أ.د. سيّار الجَميل
مؤرخ عراقي
من المؤلم حقا ان يصل العراق المتميز بتاريخه وحضارته وانشطته وعطائه وجغرافيته وموارده وقوته البشرية الى الحضيض بعد كلّ ما قدمه للإنسانية على امتداد التاريخ .
ومن المحزن حقا اليوم ، ان تنتقل الصراعات بين قواه الحزبية والسياسية الى حروب سلطوية دموية بين ابنائه وتفكك انسجته الاجتماعية .. ومن الفضيحة ان تغدو السلطة طرفا في الصراع او في قلب المشكلة ، بناء على اجندة انقسامية يحملها المتسلطون انفسهم في زمن الفوضى ، وكرّسها " دستور " مليء بالتناقضات ، ضمن عملية سياسية ادخلتنا في ورطة تاريخية .. وكان العراق بحاجة ماسة الى زمن انتقالي من عدّة سنوات كنت اسميتها منذ 2003 بـ " فترة نقاهة " ، للتجرد من كل الاحقاد الدفينة واثار السنين الصعبة ، وان يدير العراق عراقيون يفهمون مشكلاته ، ويدركون طبيعة اهله فيما يوحدهم او يفرقهم ، وبدء حياة سياسية جديدة نظيفة ، والتجرد من النوازع القديمة ، والتربويات الخاطئة ، وترسيخ مبادئ وطنية طالبنا بها منذ 2003 ، شريطة ان ينفصل أي زعيم جديد يصل السلطة عن حزبه وطائفته وجهويته ، ويكون بمثابة أب اصيل في تعامله السوي مع الجميع دولة ومجتمعا .. بلا انحيازات ، ولا تفرقة ، ولا سرقة ، ولا قتل ، ولا كراهية ، ولا تصفيات ، ولا تلفيقات تهم .. وتمنيت ان يكون معبرا عن احلام شعبه وليس منفذا لاجندات الاخرين !
كان العراق كسفينة ابحرت في بحر هائج ، والقباطنة فيها كثر لا يعرفون قيادتها ، وقد جلسوا في غرفة القيادة العليا ، وتركوا كلّ العراقيين الراحلين معهم في مواجهة الاعصار الهائج .. لم يستمعوا الى نداءات العقلاء والحكماء والشرفاء .. ومضوا بـ " عمليتهم السياسيّة " بعيدا عن اي مشروع وطني ، وهم يمارسون الانتخابات والاستفتاءات والبلاد يجتاحها الارهاب الرهيب .. ومنذ دورتين انتخابيتين ، مورست شراكة واهية بين الفرقاء على حساب تشرذم المجتمع وتفككّه وقد شحن بالطائفيّة المقيتة ومأساة دمج المليشيات التي خرجت عن القانون ضمن مؤسسّات الدولة . وكانوا يتشدّقون بقوة المجتمع ويتوّهمون تماسكه ، لكن الحقيقة الفضيحة التي لا يمكن تغطيتها تقول بانّ العراقيين غير منسجمين ابدا .
ليس العراق استثناء ازاء مجتمعات تماثله ، ولكن الحالة العراقيّة لها خطورتها في تناصف هذه الاصناف فضلا عن خطورتها في حيثياتها القديمة .. ان مثل هكذا مجتمع بحاجة الى قيادة ذكيّة وشجاعة وحياديّة وكفوءة يؤلفّها رجال عراقيون من نوع خاص ، والعراق قد انجب امثالهم على امتداد تاريخه المتنوع . ان العراقيين بحاجة الى زعيم ومسؤولين ينظرون الى العراقيين سواسية لا يفرّقون بينهم ابدا ، لا على اساس ديني او طائفي او قومي او جهوي او تاريخي .. اي وجوب معاملة السلطة للعراقيين كأسنان المشط كي يكسب الزعيم محبّة الجميع من دون وضع بيضه في سلّة واحدة ، ليراهن عليها من اجل بقائه في السلطة ، وثقوا بأنّ اغلب العراقيين يمنحون ثقتهم ومحبتّهم لأيّ زعيم عراقي حقيقي غير طائفي ، لا يترّفع عنهم ، بل يمنحهم حبه واحترامه بصدقية واخلاص ويمثلّها في كل شبر من العراق .. ان أيّ حاكم عراقي سينجح في مهمتّه ، ان كان ذكيّا في حسن معاملته ومعرفته لخبايا كلّ منطقة ومدينة وقرية ويعتني باعتبارات الناس المعنويّة ، وخصوصا في رعاية ابنائهم ، واكرام اعيانهم ، والحفاظ على نسائهم ومساعدة عوائلهم ، وتلبية حاجاتهم الخدميّة والمعيشيّة .. ان العراقيين لا يطيقون حاكما يتكّبر عليهم ، ولا يهضمون رئيسا ينعزل عن مجالسهم او مضايفهم او دوائرهم او مدارسهم او نواديهم او شوارعهم .. ويمقتونه ان وجدوه ينحاز الى اهله وطائفته وقوميّته على حساب الاخرين .. انهم يريدونه ابا للجميع او ابنا بارا للشعب قاطبة .
يقف من كان وراء ورطة العراق من الباب الى المحراب ، وهو يتزّعم " سلطة" ساد من خلالها على العراق ، وحوله وزراء ومدراء وسفراء وقادة وحواشي مستشارين لا يتمتعون بأيّة كفاءة ، ولا نزاهة ، ولا ذكاء ، ينشرون الاشاعات ويثيرون الاحقاد ، ويشيعون التهم وينفذّون اجندة احزاب .. ان المسؤولين لا خبرة لهم ، ولا تجربة عندهم .. وقادة جيش يستخدمون كل القسوة في قهر الشعب .. مسؤولون متهمون في اخلاقياتهم ومهنيتهم واهليتهم من خلال صفقاتهم واخطائهم من دون حساب ولا عقاب ! ان زعيما يطمح لتجديد ولايته ، وهو يدرك انه قد فشل فشلا ذريعا في الحكم وادارة البلاد عليه ان يعترف بالخطأ ، فالاعتراف بالخطأ فضيلة .. كان الشعب يطحن منذ سنوات في تفجيرات وكواتم ومفخخات وقتل الاف العراقيين ظلما وعدوانا .. ونقرأ ونسمع اشاعة اتهامات لأبرياء واقصائهم ومحاكمتهم ، ولكننا لم نجد ارهابيا او قاعديّا او داعشيا واحدا يحاكم علنا امام الشعب ! فمن يختبئ وراء هؤلاء ؟ وما الذي يقف وراء نحر العراق ؟
لا يمكن لرئيس او مسؤول او قائد جيش محاربة الارهاب بهكذا اساليب دموية وخطايا لا تغتفر ابدا ، فكيف يتمّكن أيّ زعيم عراقي ان يكون جاذبا لشعبه ويتمتّع بكاريزما تترجمها شخصيتّه وخصاله ؟ وكيف يتعلم من الاخرين اساليب ادارة العراق ؟ وكيف يحترف بكفاءة عالية ادارة ازماته ؟ ثمان سنوات ولم يُعرَف خلالها القضاء على الارهاب .. والارهاب افتقد رهبته مذ غدا مجرّد شتيمة تطلق على كلّ معارض سياسيّ او خصم اعلاميّ ! ان تعامل السلطة بأكثر من مكيال مع المواطنين ، قد دمّر المجتمع بحيث جعل من نصفه اعداء له ، ونصفه الاخر اعداء لنصفه الاخر ، بل لماذا استخدمت السلطة الطائرات والدبابات والفرق القذرة ضد ابناء الشعب مهما عارضوا سياسيّا او اعتصموا اعلاميّا ؟ وهل جرى مثل ذلك في غير سوريا والعراق !
على الزعيم الحقيقي ان يتعامل مع معارضيه ، شركاء شرفاء ضدّ كلّ الدخلاء والعملاء ، وان لا يهرول الى هذا الجار يستجدي منه ، او ذاك يستقوي به ، او تلك يستعديها .. مهما كانت مشكلاته ، فربّ البيت هو الوحيد المسؤول عن بيته واهله ! ومن الغريب ان يستغفل الحاكم شعبه وكأنّ شعبه مجاميع اغبياء يصدّقون كلّ ما يقوله ويدّعيه .. وحتى المروجّين له ، فان لهم مصالح ومحسوبيات شخصيّة او حزبيّة او طائفيّة او فئويّة او عصبيّة او غيرها ..
اخيرا اقول ، بأنّ العراق الغاطس في مشكلات بحر الظلمات ، لا يمكنه الخروج منها ، ان لم يحظ بزعيم جديد نزيه ومتواضع يوحّده ويندمج معه ، ويصلح دستوره ، ويشاركه همومه ويخلصه من انقساماته ، وان يكون امينا على مصالح شعبه ، ويتنقل دوما بينهم جميعا مهما كان طيفهم ، يجالسهم ويأكل معهم ويلبّي حاجاتهم ، ويفخر بمبدعي العراق في الدواخل او الشتات .. و يشرك كلّ الاطياف العراقية في مهمتّه ومشروعه ومؤسّسات البلاد ، وان يتعلّم كلّ يوم من تاريخ العراق ، وكيف ادار من سبقه العراق كي يتعلم من تجاربهم .. ان زعيما واحدا مهما اوتي من القوّة والفذلكة ، لا يمكنه لوحده ابدا ادارة مشكلات العراق ، وعليه ان يؤسّس طاقما من امهر العراقيين مهما كان دينهم ، او طائفتهم ، او انتماءاتهم السياسية والاجتماعية .. كي يعتمد عليهم في حكمه .. وسنرى عند ذاك ، كيف سيخرج العراق من ورطته . فهل سيتحقّق هذا الحلم ؟ انني اشك في ذلك !
1711 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع