الحياة .... حكايات -الحاج خير الله طلفاح
محي الدين محمد يونس
ينتابني الاستغراب من ندرة الحديث والكتابة والتطرق وتسليط الضوء على شخصية الحاج خير الله طلفاح خال رئيس النظام العراقي السابق (صدام حسين) وزوج ابنته (ساجدة) في الفترة التي أعقبت سقوط النظام العراقي في عام 2003 بالرغم من كونه كان الشخصية الأكثر تداولاً وصفاته الغريبة والمستهجنة على كل لسان حيث كان يصول ويجول أينما يشاء بعد 17 تموز 1968 بلا وازع أو مانع مستغلاً صلة القرابة بينه وبين نائب الرئيس العراقي (صدام حسين) بالإضافة الى سلطة أقاربه الآخرين والعشيرة والتي جعلته يتجاوز على اجهزة الحزب والدولة مستغلاً ذلك في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية المادية ومطامحه المعنوية.
برر لي أحد الاخوان ندرة الحديث عن هذه الشخصية وذكر مثالبها في الفترة بعد سقوط النظام السابق معللاً ذلك بسبب ظهور العشرات بل المئات من الأشخاص في مواقع المسؤولية السياسية والإدارية ومن الذين يتجاوزون الحاج خير الله طلفاح في كل أنماط الفساد والاستغلال غير المشروع.
نعود بعد ذكر هذه المقدمة لنخوض في سيرة هذا الرجل والمناسبة التي قادتنا الى اللقاء به والتعرف عليه عن قرب.
الحاج خير الله طلفاح خال الرئيس العراقي السابق صدام حسين
ولد خير الله طلفاح مسلط في قرية العوجة في تكريت عام 1913 وتخرج من المدرسة الريفية وأصبح معلماً في عام 1934 ثم تحول الى الكلية العسكرية وتخرج منها في عام 1939 ضابطاً في صنف الخيالة، اتهم بالاشتراك في حركة رشيد عالي الانقلابية في عام 1941 حيث سجن لمدة خمسة سنوات وطرد من الجيش وبعد انقلاب 14 تموز 1958 عين بوظيفة مدير تربية محافظة بغداد إلا أنه لم يستمر في هذه الوظيفة إلا لأشهر قليلة، وبعد انقلاب 1968 تم تعينه محافظاً لبغداد ثم بعد ذلك انيطت به مهمة رئاسة مجلس الخدمة العامة.
كان رجلاً طويل القامة بديناً ذو ملامح قاسية ومتعصباً قومياً ومذهبياً وعشائرياً , يعود الفضل لهذا الرجل في رعاية وصقل شخصية الرئيس العراقي (صدام حسين) لكونه عاش عنده في داره مدة خمسة عشر سنة بالإضافة إلى قيامه بتزويجه من ابنته الكبرى ساجدة واستغلاله لعلاقاته الشخصية في تمهيد الطريق له وتشجيعه في دخول المعترك السياسي والعلاقة التاريخية التي مهد لها بين ابن أخته صدام وأحمد حسن البكر , ليصل للسلطة عن طريقه ومن ثم إيصاله الى رئاسة العراق.
والآن لنعود إلى المناسبة التي جمعتنا بهذا الرجل عن قرب, يقول المثل الكردي ((العصفور يفكر قبل كل شيء ببناء عشه)) ، يعتبر ولا زال تأمين السكن للإنسان وأفراد عائلته من مستلزمات الحياة الضرورية ودليل عنوان الاستقرار والثبات والاطمئنان للمستقبل .
حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التي مر ويمر بها العراق جعلت من مشكلة السكن حالة يعاني منها أغلب المواطنين ذوي الدخول الضعيفة وخاصة صغار موظفي الدولة الذين يثقل كاهلهم استقطاع جزء كبير من رواتبهم لدفع إيجار الدور التي يسكنونها.
كنا ضباط ومنتسبي قوى الأمن الداخلي في محافظة اربيل نامل من الحكومة أن تقوم بتوزيع قطع أراضي سكنية علينا لنتمكن من بناء دور لائقة لنا ولعوائلنا , وكانت المفاجئة المخيبة للآمال في عام 1976 هو صدور قرار مجلس قيادة الثورة والذي كان يقضي بإيقاف ومنع توزيع الأراضي السكنية على الموظفين وبكافة شرائحهم والاتجاه الى التركيز على البناء العمودي من خلال بناء العمارات السكنية وتوزيع شققها على المواطنين , أشار إلينا أحد الاصدقاء باستغلال وجود الحاج خير الله طلفاح في مدينة أربيل وبالذات في مصيف صلاح الدين ومراجعته لكي يتدخل في حل مشكلتنا والتي تعني مشكلة شريحة واسعة من المواطنين.
فعلاً عقدنا العزم وذهبنا نحن مجموعة من الضباط الى مصيف صلاح الدين واستفسرنا عن مكان إقامة (الحاج خير الله) وبعد الاهتداء إليه، شاهدنا جمعاً من المواطنين وهم في مراجعة له تبين لنا بأنهم من سكنة ناحية صلاح الدين ، وهم بصدد طرح مشكلتهم على (الحاج خير الله) في حصولهم على قطعة أرض سكنية ضمن حدود الناحية المذكورة لكونهم أهل هذه الناحية أباً عن جد وبينوا له بوجود العشرات من قطع الأراضي الشاغرة ضمن حدود الناحية, حينها أمر (الحاج خير الله ) أحد مرافقيه باستدعاء مدير الناحية ومدير البلدية مستصحبين معهم خارطة الناحية مع مقياس الطول (الفيته)، ولما حضرا استصحبهماوجمهرة المواطنين ونحن معهم الى داخل الناحية، وأخذ يقوم بتقسيم قطع الأراضي الكبيرة الشاغرة وتوزيعها على المواطنين المذكورين كل حسب ما يذكره عن عدد أفراد عائلته.
وخلال عملية التوزيع اعترض مدير الناحية وهو يوضح للحاج خير الله: ((حجي هذه الأراضي ليست ملك البلدية وإنما ملك دائرتي المصايف والسياحة))
فنهره قائلاً: ((يعني قابل مال غير حكومة)).
انتهت مراسيم توزيع قطع الأراضي على المواطنين بالشكر والدعاء (للحاج) بالصحة وبطول العمر، وكان مدير الناحية ومدير البلدية فيها يتهامسان فيما بينهما باللغة الكردية ويستغربان من تصرف المذكور وتدخله في هكذا أمور، ولكنني طلبت منهما عدم ارباك نفسيهما ومراجعة محافظ أربيل وطرح الموضوع عليه،اعتبرا نصيحتي لهما خير وسيلة لمعالجة الحالة.
وبعد الانتهاء من مشكلة المذكورين جاء دورنا وطرحنا عليه مشكلتنا حيث طلب منا مواجهته بعد يومين عند محافظ أربيل (محمد علي أمين) في الساعة الثانية عشر ظهراً
وبعد يومين وفي الوقت المحدد حضر الحاج خير الله عند محافظ أربيل (محمد علي أمين) وكنا ننتظره عند سكرتير المحافظ فاستصحبنا معه وعرض قضيتنا للمحافظ موضحاً عدالة مطلبنا وضرورة مساندتنا في الحصول على قطعة أرض سكنية – عندها أجابه المحافظ بأننا مقيدين بقرار مجلس قيادة الثورة الأخير والذي يمنع توزيع الأراضي والاهتمام بمشاريع البناء العمودي عندها عقب الحاج خير الله غاضباً : (( هذوله مو خوش ناس جماعة العمارات والشقق السكنية هدفهم نشر الفساد والرذيلة في المجتمع)) وخاطبنا قائلاً بأنه سيعالج الموضوع عند عودته إلى بغداد مع (صدام حسين).
أما فيما يخص مراجعة مديري ناحية وبلدية مصيف صلاح الدين للمحافظ فقد علمنا بأنه طلب منهما عدم إثارة الموضوع طيلة وجود (الحاج خير الله) في أربيل واعتباره منتهياً بعد سفره.
الحاج خير الله طلفاح
وأثناء وجود (الحاج خير الله) في ضيافة المحافظ تطرق الى العديد من المسائل والمواضيع ومنها حديثه قائلاً: ((اتصل بي صدام (كان يذكر اسم صدام مجرداً من اي صفة) وأخبرني بأنه يريد اللقاء بي وحضرت في مكتبه في القصر الجمهوري وأخبرني قائلاً: ((خالو راح نكلفك بشغله محد يطلع بيها رأس غيرك)) , ولما استفسرت عن هذه الشغلة, أجاب هو ان تكون رئيس محكمة خاصة بالذين يتهمون بارتكاب جرائم الاعتداء جنسياً على محارمهم.
عندها أجبته: (( ابني منين لكيتلي هالشغله؟)) وأردف قائلاً وبعد أيام وفي أول جلسة من جلسات هذه المحكمة , وكانت القضية المطروحة امامي هي اعتداء رجل على والدته في مدينة .... والحديث لازال للحاج خير الله , عند ادخال المتهم ومشاهدتي له انتابتني موجة من فقدان الشعور والعصبية , وعند احضار المتهم أمامي فقدت أعصابي وأصبحت في حالة هيستيرية ونهضت من مكاني محاولاً الهجوم عليه والفتك به, إلا أنه أخذ يتوسل راجياً مني السماح له توضيح الأمر وخاطبته قائلاً: ((شتوضح هاي سوايتك اللي ما يرضى عنها لا الله سبحانه وتعالى ولا البشر ))
أجابني المتهم ببرود أعصاب: (( هاي أمي تحب الجنس وإذا ما أمارس وياها هذا العمل تروح بره تمارس ))
فما كان مني إلا وأن أصرخ في وجهه: ((اطلع بره ابن ..... إعدام يا حقير))
في عام 1980 تم إلغاء القرار السابق القاضي ببناء العمارات السكنية وتوزيع الشقق على الموظفين وتم المباشرة بتوزيع الأراضي فحصلنا على قطعة أرض سكنية وبنيناها وبذلك تخلصنا من أزمة السكن ومشاكله.
ما دمنا نتحدث عن شخصية (الحاج خير الله طلفاح) فإنني أرى من المستحسن أن اختم مقالي هذا بحدث متميز يتعلق بحالة العداء والخصومة بين عشيرتي الهركية والزرارية في محافظة أربيل والتي استمرت مدة تقارب السبع سنوات وما نجم عنها من حالات قتل واغتيال بين أفراد العشيرتين المذكورتين , وبالرغم من كون ولاء رئيسي العشيرتين كل من (أسعد آغا الهركي) و(سعيد آغا الزراري) ومن خلالهما أفراد عشيرتهما للدولة العراقية, إلا أن حالة النزاع استمرت بينهما واتخذت أطراف من مسؤولي الدولة والحزب مناصرة فئة على حساب فئة أخرى دون اتخاذ أية خطوات من شأنها انهاء هذا النزاع ولحين تدخل (الحاج خير الله طلفاح) من خلال (الشيخ بهرام الشيخ محمد هارون) والذي كان على علاقة وطيدة بالمذكور، ويعود الفضل إليه في انهاء هذا النزاع.
في يمين صورة كاتب المقال وبجانبه الشيخ ميزر نوري الجربا والشيخ سعيد آغا الزراري
كنت وكيلاً لمدير شرطة محافظة أربيل في عام 1989 عندما اتصل بي المحافظ (يحيى محمد رشيد الجاف) طالباً مني الحضور الى مبنى المحافظة مستصحباً معي (سعيد آغا الزراري) والذي كان موقوفاً بتهمة مقتل رجل من عشيرة الهركية.
أوعزت إلى مسؤولي مكان اعتقال المذكور لتهيئته لغرض استصحابه معي الى مبنى المحافظة، وفعلاً تم ذلك حيث دخلنا الى غرفة معاون المحافظ التي تقع في الطابق الأول لعدم تمكن (الحاج خير الله طلفاح) من الصعود الى الطابق الثاني والذي تقع فيه غرفة المحافظ بسبب بتر ساق المذكور من جراء مرض السكري وجلوسه على كرسي متحرك يدفعها أحد مرافقيه.
توجهنا الى الغرفة المشار إليها فوجدناها تعج بمسؤولي المحافظة وفي مقدمتهم المحافظ إضافة (للحاج خير الله وأسعد آغا الهركي) الذي كان قد سبقنا في الحضور، جلست بجانب (الحاج خير الله طلفاح) وبجانبي (سعيد آغا الزراري) بعد تهيئة المقاعد لنا.
المرحوم الشيخ أسعد آغا جهانكَير الهركي
استهل الحاج خير الله الحديث ذاكراً بانه مبعوث من قبل (صدام حسين) لغرض إنهاء المشاكل والخصام بين العشيرتين وأن مقتل أي هركي أو زراري هو خسارة للحزب والثورة ويجب حل المشاكل بينهما بالحوار والطرق الودية وأنه اتى عازماً على عقد الصلح بينهما وبعد انهائه تقديم هذه المقدمة من الكلام طلب من طرفي النزاع التحدث وكان المتحدث الأول هو (أسعد آغا الهركي) والذي استهل الحديث بكون عشيرته قد وقع عليها اعتداء من خلال قتل العديد من أفرادها من قبل عشيرة الزرارية وسلب أراضيهم وقراهم واستمر في ذكر تفاصيل ذلك بالأرقام والأسماء للأشخاص والاماكن عقبه (سعيد آغا الزراري) بالرد عليه موضحاً بان عشيرته مسالمة ولم تقم طيلة هذه الفترة إلا بالدفاع عن نفسها من اعتداءات أفراد عشيرة الهركية الذين تجاوزوا كل الحدود واستولوا على أراضي وقرى عشيرته وقتلوا العديد من أفرادها واسترسل في توضيح الأسماء والأعداد كما فعل زميله المتحدث الأول, واستمر السجال بين الطرفين على نفس النمط من الحديث والذي ازعج (الحاج خير الله) وانهى صبره وتحمله من كلاميهما فرفع العصا التي كان يحملها (العوجية) عالياً وهو يقول: (( هسه گولولي تتصالحون لو لا , والله اللي ما يتصالح هسه..........)).
فما كان من (سعيد آغا الزراري)إلا وأن يصرخ قائلاً: (( عمي آني اتصالح )) وجاوبه (أسعد آغا الهركي) : ((عمي آني هم أتصالح)) لقد كان لتهديد الحاج خير الله الوقع الكبير في نفسيهما وأجبرهما على التصالح بالرغم من علمهما الأكيد عدم استطاعته تنفيذ تهديده لهما فعلياً, ولكن تهديده كانت له معاني مجازية أخرى.
الشيخ بهرام الشيخ محمد
طلب الحاج خير الله من طرفي النزاع العناق وتقبيل أحدهما للأخر، وبذلك انتهت حالة الخصام والعداء بين العشيرتين المذكورتين وانتقل جميع من شارك في مراسيم هذا الصلح إلى دار الشيخ (بهرام) في قرية (ملا أومر) حيث أعدت مأدبة غداء أسطورية احتوت على جميع ما طابت له الأنفس من الطعام والشراب إلا ما حرم الله، وتمت خلاله تقديم الهدايا للحاج خير الله طلفاح، وكانت تتكون من بنادق برنو وكلاشينكوف ومسدسات من النوعيات الفاخرة والنادرة بالإضافة إلى أنواع الماعز والخراف والفرش والعسل الجبلي الخالص.
انتهت حكايتي عن هذا الرجل وأرجو من العلي القدير أن أكون قد وفقت في سردها بتجرد وبشفافية مطلقة وأن يجنبني قصد الاساءة والسوء ومنه أرجو الرحمة والعفو.
915 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع