علي السوداني
سنشردُ الليلة الرائقة،من جبّ أنباء السياسة ودروبها وطرائقها ووجوهها المقرفة المنفّرة ، ومواخيرها التي صارت تُشهرُ بضاعتها الجائفة ، من دون رمشة جفن ، أو لسعة حياء .
كنتُ كرعتُ أول البارحة ، نصاً بغدادياً بديعاً فيه لذّة وبهجة وفائدة للناس القارئين . صاحب النصّ ساحَ ببغداد العباسية ، بكرخها وبرصافتها والنهر والجسر وما حولها ، حتى حطّ مثل طير زاجلٍ مشتاق ، بباب نخبة من مطاعمها العامرات بالصحة وبالعوافي وبطيب أكلات أهل الرافدين . من مطاعمها التي جاء عليها الذاكر المذكّر ، كان مطعم تاجران ، الذي لنا معه ، مائة حكاية وحكاية . في مفتتح سبعينيات بغداد الحلوة ، اشترى أبي دكّاناً صغيراً انولد عشوائياً من بدن المطعم . كان اسم الدكان " ألبان فوزي " وهو خاص ببيع اللبن بصنفيه ، الشنينة والرائب المصبوب صبّاً في كاسات صغيرة وكبيرة ، حتى يكاد الناظر إلى سطح الطاسة ، يرى دائرة دسمة مصفرة كأنها قيمر السدة ، جميل الطعم والسمعة . وقتها كان عمري يلبط عند عتبة الدرزن الأول ، وحيث أدوّنها الليلة المبهجة ، فإنَّ بمستطاعي أن أُنصت ثانيةً إلى جواكيج وطرْقات وحادلات سامي علوان العاني ، باني نفق ساحة التحرير بالباب الشرقيّ من بغداد ، بل وإلى صوت مضخات الماء النزيز الذي فاجأ الحفارون ، وهو ينزّ من بطن النفق ، قبل أن يُشفط ويُعاد ثانية صوب منبعه دجلة الخير . لمطعم تاجران بابان ، واحد مطلٌّ على شارع السعدون ، والآخر على الزقاق المزروع في مفتتحه ، دكان اللبن خاصتنا ، وحتى يكتمل بناء هذا المثلث الإستطعامي ، كان ثمة بائع شاي لصق المطعم اسمه حربي ، وجايجي آخر بمواجهة حربي واسمه شكر الكردي ، وهذا الشائب العنيد كان ينصب اوجاغ الشاي ، مستظلّاً بفيء لذيذ من أفياء عمارة مرجان المشهورة . كان جلُّ زبائن تاجران يحتسون الشاي المهيّل من تحت يمين حربي الماهرة ، إذ هو كامنٌ لهم بباب المطعم ، فلا مهرب من صيحته المدوية ، ولا مفرّ من منظر ترقيص الاستكانات بمواعينها ، أما أبي العزيز حجّي كاظم ، فكان لا يتلذذ بشاي إلّا من يد شكر الكرديّ ، وأزيد الظنّ الآن هو أنّ أبي كان قد تعرّض إلى عملية غسيل دماغ على يد الجايجي شُكُر ، الذي ربما أوهمه بأنَّ شايهُ إنما يتخدر ويتهدر ويتكسكن ويتسنكن ، فوق طقطقة حطب بلّوط السليمانية العاطر . على شاشة ذاكرتي الليلة ، تنرسم ظلالٌ باهتة لوجهَي نادلين مشهورين من ندل المطعم ، هما عباس الأقرع وعبد الرزاق الضخم وكان بوسع واحدهما أن يشيل فوق ساعده والزند ، عشرة صحون تمّن ومرق ، ويطير بها صوب ملعب الشعب ، ويراوغ كلّ دفاع فريق القوة الجوية ، ويسجل هدفاً عبقرياً بمرمى كاظم شبيب ، ثم يعود إلى الباب الشرقيّ ليوصل الرز والمرق واللحم ، إلى عتبة مكتبة جاسم المطير ، والى أوفيس حميد الأسود في الطابق الخامس من بناية مرجان العجيبة أيامها .
في دكاننا ، ثمة أكلة طيبة ومشهورة يحبها البغادلة والمتبغددون اسمها كيك ولبن ، والكيك يأتيك على نوعين اثنين هما الكيك سادة والكيك المشكّل الذي لا دراية لي في عملية صنعه ، لكنني اللحظة أكاد أشمّ رائحة زفر البيض وهي تنبعث من صينيته الملونة .
تلك كانت طقطوقة مستعجلة لسنوات بغداديات نظيفات رحيمات ، وكانت فاتحة حظّ عظيم لعائلتي المجيدة ، التي اشترت سبع دكاكين بشارع السعدون المسعدة أيامه ولياليه ، وكان القدَر رحيماً ودوداً عطوفاً ، كي تصير العائلة الرائعة ، واحدة من عوائل بغداد الغنية ، لكنَّ أياً من هذا لم يحدث ، ليس بسبب من سوء الطالع والتوفيق ، بل هو بسبب أنّ تلك العائلة المسترخية التي كانت تستهلك نصف كمية الضحك ببغداد ، كانت عبقرية جداً في شغلة إفساد تجارتها ، وإغراق مراكبها ببطن بحر أظلم ههههههههههههههههه
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عمّان حتى الآن
1804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع