"نخيل التمر أرث عراقي يجب المحافضة عليه لأنه رمز مهم من رموز العراق"
تستيقظ الشارقة وساحل بحيرة خالد مع الصباح ، ويفتر ثغرها عن خضرة جميلة تتباهى بها في خفر وحياء ومساحات واسعة مطرزة بأشجار النخيل وبمقاهيها الجميلة حتى تقبل أشعة الشمس أديمها ونحن على موعد مع بعض الأصدقاء لنلتقي في هذا الجو الجميل من السنة للجلوس ولتطرب أعيننا تحت النخل وبدأنا نتأمل هيبتها وهي شامخة كأنها شجرة الحياة وعاد بنا الحنين الى نخيل البصرة وشط العرب ونخيل السماوة والناصرية وسوق الشيوخ وكربلاء والحلة وبغداد الاعظمية والكاظمية والزوية وسوحل دجلة والفرات، وبدأنا نتحدث عن النخلة وثمرها لما تمثلهما من أسطورة الحياة وأكسيرها وهكذا نكتب مقالتنا عسى أن تكون ذا فائدة لنعيد مجد مكانتهما التي كانتا الجامع والوصيف لعراقنا مع كل ثرواته وأناسه.
التمـر مصدر تغذية للبدن وطاقة له، ومستخلصاته تضفي السكينة والهدوء على النفوس وتزودهم بالبهجة والفرح ان توازنوا باستخدامه.
تشير الدلائل العلمية وكتب التأريخ والمكتشفات عن نخيل التمر، بأنها كانت تنموا غلى هيئة طبيعية، بما يعني بأنها بدأت نبتة تنموا بما تمليه فترة انمائها منذ 80 مليون عام في"العصر الطباشيري"، وهذا ما عبر عنه بدراسات وبحوث معمقة علماء النبات.
ويبدو أن النبتة منذ البدايات، ومنذ انفصالها عن عائلة النباتات المزهرة، كانت قادرة على التأقلم مع المتغيرات الطبيعية الصعبة، وبالتالي الانتشار قبل نحو 60 مليون سنة إلا أن استخدام النبتة للأكل، بدأ قبل خمسة آلاف عام في العراق، تشير الدلائل وكتب التأريخ بأن أقدم زراعة نخيل معروفة، وكانت في العراق "بلاد مابين النهرين"، ولهذ فقد قدس العراقيون شجرة النخيل" دقلا" الذي تعتبر من اهم رموز موروثهم، وأحتلت مكانا بارزاً في تراثهم، فالملك نبو خذ بن نصر ملك بابل، نفسه قال أنا نبو خذ بننصر مراقب القنوات، وكانت أول علامة مسمارية كتبت فيه عن النخل بدأت في كتابات عصر فجر السلالات، نصّت شريعة حمورابي في عدد من موادها على حماية زرعة النخل والعناية به من العبث والقطع، فالمادة 59 من الشريعة
نصت على تغريم من يقطع نخلة واحدة بنصف "من" من الفضة اي حوالي نصف درهم، فهي جزء من النظام البيئي العراقي، كما توفر أشجار النخيل حماية للمحاصيل الزراعية ضد قسوة المناخ: الحرارة، والرياح، وحتى الجو البارد، التي مافتئت تبسط ظلها على أرض الرافدين مذ خلقها ألله لتكون زينة جنة عدن الساحرة والجميلة والرشيقة، وهي الشجرة الوحيدة من بين الأشجار الذي لا يتساقط ورقها ويستظل بسعفه، ففي بابل كانت هذه الشجرة المقدسة تزين ردهات المعابد الداخلية، ومداخل المدن وعروش ذوي التيجان، فآله النخل كان يظهر على هيئة امرأة ينتشر على اكتافها السعف كالأجنحة
وكان تمر النخيل من أكثر المواد الغذائية أهمية، ذكر المؤرخ سترابو اهمية النخيل في عهد العراق القديم بقوله" تجهزهم النخلة بكل احجتياجاتهم عدى الحبوب"، واستخدم خشب النخيل في مجال البناء والحاجات المنزلية، ويصنع من جذوعه السقوف وأعمدة البيت، ويصنع منه الأسرة والحبال وسائر الأواني والأثاث، ومعلف للماشية، كما ادخل البابليون والآشوريون التمر في الوصفات الطبية، حتى ان ان البابليون كانوا يحضرون شراباً من جذوع النخلة يسمى شراب الحياة، ويصنع منه العسل والخمر.
وكان الآشوريون يقدسون اربعة شعارات دينية احداها النخلة والثلاثة الباقية هي المحراث والثور والشجرة المقدسة.. وقد عثر على هذه الشعارات منقوشة على تاج وضع في أعلى محراب يعود الى عصر الملك (أسرحدون) في الفترة (680-669 ق.م)، ان المصادر التاريخية تشير الى وجود شعارات ورموز تعبر عن النخلة في الحضارة البابلية والسومرية.. وهذا دليل كاف على ان النخلة هي الهوية للعراق
ويقول كمال الدين القاهري صاحب كتاب النبات والحيوان: إن النخلة تشبه الإنسان كالآتي
فهي ذات جذع منتصب
ومنها الذكر والأنثى
وإنها لا تثمر إلا إذا لقحت
وإذا قطع رأسها ماتت
وإذا تعرض قلبها لصدمة قوية هلكت
وإذا قطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محله كما لا يستطيع الإنسان تعويض مفاصله
والنخلة مغشاه بالليف الشبيه بشعر الجسم في الإنسان
مجدت في كافة الأديان، فقد ذكرت في التوراة والتلموذ والأنجيل، وفي القرآن الكريم ورد ذكر النخلة في (21) آية.. وان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران"، " اكرموا عمتكم النخلة فأنها خلقت من الطين الذي خلق منها آدم".
وجه خلفاء وأمراء وولاة العصر العباسي على تشجيع الزراعة ومنها النخيل، فنشطوا في حفر الترع واقامة الجسور والقنطرات ومخارج التصريف وكانت الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات من أخصب البقاع للدولة العباسية تكثر فيها المزارع والبساتين.
لقد ورد ذكر النخلة في كتب الأدب العربي ، حيث ذكرها أمرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى في معلقتيهما كذلك ياقوت الحموي والبلاذري وإبن حوقل وأبو الطيب المتنبي والأبيوردي ، ومن الشعراء المعاصرين أحمد الصافي النجفي وعاتكة وهبي الخزرجي ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الرزاق عبد الواحد، كما ونظم الشاعر الشعبي العراقي ملا عبود الكرخي قصيدة:
بغداد مبنية أبتمر فلس وآكل خستاوي والتمر بالبصرة زبل لا سيما الخضراوي.
أما الشاعر ابو نؤاس فقال : << لنا خمر وليس بخمر نخل ولكن من نتاج الباسقات كرائم فالسماء زهين طولا ففاتة ثمارها ايدي الجناة قلائص الرؤس لها فروع تدر على اكف الحالبات>>.
ومما قاله ابو العلاء المعري: << شربنا ماء دجلة خير ماء.. وزرنا أشرف الشجر النخيلا >>، ويقول امير الشعراء أحمد شوقي<< اهذا هو النخل ملك الرياض امير الحقول عروس العزب، كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً يرمى بصخر فيعطي اطيب الثمرا>>، وكلنا تغنى مع أحد عمالقة الغناء حسن نعمة وأغنية " نخل السماوة يكول طرتني سمرة..سعف وكرب ظليت ما بي تمرة" للشاعر المعروف ناظم السماوي.
لقد اهتم العرب بالنخلة فألفوا العديد من الكتب حولها وبلغ عددها أكثر من عشرين مصدرا” من أشهرها أثناء حقبة العهد العباسي "النخل والكروم" لأبي سعيد عبد الملك الأصمعي وكتاب " النخل" لأبي حاتم سهيل السجستاني، كما أفصح ابن القيم عن ثمرها بأنه من أكثر الثمار تغذية للبدن، هو فاكهـة وغذاء ودواء وشـراب، والأستاذ توفيق الفكيكي وكتابه" شجرة العذراء"، والعالم من البصرة الأستاذ عبد الجبار البكر، مؤلف كتاب "نخلة التمر"، احتلت النخلة مكانة متميزة بدراسته وحياته، عاش معها، وبها تجول في اقطار العالم، ادخل الى المكتبة العربية اول كتابة علمية عن النخلة، أسس أول مزرعة نموذجية في الزعفرانية لأنتاج الشتلات والفسائل لأجود وأحسن انواع الفواكه والحمضيات والتمور، كما ألف الأستاذ عباس العزاوي كتابا بعنوان" النخيل في العراق".
واطلق الاجداد على النخلة عدة تسميات.. وذلك لاعتزازهم بها ومن هذا المنطلق تمت تسمية النخلة الصغيرة والتي يمكن نقلها بسهولة اثناء الزراعة هي الفسيلة اما النخلة في عمر الشباب بعد اول طرح منتوج لها من التمر يطلق عليها اسم (النشوة) وفي مرحلة الشيخوخة تسمى (عيطة) وذلك لعلوها المرتفع ووقوفها الشامخ في البستان ويطلق على عملية التلقيح (بالطلوع) ولكثرة عدد الاشجار في البساتين الكبيرة تقوم الزراعة على احاطته بزراعة النخيل الذكور لتسهيل عملية التلقيح.
اعتمد ابناء العراق النخيل والتمر في سهوله منذ سنين بعيدة، كمورد للمعيشة والرزق وطعام رئيسي في كافة فصول السنة نظراً لسهولة تخزينه وحفظه قياساً إلى باقي أنواع الأطعمة والمأكولات، التي لم يكن الأقدمون يستطيعون تخزينها مثل حال التمر في عصور ما قبل الأجهزة الحديثة التي تحفظ الطعام من التلف لفترات طويلة، والتمر في ذلك جزء رئيس من البيئة الصحراوية التي تحتوي عدداً من المكونات تساعد الإنسان الذي يعيش فيها على الاستمرارية، ومن النخلة يستخرج الجمار وهو قلب النخلة الذي يزودها بالأستمرار على الحباة وما أطيبه وهو فاكهة لذيذة كنا نتذوقها في الشتاء كما انها دواء يوصف للأظطرابات المعدية وطاقة لكبار السن.
يذكر العالم عبد الجبار البكر في كتابه نخلة التمر ان عدد اصناف التمور في العالم يتجاوز الالفين صنفاً ففي العراق يوجد نحو 600 صنف ، ان كل منطقة من مناطق زراعة النخيل تختص بأصناف معينة من التمور غير ان بعض الاصناف انتقلت من منطقة الى اخرى مع الزمن اما بأسمائها الاصلية (البرحي العراقي ) او اعطيت لها اسماء جديدة وقد نجد في المنطقة الواحدة اسماء متعددة لصنف واحد او اسم واحد لصنفين مختلفين.
تتميز التمور العراقية بجودتها، وتختلف الوان واشكال التمور، فتتراوح ما بين الأصفر الفاتح، ويتدرج وصولا َ الى البني الغامق، ومن أهم التمور العراقية:
البرحي، خستاوي، أخو الخستاوي، زهدي، بربن، ديري، خصاب، ساير، مدجول، حلوة الجبل، أشرسي، أشرسي أسود، أشرسي هبهب، جبجاب، خضراوي، زركاني، دقل، مكتوم، يونسي، قنطار، ليلوي، حلاوي، شكر، ديري، مريم، سلطاني، بريم، تبرزل، إبراهيمي، سعادة، إبراني، أبو السلي، أبو السويد، أبو فياض، حجى، أحمد دبس، أحمد شبلي، أحمر، أحمر حلاوي، أخت القسب، أخت بيدرايه، أخظهرى، ازدادي، أزرقاني، أزرقي، أزون خوشلي، استعمران أو ساير، استعمران بحريه، إسحاق، اشراي، أشقر، أبيض، أشوط، أصابع العروس، أفندي، اكَشرهن، أم جنيح، أم أصابع، أم الأجربه، أم البخور، أم البلاليز، أم البيض، أم التنور، أم الجام، أم الجاموس ..
شرب أهل العراق الخمرة منذ أقدم الأزمان، وكانوا أول من أنتج العرق من تمر النخيل، حيث عرفه السومريون والآشوريون والبابليون، واستمر تعاطيه الى يومنا هذا.
وأشهر أنواع العرق: المستكي والزحلاوي، الذي كان يُحصل عليه من تخمير التمر الزهدي في أحواض كثيرة ثم تقطيره في المراجل الخاصة.
كان العراق يحتضن أكبر غابة لزراعة النخيل في العالم عند شط العرب، لفترات طويلة تصدر العراق قائمة الدول المنتجة للتمور فكان ينتج أكثر من ستمئة نوع من التمور ويقدم ثلاثة أرباع الإنتاج العالمي منه، وكانت صناعة النخيل مصدراً لإيراداته من العملة الصعبة بعد النفط والفوسفات والكبريت، ولكن ثروة العراق من النخيل تدهورت بشدة بسبب الحروب والحصار. بالإضافة إلى مشاكل المياه وارتفاع نسبة الملوحة، وتعرض النخيل لأمراض خطيرة، والأهمال بعد أحتلال العراق حيث تحولت الترع الجميلة والجداول الى مجاري للمياه الثقيلة في البصرة سندس العراق وواحته الغناء التي أبهرت بجمال نخيلها الرحالة والمستكشفين ، وهي التي كانت تعد من أهم المدن العربية في انتاج وتصنيع التمور، فهوت من 32 مليون نخلة الى 15 مليون نخلة.
أن هدف المقالة هو ربط الماضي الزراعي للنخيل وما كانت عليه وما حصل من تدهور عليه، وما يشهده الحاضر نتيجة التطور الهائل في تكنلوجيات الزراعة والمكننة، أنها صرخة للبدأ بتنمية زراعة مستدامة ونحن نعيش ظروف تدهور اسعار النفط وما نشاهده من أهمال متعمد لكافة القطاعات ومنها قطاع الزراعة كما يتطلب إعادة إحياء بساتين النخيل في كل المحافظات، وإقرار قوانين للحفاظ عليها، وأحياء مركز بحوث النخيل وتطوير مزرعة البستنة النموذجية في الزعفرانية التي اهملت هي الأخرى، وتشجيع الزراعة النسيجية التي برزت واستخدمت في العراق في أواخر الثمانينات، بالإضافة إلى تخصيص يوم وطني للنخلة كرمز لوحدة العراقيين فالنخلة شامخة لا تعرف غير انتمائها للعراق وكل العراق، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
1705 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع