أ.د. سيّار الجميل
كلمة الاستاذ الدكتور سيّار الجميل في الامسية الخاصة التي عقدت في نادي السلام بمدينة تورنتو الكندية مساء يوم 15 ديسمبر / كانون الاول 2013 ، لمناسبة مرور نصف قرن على رحيل الفنان الكبير الاستاذ ناظم الغزالي ، وقد القتها نيابة عن الدكتور الجميل السيدة اميرة بيت شموئيل :
ايها الاصدقاء الاعزاء
اسعدتم مساء ، وانا اخاطبكم من وراء البحار .. احييكم جميعا تحية كبيرة ، ، وأحي امسيتكم الجميلة ، واحيّ فيكم هذه البادرة العراقية الحضارية الرائعة التي تحيون فيها ذكرى مرور نصف قرن على رحيل اشهر مطرب عراقي في القرن العشرين ،
نعم ، مرت قبل ايام ذكرى مرور نصف قرن على رحيل اشهر مطرب عراقي في القرن العشرين ، انه الاستاذ الراحل ناظم الغزالي - رحمه الله - ( 1921- 1963) فنان العراق الاول بلا منازع ، والذي كان وسيبقى صوته الشجي مغردا على امتداد ازمان طوال ، لقد حمل الرجل ارث العراق الثقيل في الغناء مترجما منتجات عباقرته منذ الاف او مئات السنين .. لقد وقفت الاجيال في القرن العشرين امام رمز فني اجتمعت تحت مظلته كل مجتمعاتنا على امتداد وطن عربي كبير بين كازابلانكا الى الكويت ، واتفق الناس على محبتهم له ، ولكنهم اختلفوا على كل الاشياء الاخرى ..
.. نحن ايها الاصدقاء الاحبة امام ايقونة عراقية ملأت الدنيا وشغلت الناس ، واجتمع تحت رمزيتها كل العراقيين الذين كانوا وما زالوا – ايضا - يختلفون على كل الاشياء ، ولكنهم لم يختلفوا علي ناظم ابدا .. اننا نقف اليوم ازاء ايقونة عراقية حقيقية ملئت الدينا وشغلت الناس طويلا .. وسيبقى اسم ناظم الغزالي علامة فارقة يستدل بها الناس على زمن توهج فيه العراق وسطعت في ارضه اللالئ والمحار ، وازدحمت في سمائه النجوم والاقمار ، وتجمعت في عاصمته بغداد وبقية مدنه العريقة نخب المثقفين والمبدعين من ادباء وشعراء رياديين ، ومن فنانين ومطربين مبدعين ، ومن مسرحيين وتشكيليين .. وكثرت الجماعات والتشكيلات والمنتديات وخصوصا في الخمسينيات التي تعتبر قوة العراق الثقافية وذروة الزمن الجميل .
كان ناظم واحدا من اشهر مبدعي العراق في القرن العشرين ، وما كان لهذا المبدع ان يكون ، لولا الظروف التي عاش عليها العراقيون والمناخ الحر الذي كان عليه المجتمع وهو يتطلع نحو المستقبل .. نشأ فقيرا ، وعاش عصاميا ، وتربى عراقيا متشبعا بروح بغداد ومجددا لتراثها العظيم في عهد سياسي حضاري مسالم .. فضلا عن انه حظي بالأيدي التي رعته رعاية ثقافية ، خصوصا وانه كان يمتلك موهبة فنية قوية لم تكتشف الا بعد ان انطلقت حنجرته الصادحة ، وهي حنجرة قلما حظي بعذوبتها غيره من المطربين .. كما كانت لناظم مؤهلاته ومواهبه وعشقه للشعر وتمييزه للقصائد الشعرية التي تتسامى كلماتها مع الروح والجمال والمعاني الرومانسية ..
لقد سطع ناظم مطربا عبر الاذاعة العراقية ، وبدأ الناس يعشقون صوته وينتظرون جديده .. بدأ صوته المغرد عبر الاثير يخترق الافاق العربية ، ولأول مرة يتعرف الناس على المقامات والاغنيات العراقية ويرددونها في البيوت والمقاهي والازقة .. وكانت الحفلات تتوالى ليكون بطلها ناظم الغزالي ، وكان الرجل يجدد نفسه مع الايام ، وكان يتعلم من كل القراء القدماء ، وبقي تلميذا لهم ..
التقيت به مرة واحدة في طفولتي وفي مناسبة اجتماعية ، ولم ازل اتذكر ملامحه العراقية ولهجته البغدادية القحة .. وكنا في بيتنا الكبير نقتني اسطوانات اغنياته كلها ، ومن بعد ذلك اقتنينا تسجيلات كل حفلاته العامة والخاصة ومنها حفلات اقامها في بغداد .. وكان الصديق الراحل الاستاذ عبد الباسط يونس الصحفي الشهير في الموصل ، احد اصدقاء الغزالي المقربين له ، وكثيرا ما كنت اسأله عنه ، ومما رسخ عندي ان ناظما كان انسانا عطوفا وحساسا ومتواضعا ، ويتأثر بالعبارة الجميلة والكلمة الرقيقة .. كان ذواقا ومؤدبا ويحترم الاخر ويحب الفقراء والايتام ويعشق كل العراقيين مهما كان دينهم او مذهبهم او عرقهم .. كان شاعرا ، ويعرف ما الذي يختاره من الاشعار .. ولم يعشق في حياته الا سليمة باشا التي تزوجها وعاشا معا كزوجين وصديقين وعاشقين يناجي احدهما الاخر .. لم يقف امامهما فارق عمر وزمن ولا وقف امام اجتماعهما اختلاف تكوين ودين .. ويتابع صاحبي قوله وهو يصف صديقه الاثير قائلا : كان ناظم له تواضعه ولم اجده طائشا في يوم من الايام ، وهو يدرك الشهرة التي كان قد حظي بها على امتداد الارض بين بغداد والرباط .. وكأني بناظم الغزالي ، وقد صحا من غفوته بعد خمسين سنة ، وهو يقول :
دعوني اغني للعراق
عسى لا يمسسه نار
ولا يكويه جمر .. او يؤذيه بشر
صوتي يصدح في كل مكان
منذ انشقاق انوار الفجر
حتى انحدار الشمس الحزينة
فترقص الساحرات عند السحر
ويتبتل الرهبان تحت الشجر..
ويتهادى شدوي رخيما
عبر النسيم في الملمّات
مهما تبدلّت الايام
وضج الحزن ، وطال القهر
ساريا في الليالي من بعيد
او نائحا في الصبح القريب ..
وانا على اهبة السفر
يلازمني حفيف الشجر
ويموسقني خرير ماء
يخفق قلبي بخلجات حب
وانا بين ضفاف دجلة والفرات
واشدو في الاعالي مثل طير
يبكي على وطن جميل
ذبحته العاديات
وانا في غابات سرو وحور
أعانق نخيل شاطئ منحدر
او أصدح بأغنيات العراق
من مقاطع نثر .. تذيب الحجر
من قصائد شعر
يلبسها العشاق قلائد نحر
والاغنيات تتلاقى بالذكريات
بتنزيلات ملا عثمان .. بالمقامات
مع خيوط شمس .. مع زهور قبر
في رواقات نهارات رائعة
في كل الامسيات النقية
او في جوف الظلمات
والليالي راح يرقص فيها القمر
على صفحات الفراتين
وروحي تبكي لأمر مستتر
عبرات اقسى من كل العبر
اغنيات تضج في الازقة او المقاهي
في الصبح ، في الظهر
في اويقات العصر
من نوافذ السيارات الرشيقة
سود وبيض .. خضر وحمر
تتهادى في شوارع العراق النظيفة
غسلتها الاغنيات .. فأغنياتي مطر
من زرقة العشار ، عند فوهة بحر ..
حتى اخضرار ام الربيعين ..
عند رأس الجسر
وتطرب حياة بغداد
في جنبات شارع الرشيد
او تخفق قلوب العذارى
في ضحوات شارع النهر
وفي كورنيش أبي نؤاس
يحلم الناس بالذكريات
ويسكر العشاق ويحلو السمر
سأبقى اغني للإنسان .. للحياة
مهما عتى الموج .. مهما هاج البحر
مهما طال السفر
لقد كنت قد كتبت ما احمله من انطباعات وذكريات عن الانسان الفنان ناظم الغزالي في كتابي " زعماء ومثقفون : ذكريات شاهد الرؤية " قبل اكثر من عشر سنوات .. وفي كتابتي تلك تفاصيل اكثر .. واليوم ، تحية من الاعماق ازجيها الى عشاق صوته وفنه الجميل بعد نصف قرن على رحيله المبكر .. الى كل من احب ايقونة العراق ناظم الغزالي الذي جمع كل العراقيين بمختلف اطيافهم ومللهم ونحلهم وطبقاتهم ومستوياتهم .. في الزمن الجميل .
مرة اخرى ، احييكم ايها الاصدقاء تحية من الاعماق بهذه المناسبة الرائعة التي اعادتنا ذكراها الى ذلك اليوم الكئيب من تاريخ العراق الذي افتقد فيه العراقيون احد رموز فنهم الرائع .. لقد كان العراق ولم يزل حتى يومنا هذا يخسر نجومه القديمة المتألقة من دون ان يعوّضها احد من الاجيال الجديدة .. لقد دخل العراق منذ اكثر من خمسين سنة متاهة تاريخية صعبة ، اذ حكمه العسكريون والحزبيون ودخل حروبا قاسية وعانى مجتمعه من الحصارات والانقسامات التي كرسها المحتلون الجدد حتى بات اليوم يتدّثر بالسواد ، وتلفه الكآبة ، ويسحقه الجهلاء ، ويسفك دمه المتوحشون .. وكنت اتمنى مخلصا لو طال الزمن بعمر ناظم الغزالي ، لكان اثرى الحياة العراقية بالمزيد من اروع الاعمال التي افتقدناها مذ غاب عن سماء العراق نجمه اللامع .. وبالرغم من انطفاء سراج حياته ، الا ان صوته بقي وسيبقى يصدح على مدى السنين ..
متمنيا اراكم وانتم بألف خير وتصبحون سيداتي سادتي على خير
سيّار الجميل
باريس في 10 ديسمبر / كانون الاول 2013
1616 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع