د. فيصل القاسم
ليس هناك أدنى شك بأن وسائل الإعلام الحديثة، كالفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، لعبت دوراً تاريخياً في تحريك الشعوب واستنهاض هممها، وتحريضها على الطواغيت والطغيان.
ولو لم تلعب وسائل الإعلام هذا الدور، فستكون بالتأكيد متواطئة مع الطغاة. لكن بالرغم من تخييط الأفواه على مدى عقود، وخنق القبضة الأمنية لعنق الإعلام، إلا أن بعض الوسائل شقت عصا الطاعة، وراحت تزلزل الأرض تحت أقدام الديكتاتوريات ومراتع الاستبداد، مما جعل بعض الطواغيت يرتعد خوفاً ورعباً، بعد أن فقد هيبته، وأصبح علكة تتسلى بها الأفواه.
لكن الديكتاتور العربي هنا وهناك، وكي يثأر لكرامته المهدورة التي مسح الإعلام بها الأرض، راح هو وإعلامه الخشبي البائد، يتهم وسائل الإعلام الحديثة بأنها تدمر الأوطان، مع العلم أن من أوصل الأوطان إلى الحضيض، وجعلها كيانات كرتونية مهترئة هو الطاغية نفسه، من خلال سياساته القمعية الوحشية الفاشية، وتبديده لثروات البلاد ومقدراتها على المغامرات السياسية والعسكرية والأمنية الطائشة والمُهلكة، والمشاريع العائلية المفضوحة. لكنه لم يجد سوى الإعلام الحر كي ينتقم منه، ويحملّه آثام عقود من الطغيان والبغاء السياسي.
كم تبدو أبواق النظام السوري وأشكاله الرثة بائسة وهي تتهم هذ الفضائية أو تلك، أو هذا البرنامج أو المذيع أو ذاك بأنه مسؤول عن تدمير سوريا. يريدون تغطية عين الشمس بغربال، هؤلاء المكابرون، خاصة وأنهم ما زالوا يعيشون في غياهب استبدادهم وجهلهم الإعلامي المتخشب.
إنهم يكذبون بالاسلوب نفسه الذي كانوا يعاقرونه قبل الثورات. يحاولون تضخيم الكذبة بحيث يصدقها الشعب، دون أن يعلموا أن الشعوب لم تعد تصدق ترهاتهم وخرافاتهم وفبركاتهم.
أليس فيهم رجل حكيم يقول لهم إن اتهاماتكم لهذه القناة او تلك، أو هذا المذيع أو ذاك بأنه دمر سوريا لم تعد تنطلي على حاضنات الخدج وأطفال الروضات، فما بالك بالأجيال الصاعدة التي تجوب مواقع الانترنت على مدار الساعة ببراعة النحلة؟
إن مجرد اتهامكم لوسائل الإعلام بتدمير سوريا يدل على أنكم فعلاً ما زلتم تعمهون في عوالمكم الظلامية القديمة، ولم تتعلموا شيئاً من عصر السموات المفتوحة، الذي عراكم، وفكشف عوراتكم، وجعلكم تتخبطون يمنة ويسرى، وتستأجرون الأبواق البالية نفسها، التي لم تجلب لكم سوى العار والفضيحة والسخرية على مدى عقود!
عندما تزعمون أن قناة او مذيعاً أو برنامجاً دمر بلداً، فأنتم ترفعون كثيراً من شأن القنوات والبرامج والمذيعين، وتحطون كثيراً من شأن الأوطان والشعوب، وحتى من شأن أنظمتكم.
ألم تفكروا بأن يرد عليكم أحد بأنكم أنظمة هشة يستطيع صحافي أن يحرقها؟ ما هذا الوطن الذي تهزه قناة فضائية، ويدميه برنامج؟ البلد الذي تستطيع قناة فضائية أو قناتان تدميره لا يستحق أن يكون وطناً، فلا ينهار بسرعة البرق إلا بيت العنكبوت. هل بنيتم أوطاناً، أم بيوت عناكب؟ إن المجتمعات المحصنة بالحقوق والوطنية الحقيقية والعلم والتنوير لا يقدر أحد على هزها أو النيل منها. لو فعلاً بنيتم شعوباً ودولاً قوية، لقلتم: ‘يا جبل ما يهزك ريح’، لكنكم، على ما يبدو، بنيتم قلاعاً من الرمال تذروها الرياح من أول هبة.
عندما بدأت الثورة السورية، وراح بعض رجال الدين يبث بعض البرامج الموجهة للشعب السوري من الخارج، أقام النظام السوري الدنيا ولم يقعدها، وهو يهاجم ويشيطن أصحاب تلك البرامج، لأنهم يخربون البلاد! ألا تخجلون من هذه الاتهامات؟ ألا يدل ذلك على أن رجل دين بسيطاً قادر أن يهز عروشكم ببرنامج تلفزيوني، ويحول حياتكم إلى جحيم؟!
لقد أعجبني أحد السوريين الذي قال: ‘لا تتهموا بعض رجال الدين بتخريب سوريا، بل اتهموا ما تسمونه حزبكم التاريخي، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي فشل على مدى عقود في تحصين الشعب السوري، وجعله يقع فريسة في يدي هذا الداعية أو ذاك’.
أيعقل أن تخافوا من برنامج ديني، مهما كان تحريضياً.؟ ألا تفضحون أنفسكم بأنفسكم؟ ألا تؤكدون أن مجتمعاتكم هشة بهشاشة عصا سليمان، التي نخرها النمل؟
لو كان الإعلام يدمر بلداناً لكان الاعلام السوري قد دمر إسرائيل وأمريكا والصهيونية والامبريالية منذ عقود، لأنه كان يتفنن بشتمها وسبها وشيطنتها ومسح الأرض بها منذ عشرات السنين. فلماذا لم تنهر إسرائيل؟ لماذا لم تدمروها بقذائفكم الإعلامية التي كنتم تطلقونها ليل نهار؟ لأنها دول حقيقية لا تخيفها كلمة، ولا يرعبها برنامج حواري!
ولو افترضنا جدلاً أن الهجمة الإعلامية على الديكتاتوريات العربية كانت شرسة جداً، فأين وسائل إعلامكم وإعلاميوكم؟ لماذا فشلوا في التصدي لها ومنعها من تدمير سوريا، كما تزعمون؟
وهل كنتم تعتقدون أنه بمقدوركم وضع كل الإعلاميين الذين يعملون في القنوات الخارجية في سجونكم؟ لماذا ما زلتم تفكرون بمحاربة الإعلام بالطريقة الأمنية البائدة كسجن الصحافيين، وإرهابهم، أو الحجز على أملاكهم؟
على من تعتمدون في استشاراتكم؟ أليس من السخف أن يدير إعلامكم رجال أمن لا يفهمون إلا في فنون التعذيب والإرهاب واستعداء وسائل الإعلام والإعلاميين، بدل مواجهتهم بالطرق الحضارية الحديثة والحجة؟
ألا تعلمون أن الحروب الإعلامية لا يمكن مواجهتها بالأساليب الأمنية والعسكرية الفاشية، فلا يمكن مثلاً أن تحارب الإعلام ولا الإعلاميين بالإرهاب والسطو والمصادرات والاعتداء على الأملاك الخاصة، بل بالإعلام الحقيقي المنافس والند للند!؟
لقد قمتم بإخصاء الإعلام الوطني والاعلاميين لعقود، ثم رحتم تشتكون من الاعلام الخارجي ‘المغرض’. قال شو قال: الإعلام المغرض دمر البلد!
طيب! أين إعلامك يا ‘زعيطو’ كي يواجه الإعلام المغرض؟ لقد حولتم الاعلام والاعلاميين المحليين إلى مطايا ومخنثين، ثم أردتموهم أن يكونوا فحولاً فجأة، عندما بدأتم تواجهون الإعلام الخارجي.
ألا تعلمون أن العليق لا ينفع عند الغارة؟ البلد الذي يتهم وسائل الإعلام بأنها دمرته يجب أن لا يلوم سوى إعلامه، فلو كان لديه إعلام يمكن تصديقه، لما استمع شعبه للإعلام العابر للحدود. لقد كان الإعلام السوري وما زال كالشخص الأعمى، الذي أمضى عمره في حفظ وإلقاء ما تلقنه إياه فروع الأمن، والآن يُراد له أن يقرأ ويكتب. تخيلوا كيف ستكون كتابته؟ يصيح حمزة الملوح.
كفاكم رمي قاذوراتكم في ملعب الإعلام الآخر. ومن يتشدق بأنه ‘قلعة الصمود والتصدي’ يجب أن يتعلم كيف يصمد على الأقل في وجه الإعلام، فما بالك في وجه الأعداء.
لا بارك الله ببلاد تستطيع أن تدمرها قناة فضائية أو برنامج حواري أو مذيع!
1422 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع