراجع إذا كان يجهل القراءة والكتابة.
ومن طرائف كتاب العرائض، زار شخص غريب أحد كتاب العرائض وطلب منه أن يتوسط لدى مدير مؤسسة لأجل تشغيله في احدى الوظائف الشاغرة.. فرد عليه العرضحالچي أن متصرف اللواء صديقه وابن مدرسته وسيأخذ منه توصية الى المدير، ووعده أن يعود بعد يومين ليجد التوصية، وفي اليوم المعين اعطى كاتب العرائض للرجل الغريب مظروفا وقال له انه من عند المتصرف الى المدير يوصيه بل ويأمره في أن يعينك بأي وظيفة تطلبها، فرح الغريب واخذ المكتوب بعد أن أعطاه مبلغاً من المال وذهب الى المدير. وبعد أيام وبدلاً من أن يرجع الغريب الى كاتب العرائض ليشكره حضر اليه بعض أفراد الشرطة وطلبوا منه الحضور إلى المتصرفية، وقف أمام المتصرف واعترف بحيلته قائلا:
عمي والله أني هلكان، جاني ها الخير وكال لي تعرف المتصرف، فكتله هذا صديقي، جنه أني وأياه سوه بالمدرسة، وسويتهه، وهسه عاد مروتك.. شتفصل أني البس، ضحك المتصرف وعفى عنه بعد أن منحه قليلاً من المال، ودعاه يرجع لمزاولة مهنة.
المصادر:
ملاحق جريدة المدى
مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/mochtaratt/50153-2021-07-31-20-46-01.html

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

710 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع