المدى/علي حسن الفواز:تفوح رائحة الامكنة البغدادية من محلاتها القديمة، ومن بقايا شوارعها الضيقة وشناشيلها التي أهملت كثيرا..
وحين نحاول البحث عن ملامح مدينة بغداد من خلال تلك الرائحة، وعبر شقوق الأثر نحتاج الى الكثير من التجوال والحفر في يوميات الذاكرة، أو في بعض علاماتها واسواقها و(درابينها) العتيقة، اوربما في صور فوتوغرافية شاحبة تركها البعض من مصوري العشرينات والثلاثينات، والتي تباع للأسف بعشوائية- ودون إهتمام أو حتى مسؤولية او حفط ارشيفي- في أسواق الخردة أو الهرج كما يسميها البغداديون،
او عند بعض محال الارصفة والدكاكين والانتيكات في ساحة الميدان او في منطقة الباب الشرقي. أثر المكان الغائب في الذاكرة البغدادية ظل محط إستدعاء دائم، تارة لمواجهة عوامل التعرية الإنثربولوجية للمدينة، وتارة أخرى للتلذذ بالأوهام النرجسية لصورة مدينة ألف ليلة وليلة. ذاكرة المكان البغدادي تحول عند البعض الى لعبة تجارية، إذ تحولت شفراته اللغوية والوثائقية السرية التي يعرفها هذا البعض من(صيادي) آثار هذه الذاكرة الى سلعة تباع بأسعار خيالية، لاسيما تلك التي تخصّ العملات النقدية القديمة أو صور العائلة المالكة، أو بعض آثار الجماعات المسيحية أو اليهودية التي كانت تعيش في بغداد...
السيد/رفعت مرهون الصفار ـ اطال الله في عمره
هذه الانثربولوجيا المكانية هي بعض ماحاول ان يشتغل عليه كتاب (محلات بغدادية قديمة في الذاكرة) الصادر عن دار الحكمة/ لندن 2014 لمؤلفه الباحث التراثي رفعت مرهون الصفار، والذي يعدّ محاولة لإستعادة ذاكرة المحلات بوصفها التاريخي والعمراني، وبوصفها هوية ديموغرافية لجماعات وثقافات وطقوس كانت تحفل بهذه الأمكنة، إذ كثيرا ماتكون تلك المحلات مهددة بالمحو عن يوميات المدينة الآخذة بالتمدد والتعرية..
تستهل الكتاب مقدمة وافية للباحث الآثاري د. عماد عبد السلام رؤوف، يسلط الضوء فيها على ماهو غائب في ذاكرة المدينة ومحلاتها(التي إندثر بعضها أو تهدم أو زال من الوجود أصلا، بسبب العمران والتشييد وشق الشوارع وتوسيعها وإنشاء الميادين والساحات والحدائق والعمارات،؟او بسبب ما أصابها من تخريب أو دمار نتيجة تسرب المياه الجوفية الى سراديب المحلات ومنخفضاتها) ص12
يرى الباحث أن الكتابة عن المحلات البغدادية ينطلق من فكرة(تأصيل الإحساس العميق بحب الوطن والارض الكريمة التي تربيت فيها وعليها) ص17
هذه ليست نظرة شخصية للأمكنة، بقدر ماهو السعي لوضع القارىء امام مساحة مفتوحة لمعرفة تاريخ مجهول ومهمل لهذا الإرث،
وأمام الحاجة بضرورة التنبيه لامكانية إقامة متحف بغدادي لحفط ذاكرة المدينة التي باتت تغيب تحت سطوة المتغيرات العمرانية، وتحت مهيمنات المحو الإجتماعي الذي تصنعه أوهام السياسة والطائفية، بوصف بغداد مدينة كانت مفتوحة للتعايش، مثلما هي قيمة رمزية فاعلة لتاريخ الجماعات الثقافية والتجارية والإجتماعية، مثلما هي رمزية لسيرورة الدولة العراقية منذ عام 1921، فضلا عن كونها الفضاء السسيوثقافي الذي شهدت يومياته الكثير من الصراعات والإحتلالات والتحولات والإنقلابات والتغايرات الكبرى في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأن محلاتها الشعبية وأسواقها ومقاهيها، وبعض رموزها كانت تحمل الكثير من شجن هذا التاريخ وأسفاره..
هذا الكتاب أقرب الى الأرشفة الشخصية،ويضعنا أمام جهد ثقافي وطوبوغرافي مميز، وأمام رغبة صادقة في حفظ إرث هذه المدينة، إذ دأب الباحث الى تقصي هذا الأثر عبر محلاتها العتيدة مثل (صبابيغ الآل والقشلة والهيتاويين والشورجة والدهانة وسراج الدين والصدرية والعوينة والدوكجية، ومحلات بني سعيد وقنبر علي والتوراة وتحت التكية ومحلة البوشبل والسور وباب الأغا) وكذلك الأسواق التي إشتهرت بها المدينة، والشوارع والجوامع والتكايا والمهن والحرف والمدارس التي تخرج منها أبرز رموز بغداد من السياسيين والمثقفين والتجار..وكذلك التعرّف على أبرز الوجوه البغدادية التي لعبت دورا مهما في حياة المدينة الثقافية والسياسية ومن ابرزهم:
(حمدي الباججي، جلال الحنفي، عبد الحميد الشالجي، الدكتور خالد ناجي، مزاحم الباججي، عبد الغني الجميل، مكي الجميل، د. فؤاد حسن غالي، مصطفي علي، حقي الشبلي كمال شاكر، خضر الولي..
هذه الوجوه الثقافية، فضلا عن أصولها المدنية والمهنية، إلاّ إنها إهتمت أيضا بالإرث المديني لبغداد، فضلا عن دأب الباحث على بحثه في العديد من الوثائق الرسمية والصور للأماكن والخرائط والصور، و كذلك بعض ما نشرته الصحافة البغدادية قديما والتي تتعلق بمدونات وشواهد تستعيد ذاكرة المدينة، والتي تطلبت بالطبع جهدا وبحثا، للسير وللوثائق والمعلومات لرصد عوالم المدينة عبر امكنتها وعاداتها وأسواقها،
وعلى طبيعة مهن أصحابها الذين عملوا على صيانة تاريخهم المديني ويوميات معيشهم وعلاقاتهم في المدينة، والحفاظ على ما تكرّس في ذاكرة المكان العراقي من قيم وعلاقات وتقاليد وطقوس وعادات وعمران ظلت شواهد على سيرة المدنية ومحلاتها التراثية، وفي تأصيلها كمراجع لمعرفة الثقافات الشعبية فيها، لان مدينة بغداد تظل دائما- رغم كل ماتتعرض له- كنزا كبيرا لهذا التاريخ العميق..
اختيار المؤلف العديد من أسماء الوزراء والعاملين في مجالات الثقافة والعلوم الاجتماعية والدينية والعسكرية العراقية ومنذ نهايات القرن التاسع عشرن يعكس مسؤولية الباحث في منهجة كتابه، وفي إعتمادهم التوثيقي ليكونوا ابرز الشهود على يوميات المدينة، من منطلق إهتمامهم بالأثر البغدادي، وتفاصيل الأمكنة والعلاقات العائلية والإجتماعية والعادات والتقاليد والطقوس، باتجاه تحقيق الأهداف البحثية وإبراز الجوانب المضيئة في الحياة البغدادية، وكذلك تقصي مظاهر الحياة المتمدنة التي كانت تعيشها المحلات الشعبية، تلك التي برزت من خلال العادات والتقاليد والمهن ومظاهرألادب الشعبي والتراث الشعبي المسمى ب(الفلكلور)، فضلا عن ماكانت تنشرته الصحف والمجلات المهمة الصادرة منذ بدايات القرن الماضي مثل مجلة(لغة العرب) وجريدة (الكرخ) ومجلة (التراث الشعبي) وغيرها، فضلا عن التعرف على ابرز المصادر والمراجع الباحثة في هذا الجانب، تلك التي كتب فيها ابرز الكتاب في مدينة بغداد مثل:
الاب انستاس الكرملي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ومحمد مكية ومحمد مرهون وناجي جواد الساعاتي ونوري ثابت(حبزبوز) والملا عبود الكرخي وعزيز علي و الدكتور علي الوردي والدكتور حسين علي محفوظ وغيرهم، وكذلك تدوين ما إهتم به المستشرقون في هذا المجال امثال الالماني هرتسفيلد والفرنسي هنري فيوليه والانكليزي فرتز كرنكو وغيرهم..
كتاب (محلات بغدادية قديمة) يشتغل على مواجهة محو ذاكرة المكان البغدادية، تلك التي كان غيابها ومحوها صورة لرعب الصراعات والانقلابات والحروب والإستبداد والهجرات العشوائية والاوهام التي أغرقت روح المدينة بالحزن والغياب، فضلا عن غياب أي إهتمام مؤسسي وبرامجي لحفظ ذاكرة المدين، بل أن الأقسى هو تزييف ذاكرة المدينة وتعريضها الى مايشبه السحق والتغييب، حدّ إفقادها هويتها المدينية وترييفها قسرا جرّاء إغراقها بصورة المدينة العشوائية، مدينة الضحايا المباحين للصراع الإجتماعي والإقتصادي والذي عاشته مدينة بغداد لعقود طويلة...
769 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع