"ابدع العراقيون في كتابة التأريخ ومنه خرج المؤرخون وعبد العزيز الدوري أحد رموزه الكبار"
تدور عجلة الزمن مولدةً على محيطها ما لا نهاية له من الأحداث والمواقف والشخصيات والفوائد. وجرت العادة في بني الإنسان أن يكون لهم اهتمام بما جرى، كيف جرى، وما تفاصيله، ومن أشخاصه. اهتمام بالتاريخ وإن كان على سبيل الحكاية والقصص لا أكثر، وهذا أمرٌ يحسنه كثيرون، قديماً كان التاريخ فناً من الفنون أو فرعاً من فروع الأدب، وهناك من يرى أن المؤرخ اليوناني هيرودوت هو أول المؤرخين الذين بذلوا عناية في الوصول إلى الحقائق وتدوينها من خلال قيامه بالأسفار وجمع الأخبار، فكان مجهوده أول خطوة في سبيل البحث التاريخي، إلا اننا نرى أن سكان الشرق الأدنى منذ العصر السومري اهتموا بتدوين التاريخ واستمروا فيه وما زالوا، فالتاريخ هو تسجيل ووصف وتحليل الأحداث التي جرت في الماضي، على أسس علمية محايدة، للوصول إلى حقائق وقواعد تساعد على فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، المؤرخين القدامى تناولوا المصادر التاريخية من زاويتين؛ إحداهما أخلاقية كما فعل السبكي، والأخرى عقلية احترافية كما فعل ابن خلدون وإن لم يسر على دربها في تاريخه، كتب <ابن خلدون> في مقدمته، "التاريخ فنٌّ من الفنون «تتداوله الأمم والأجيال، وتُشدّ إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق"
المؤرخ هو العالم الذي يدرس ويدون عن التاريخ، ويعتبر مرجعًا في هذا العلم، يهتم المؤرخون بالسرد المنهجي المتتالي والبحث في الأحداث الماضية وعلاقتها بالجنس البشري، ومع تطور علم التاريخ ظهرت المشكلة الحقيقة ولم تحظى الوثيقة بالقداسة الخاصة بها وكان لابد من ايجاد طريقة أخرى ومصادر غير تقليدية لكتابة تاريخ حقيقى للناس.
يشير الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه "نشأة علم التأريخ عند العرب"، كانت المرحلة الأولى في نشأة التاريخ محلية بالدرجة الأولى ومحدودة تقريبا في نطاقها ففي المدينة مهد الإسلام انصب الاهتمام على السيرة وعصر الخلفاء الراشدين وفي الكوفة والبصرة اتجه الاهتمام إلى الفعاليات القبلية والفتوحات، وأول مدرسة للتاريخ هي مدرسة المدينة، مدرسة المغازي وترتبط في نشأتها ووجهتها بجهود اثنين من الفقهاء المحدثين هما عروة بن الزبير وتلميذه الزهري. ثم وهب بن منبه في بداية القصص التاريخي ورغم أن دراسة وهب حسب المؤلف تخرج بالكتاب عن نطاق بحث علم التاريخ عند العرب، إلا أنه يشير الى أن وضعه من قبل بعض الباحثين في هذا النطاق وتأكيد البعض أهميته في السيرة دفعاه إلى بحثه ليبين بوضوح أنه لم يعد من أهل المغازي وأن حقله وأثره هو في نطاق القصص والإسرائيليات، انه روى قطعا من العهد القديم منقولة بصورة حسنة ومقتبسة في تفسير الطبري وقطعا من المزامير وتدل بعض أخباره على معرفة بالتلمود، فضلا عن أن هناك اشارات على معرفة وهب بالعبرية وربما بالسريانية، ويبدو، وفق المؤلف، أنه أخذ من الإنجيل والكتب المسيحية معلومات عن ميلاد المسيح وحياته.
شهدت بغداد في القرن الثالث الهجري مرحلة تطور هامة وحاسمة في تأريخ الثقافة العربية الاسلامية وظهور المدارس الفكرية المختلفة، ويتمثل بالازدهار العلمي في تعدد المؤلفات التي كتبت في شتى فروع العلم، وكان لا بد ان ينال التأريخ نصيبه من هذا الازدهار، حيث ساعدت الظروف التأريخية والتطورات الثقافية على نمو المعرفة التأريخية وتعدد انماطها، بالاظافة الى حركة الترجمة واستبحار الحضارة في العصر العباسي الاول وما بعده قد فتح المؤرخين السعة اللازمة في الافق والتوازن في النظرة التأريخية لمختلف الحضارات وتسلسلها.
نبغ في هذا القرن الثالث والرابع عدد من المؤرخين لتدوين التأريخ استنادا الى الكم الهائل من المادة التأريخية التي خلفها طبقة الاخباريين وكان من ابرزهم: عوانة بن الحكم الكوفي وعلي بن محمد المدائني ومجمد بن سعد البصري ومصعب بن عبد الله وعمر النمير البصري وهشام بن محمد السائب والهيثم بن عدي وهشام بن اسحاق وخليفة بن خياط البصري وابن قتيبة والبلاذري البغدادي وابن الاثير وابن رزيق وابو حنيفة الدينوري واليعقوبي والطبري البغدادي والمطلبي وابو عبيدة البصري وابو عمر صالح واحمد بن حارث والمزرباني ونفطويه والصابي ومسكويه والمسعودي والصولي ...
على الرغم من ان علم التأريخ قد شهد ركودا نسبيا في العراق العثماني 1534-1917، الا انه ظهر في هذا العهد مؤرخون وعدد من المؤلفات التأريخية، اصبحت مصدرا مهما لتدوين تأريخ العراق، منها "كلش حنف" لنظمي زادة، و"درر الزوراء" للمؤرخ رسول الكركوكلي، و"مطلع السعود" لمؤلفه عثمان بن سند الوائلي البصري، وسليمان فائق بك ، وياسين الخطيب وحسين بن عبد الله الغرابي، واحمد الغرابي، كما ان الكتاب الذي الفه الدكتور عماد عبد السلام " التاريخ والمؤرخون العراقيون في العهد العثماني"، سيكون دليلاً للباحث في تاريخ العراق الحديث، كتاب مرجعي مفيد جدا فيه فوائد نفيسة لا غنى للباحث عنها يهديه إلى المئات من الكتب والرسائل التاريخيّة، ممّا وضعه مؤرّخو العراق في هذا العصر
يبلغ عدد المؤرّخين الذين شملتهم الدراسة نحو 383 مؤرّخاً منهم 67 مؤرّخاً غير معروفي الاسم، كتبوا نحواً من 927 كتاباً في التاريخ والتراجم والسِير، غالبيتها المطلقة مكتوبة بالعربيّة. أمّا ما كُتب بغيرها فإنّه يبلغ 129 كتاباً، 20 منها بلغات أوروبيّة، وعلى النحو الآتي: الفرنسيّة 15، الإيطاليّة 5، اللاتينيّة 4، الإنكليزيّة 1"والبقية باللغات المحليّة في العراق وجواره، على النحو التالي: السريانيّة 24، الكرديّة 32، الفارسيّة 4، ولا يتجاوز عدد الكتب المؤلّفة بالتركيّة، وهي لغة الدولة والسلطان 45 كتاباً، وهذا يؤكّد حقيقة أنّ أغلب ما كُتب في مجالات التاريخ المختلفة كان بالعربيّة، على رغم الهيمنة الأجنبيّة التي استغرقت بضعة قرون.
لقد كان للمؤرخين العراقيين في القرن العشرين تأثير عميق في الحركة الثقافية ونمو الوعي التأريخي، ويمكن تقسيم المؤرخين العراقيين إلى هواة ومحترفين، اتخذ الأوائل كتابة التاريخ هواية، وأصدروا العديد من الكتب المختلفة الهمية، أما المحترفون فقد تلقوا تكوينا أكاديميا معمقا، وهم يعملون في مختلف أقسام التاريخ بالجامعات العراقية او الاقسام العلمية والمؤسسات ذات العلاقة، نذكر منهم:
جواد علي وجعفر خصباك وحسين أمين وحسين قاسم العزيز وزكي صالح وصالح احمد العلي وطه باقر وفاضل حسين وفيصل السامر وعباس العزاوي وكمال مظهر احمد وعبدالعزيز الدوري وعبدالرزاق الحسني وعلاء الدين السجادي ومجيد خدوري ومحمد امين زكي ومحمد توفيق حسين ومحمد الهاشمي ومحمود علي الداؤود ومصطفى جواد ومليحة رحمة الله ومير بصري ونبيلة عبد المنعم داود وناجي معروف وهاشم صالح التكريتي ومصطفى النجاروالياس الكرملي وهاشم يحيى الملاح وواجدة الاطرقجي وياسين عبد الكريم وفاروق عمر فوزي وعلي النشمي ومصطفى الواعظ واحمد سوسة ونجدت فتحي صفوت وعبد الله سلوم السامرائي والخاقاني وحسن العلوي ومحمد مظفر الأدهمي وخلدون ناجي معروف وابراهيم الدروبي ومسارع الراوي وعبد الستار عز الدين الراوي ومجيد القيسي وعلي الوردي وفاروق صالح العمر وعلي عطية وعبد المنعم القيسي وجمال الدين الكيلاني وزهير احمد القيسي وماريا تريزا وصادق الحلو والطريحي وجعفر عباس وطاهر البكاء وسالم الالوسي وعماد عبد السلام وحميد المطبعي وبشار عواد ومحمد جميل روزبياني وعباس البغدادي وعبد الحميد عبادة وكوركيس عواد وعماد الدين خليل واحمد عزت الاعظمي ولويس بنجو وهرمز ابونا وناجي معروف وابراهيم خليل العلاف وسيار الجميل وسامي مكي وامد سعيد احمد وبشير يوسف فرنسيس وجمال بابان واكرم المشهداني وصبحي ناظم توفيق...
كما هو معروف تـعرض التأريخ العربي الإسلامي للتشويه بشكل متعمد بمكائد وتدابير خبيثة .فاﻷمم ﻻتنهض بغير تأريخ وﻻتقوم بغير ذاكرة والتاريخ العربي الإسلامي له مكانة كبيرة في حياة ونفوس المسلمين أكبر من كل الأمم وتشويهه وطمس حقائقه و تمزيقه باﻷكاذيب يعد اﻷسوأ واﻷفظع عليهم علي نفوس المسلمين لأنه مبعث إيمانهم و فخرهم وعزتهم، ويؤكّد الدكتور عبد العزيز الدوري بأن "العروبة والإسلام، كانا مصدر الحركة والحيوية في تاريخ المجتمعات العربيّة الاسلامية" جميعها، لنلق الضوء عن هذا المؤرخ العربي الأبرز وواحدًا من أهم القوميين العرب الذين آمنوا بالدور التاريخي الموكل للأمة العربية كجزء لا يتجزأ من حيث إن تاريخ كل جزء فيها يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقية أجزائها، الذي ناد وظل يؤكد "على ضرورة وضع إطار نظري للرؤية القومية للتاريخ وبناء هذه الرؤية انطلاقا من تقدم الأبحاث في حقل المعرفة التاريخية المعاصرة، وكان يشارك البعض من دعاة التمسك بالقومية العربية على ضرورة خلق مدرسة تاريخية عربية تحافظ على التصور القومي الوحدوي من جهة، وتكرس حوارا معرفيا أصيلا مع المنظومة المعرفية الغربية".
ولد الدكتور عبد العزيز عبد الكريم طه الدوري في قضاء (الدور) التابع لمحافظة صلاح الدين عام 1919، والذي منه أخذ لقبه وقد كان قرية صغيرة وفيها تعلم في مدارس (الكتاب)، حيث حفظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى بغداد ودرس فيها وأكمل دراسته الثانوية، ثم حصل على بعثة علمية في المملكة المتحدة، فسافر إلى لندن ونال شهادة البكالوريوس من جامعتها 1940، واستمر في دراسته هناك وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1942، حيث تتلمذ على برنارد لويس وهاملتون غب، عندما بدأ عبد العزيز الدوري مسيرته الثقافية في دراسة التاريخ العربي على طريق تكوينه الثقافي كمؤرخ متميز، كان البحث التاريخي في أيامه منصباً على التاريخ السياسي. لكن الاستاذ الدوري اتجه نحو جوانب أخرى لم تكن كثيرة التداول. وقد وصف مرحلة الدراسة في جامعات الغرب بقوله:
«رغم الاهتمام الكبير بالتاريخ آنذاك، كان التاريخ السياسي هو الأصل. وكنت أميل إلى الاقتصاد، فكتبت <<سالتي في التاريخ الاقتصادي>>، وكانت أطروحة الدكتوراه بعنوان (تاريخ العراق الاقتصادي للقرن الرابع الهجري)، بعد انتهاء دراسته في لندن عمل مدرساً للتاريخ الإسلامي في دار المعلمين العالية (كلية التربية لاحقاً) في بغداد، وبقي فيها حتى تمت ترقيته إلى مرتبة أستاذ، وأصبح رئيسا لقسم التاريخ في جامعة بغداد فعميدا لكلية الآداب والعلوم بين عامي 1949و 1958، ورئيساً لجامعة بغداد بين عامي 1962 و1966، ورئيسا للمجلس الأعلى للجامعات العراقية بين عامي 1967 و 1968 م، وعمل أستاذا زائرا في جامعة لندن بين عامي 1955 و 1956، وأستاذاً زائرا في الجامعة الأميركية في بيروت عامي 1959 و 1960، ورئيساً لجمعية الكتاب والمؤلفين العراقيين بين عامي 1961 و 1968 م، وعضواً للمجمع العلمي العراقي، وعضو مراسل في مجمع اللغة العربية في القاهرة، عضو مراسل في مجمع اللغة العربية في دمشق، عضو شرف في مجمع اللغة العربية في عمان، عضو في مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي، واستقر أستاذا للتاريخ الاسلامي في الجامعة الأردنية في عمان نهاية عام 1968، لظروف سياسية، إذ قال في حوار مع قناة الجزيرة عام 2007: "ظروف عامة دفعتني إلى ترك العراق والمجيء إلى الأردن، هي في الحقيقة ظروف سياسيّة لا أكثر ولا أقل"، وكان الراحل في حنين دائم إلى العراق، ويتمنى زيارته وهو القائل حينما سئل عن اشواقه الى الى بغداد (والله أشتاق طبعا أشتاق لدجلة، أشتاق للمحلة التي عشت فيها، أشتاق لبعض المساجد الجميلة فيها، بغداد يعني وضواحيها تكون وحدة، فطبيعي أشتاق إلى شيء آخر الذي الناس ما تفكر به، ان أنام على سطح الدار بالليل بدل ما أنام داخل الغرفة مع التبييت وهواء بغداد بالليل هواء يشفي العليل). رحل المؤرخ العراقي القومي الشهير، العلاّمة عبد العزيز الدوري في عمان / الأردن بتاريخ 19/11/2010م،
عن عمر 91 عاما، وقد شيع جثمانه إلى مقبرة سحاب، شرقي عمان.
يعد الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري ذو الذاكرة الوقادة والوافرة حتى نهاية عمره، من أهم الباحثين في دراسة نشأة وتطوّر الأمّة العربيّة، ومن أبرز المؤرخين العرب، وقد أطلق عليه لقب (شيخ المؤرخين العرب) للجهود الكبيرة التي قدمها في مجال التاريخ والمؤلفات المهمة التي رفد بها المكتبة العربية ولمنهجه العلمي الذي أثار إعجاب الآخرين، صاحب منهج اجتماعي واقتصادي في رؤيته لدراسة التاريخ تعتمد علي الرجوع إلي المصادر الأصلية وتناولها بالبحث النقدي الذي لا يسقط أيا من الجوانب الاجتماعية في تحليله الموضوعي بعيداً عن الانحيازات العرقية والطائفية، له قدرات جذابة مما جعل المؤرخ العربي والباحث في شؤون التأريخ يصغي اليه وينجذب الى مقولاته وآرائه وكتاباته.
يؤيد الاستاذ عبدالعزيز الدوري أسد رستم في دعوته للروح العلمية في الكتابة التاريخية، مشدداً على ضرورة الاهتمام بصحة المعلومات ودقتها، كي تكون المادة التاريخية خالية من التهويلات قربية من «الروح العلمية». وهو يطالب المؤرخين بكتابة تاريخ علمي غير وصفي، يكتفي بسرد الحوادث، بل دعا إلى تأريخ يذكر المقدمات ويوضح النتائج، وإذا كان الدوري يعود إلى الكتابة التاريخ مسائلاً وناقداً، ومطالباً المؤرخين بكتابة علمية، فإنه لم يفته التنوية بفضل المسعودي بين المؤرخين، بسبب «الشمول الذي يعطيه لدور التاريخ» ويسأل عن مدى التحقق من كتابة تاريخ العرب لتاريخهم، وعن جدوى الدعوة المعاصرة التي سادت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، في ظل وقت كانت الأمة في حال من التجزئة والضعف. قائلاً: <ففي وضع الأزمة الحالي لا تبدو مثلاً جدوى دراسة التاريخ لفهم عناصر الفرقة والانقسام بل ربما كان الأجدى رصد قوى التجزئة الحالية والانطلاق منها، أي البدء بالحاضر والتدرج إلى الماضي>.
له دور كبير في تنقية التأريخ، فقد فضح دور العجم في تشويه التاريخ العربي الاسلامي، وكان يكره الشعوبية ويحذر منها، ويقول عن الحركة الشعوبية إنها "تعد من أبرز مظاهر الحياة العامة في العصر العباسي بدأت من العصر الأموي، وقامت بدور مهم. لكنها كانت تتستر وراء المساواة الاسلامية، فلما أزيح الستار بإشراك الفرس في الحكم ظهرت بشكلها المفضوح المعادي لكل ما هوعربي وإسلامي". وعد الدوري توسع انتشار ظاهرة الموالي الناتجة عن الفتوحات العربية من العوامل التي أدت إلي ظهور فكرة القومية العربية في مواجهة الإسلام ولا سيما بعد تفكك الدولة الأموية، وهو الذي كان يؤكد على ضرورة وضع اطار نظري للرؤية القومية للتأريخ وبناء هذه الرؤية انطلاقا من تقدم الابحاث في حقل المعرفة التأريخية المعاصرة.
حول التطور التاريخي للأمة العربية، يرى الاستاذ الدكتور الدوري أنّ ثمّة عناصر أو عوامل أسهمت في هذا التطور منها :
الحركة الاسلاميّة. خروج العرب بالفتوح وانتشارهم. تكوين الثقافة العربيّة. تكوين الثقافة العربيّة. مشكلة السلطة والصّراع السياسيّ والفكريّ. ظهور مفهوم الأمّة العربيّة في الإطار الثقافيّ نتيجةً لتشابك العناصر المذكورة، ولهذا فهو أول من حاول صياغة مدرسة عربية لدراسة التاريخ لها خصائصها التي تميزها بعيداً عن الدراسات التي يقوم بها المستشرقون والغربيون والتي تفتقد إلي كثير من الموضوعية.
تبنى الاستاذ الدكتور عبد العزيزالدوري دعوة جريئة عن «العروبة الحضارية أو العروبة الثقافية». فاستنبط مقولات مهمة جداً حول مفهوم العروبة الثقافية ودورها في جمع العرب على أسس توحيدية يلعب فيها الدين، والثقافة، والتراث، كعناصر توحيد لا تفرقة. وقد وصف مفهوم العروبة الجامعة الحضارية بقوله: <لم تكن فترة صدر الإسلام فترة بداوة، بل كانت فترة استقرار وتطور حضري وتكوين ثقافي، وضعت أثناءها أصول الدراسات العربية والإسلامية، ورسخت قاعدة التعريب الإداري والثقافي. وجاءت الفترة العباسية لتستقر فيها أصول الثقافة العربية الإسلامية، وقد شارك في تكوينها العرب والمستعربون. فهي ثقافة عربية اللغة وهي تراث العربية. لقد احتوى الإسلام الشعوب والقبائل بفكرة الأمة تربطها العقيدة، وبدأ التعريب مقترناً بانتشار الإسلام جل هذه الفترة. ظل الإسلام والعروبة متلازمين بالنسبة للعرب، وبقيا أساس الهوية العربية. وكان ذلك إثر تطور حضاري شامل، وإثر صراع بين المبادئ الإسلامية وبين المفاهيم القبلية مما أدى إلى تجاوز مفاهيم النسب والأصل وإلى ان تتخذ العروبة مفهوماً يستند إلى اللغة والثقافة. وكان من نتائج التطور الفكري والحضري المتشابك العناصر أن برزت فكرة الأمة العربية وتأكدت اللغة العربية رابطة أساسية للعرب>.
أشرف على العديد من الرسائل العلمية.
الكتب التي قام بتأليفها:
استطاع الاستاذ الدوري في مرحلة مبكرة جدًّا، وتحديدًا في عام 1945، أن يؤلف كتابًا عنوانه "مقدّمة في تاريخ صدر الإسلام"، “ وهي رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي جمع فيها رؤيته للعوامل المختلفة التي أسهمت في تطور التاريخ الإسلامي، والتي يحددها بعوامل عقدية إيمانية وعوامل قبلية عصبية وعوامل اقتصادية.
كما ان له مؤلفات عديدة طبع الكثير منها طبعات كثيرة، ومن ضمنها :
العصر العباسي الأول ( بغداد 1943)، دراسات في العصور العباسية المتأخرة ( بغداد ، 1945)، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام (بغداد ، 1950)، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (بغداد ، 1948)، النظم الإسلامية (بغداد ، 1950)، دراسات في علم التاريخ عند العرب ، (بيروت ، 1960)، الجذور التاريخية للقومية العربية ، (بيروت ، 1960)، تفسير التاريخ مع آخرين ، (بغداد)، التكوين التاريخي للأمة العربية : دراسة في الهوية والوعي (بيروت ، 1984)، الجذور التاريخية للشعوبية ، ط1 ، ( بيروت ، 1962) وط2 (بيروت ، 1980)، ناصر الدين الأسد بين التراث والمعاصرة ، ( بيروت ، 2002)، نشأة علم التاريخ عند العرب ( طبعة جديدة ، 2005).
كما نشر له أكثر من ثلاثين بحثا في مجلات علمية متخصصة، أو ضمن كتب ذات موضوعات مختارة، وذلك باللغتين العربية والانجليزية، كما كلف من منظمة التربية والعلوم والثقافة "اليونيسكو"، بتحرير مشروع كتاب عام يتناول "تاريخ الأمة العربية".
كما أن له إسهامات فاعلة في كتابة التاريخ الموسوعي العالمي، ومن ذلك انه كتب مواد عديدة في موسوعات عالمية مثلا (دائرة المعارف الإسلامية) منها مواد (بغداد)، (الأنبار)، (أمير)، (ديوان)، (عامل)، وغيرها، ومما حققه كتاب أخبار الدولة العباسية (أخبار العباس وولده) لمؤلف مجهول من القرن الثالث الهجري، والقسم الثالث من كتاب أنساب الأشراف (العباس وولده) للبلاذري. وله أكثر من ثلاثين بحثا في موضوعات تاريخية مختلفة، وللدكتور الدوري كم كبير من المقالات والدراسات والبحوث المنشورة في المجلات ليس من السهولة حصرها.
أشرف على العديد من الرسائل العلمية.
الجوائز التي حصل عليها:
دكتوراه فخرية من جامعة هالة الألمانية، عام 1962م، جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية، عام 1984م، جائزة المجمع العلمي العراقي، وسام التربية الممتاز، الأردن، الجائزة التقديرية مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إسطنبول عام 1988م، جائزة المنظمة العربية والتربية والثقافة والعلوم، للثقافة العربية، عام 2000م، وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، الأردن عام 2002م.
استمر الدكتور عبد العزيزالدوري (وزميله ببغداد صالح العلي) على تواصل وثيق بالباحثين والجامعيين من المستشرقين والمعنيين بدراسات الإسلام والعروبة والشرق الأوسط. لقد تحررا من دراسات المستشرقين ومناهجهم، لكنهما لم يقطعا مع الكشوفات والجديد من الأفكار والمناهج. ولطالما قصدهما دارسون أوروبيون وأميركيون ليفيدوا من هذا المجال الشاسع، وهذا التخصص الرحب الذي أراداه وطوراه.
قام الدكتور إحسان عباس بجمع وتحرير البحوث التي ألقيت في الندوة التي اقامتها مؤسسة شومان عام 1999تكريماً للاستاذ الدكتور الدوري، ثم قامت المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر عام 2000 بنشرها تحت عنوان: "عبد العزيز الدوري- إنسانًا ومؤرّخًا ومفكّرًا".
يشكر مركز دراسات الوحدة العربية الذي عمد في السنوات الأخيرة إلى إصدار مقالات الأستاذ الدكتور الدوري في ثلاثة مجلدات، كما أصدر كتبه في سلسلة من بضعة عشر جزءا، صارت متوافرة في الأسواق، وترجم عدد من كتبه؛ وبخاصة في التاريخ الاقتصادي العربي إلى الإنجليزية والألمانية. وترجم مركز دراسات الوحدة كتابه عن تكون الأمة العربية إلى الإنجليزية أيضا.
كتب زميله وصديقه القديم المؤرخ الراحل صالح احمد العلي عن الدكتور الدوري في سجاياه الاصليه وعمله، وعده واحدا من ابرز من انجبه العراق في القرن العشرين اذ اشتهر بدفء علاقاته وطيب صداقته وحسن استقباله وكرم ضيافته.. كما كان انسانا نشيطا ودؤوبا يتميز بدقته وامانته وخصاله العلمية الرائعة. كان انسانا له مشاعره المرهفة وله قوة في معتقده وتفقده للاخرين.. ومن حسن سجاياه محبة كل معارفه وطلبته له. كما انه احب وطنه العراق حبا جما، ولم يمض اي يوم من حياته ان لم يذكره بدجلة والفرات ومدينته بغداد.
قال عنه المؤرّخ البريطانيّ المتخصّص بتاريخ الشّرق الأوسط، برنارد لويس: "إنّه (أي الدّوري)، أصبح حجّةً في موضوعه، بل هو نفسه قد غدا وثيقةً تاريخيّة."
عارض الأستاذ الدكتور الدوري بشدة فكرة تقسيم العراق التي بدأت تلوح منذ الغزو والاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، وقال في هذا السياق "ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة جديدة هي تقسيم العراق، ولم نسمع أحداً من العراقيين يدعوإليها، إنما جاءت الدعوة بناء علي قرار، قالوا إنه غير ملزم، من الكونجرس الأمريكي أصدره ليحل به مشاكل العراق. يدعوهذا القرار إلي تقسيم العراق إلي كيانات ثلاثة استناداً إلي التعدد الطائفي والعنصري، مما قوبل برفض شديد عند جميع فئات العراقيين في الداخل والخارج . إن العراق من ناحية جغرافية يشكل وحدة طبيعية متكاملة بين البحر والسهول والجبال، وبحكم هذا الموقع الجغرافي، وطبيعة أراضيه، تميز العراق عبر التاريخ بميزات اجتماعية أسبغت عليه صفة التعددية في المذاهب والديانات والاتجاهات الفكرية، والمجموعات البشرية . وكان أهل العراق يقيمون دولة واحدة علي أراضيه في آن واحد، ولم يفكر أهله ولا الغزاة بتقسيمه أوبإنكار وحدته".
غاب الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري الجامع المبدع بين الاخلاص لمبادئه الوطنية والعربية والمخلص لقواعد المنهج العلمي في كتابة التأريخ، ولفقدانه فقدت مدرسة اعادة كتاب التاريخ العربي واحدًا من أهم روادها الذين قدموا حياة زاخرة بالدراسات النقدية للتاريخ العربي والتي ألقت ضوءاً جديداً علي تاريخ الأمة العربية، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
634 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع