عبدالله حبه – موسكو
الفنان محمود صبري وعبدالله حبه في "ميدين هيد"
أجد نفسي مضطراً للعودة الى الحديث عن نظرية "واقعية الكم" للفنان الراحل محمود صبري، بعد ان قال لي احدهم تلميحاً بأنني لا اتفق مع الفنان في طروحاته بصدد هذه النظرية . إنني اعتبر ان القائل قد ظلمني حين أطلق هذا الحكم لأنني كنت ولا أزال اقف في صف الفنان محمود في ولوجه الدرب الوعر لـ" واقعية الكم". والحق انني منذ ان تسلمت في عام 1971 مظروفاً من براغ تضمن "البيان" الذي اطلقه الفنان من منفاه هناك بشأن الدخول في متاهات فيزياء الكم وربطها بالابداع الفني، كنت اضرب اخماسا باسداس في دوافع انقلابه المفاجئ من الواقعية الرومانسية الثورية، التي ميزت لوحاته حتى ذلك الحين، الى اسلوب لم يطرقه احد غيره من قبل. ولكن الامور اتضحت لي لاحقا حين اشار محمود في احدى رسائله لي الى ان "الفنان يموت اذا كرر نفسه"؛ أي يبقى يراوح في مكانه في العمل الفني. فقد رسم الفنان محمود لوحاته في بغداد ومن ثم في موسكو وبعد ذلك في براغ تحت تأثير اوضاع المجتمع العراقي الذي بدأ لتوه ينتقل من العلاقات العشائرية الى علاقات مدنية أكثر تطوراً. وكانت الطليعة الثورية من ابناء الشعب تتطلع الى بناء " وطن حر وشعب سعيد". وناضلت وقدمت التضحيات الجسيمة في سبيل ذلك. وقطعت القوى التقدمية شوطاً طيباً في هذا المنحى حتى وقوع انتكاسة انقلاب 8 شباط المشؤوم عام 1963. واضطر الفنان بعدها الى البقاء في المنفى في اوروبا حيث عاش في اوضاع مختلفة تماماً سياسياً واجتماعياً وثقافياً بالرغم من الاحتفاظ بجذوره القوية مع الوطن.
وكان لابد من حدوث هذا التحول المفاجئ في ابداعه الفني ، واذا لم تكن "واقعية الكم " فلربما ابتكر الفنان واقعية أخرى واسلوباً آخر له مفاهيم أخرى وتسمية مغايرة. لكن تطوره الفكري كان يملي عليه ايجاد شئ جديد في الفن. لاسيما انه كان يتمتع ليس كغيره من الفنانين بالحرية الكاملة في اختيار الاساليب والنظريات لأنه لم يكن من المنتفعين ولم يكسب رزقه من بيع اللوحات مما يضطره الى مسايرة حاجات سوق اللوحات الفنية كما هي حال كثير من الفنانين الآخرين. وحسب علمي ان اللوحات التي باعها في حياته الفنية كلها ربما تعد على الاصابع ، وقد اهدى الكثير من اللوحات الى الاصدقاء.
وعندما بدأ محمود صبري يعيش في ظروف المجتمع الاوروبي، تغيرت نظرته الى كثير من الامور بالرغم من تمسكه بالفكر الماركسي كالسابق . علما ان الفكر الماركسي تعرض نفسه الى الكثير من التعديلات تحت تأثير التغيرات في العلاقات الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي ، حيث لم يعد للصراع الطبقي ونضال البروليتاريا ذلك الدور في الحياة السياسية. ودخل المجتمع البشري مرحلة جديدة في تطوره. وبدأت بوادر افكار "المجتمع الاستهلاكي" بالنمو في البلدان الصناعية المتقدمة وبممارسة تأثيرها في تشكيل اتجاهات الثقافة. واصبح الفن في اواخر القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين خاضعاً لمتطلبات المجتمع الاستهلاكي، ويقدم الخدمات اليه وتغيرت القيم الجمالية نفسها. ولم يعد وجود للبرولتياريا الثورية التي تحدث عنها الماركسيون وأمنوا بأن توليها السلطة سيحل جميع مشاكل المجتمع البشري وفي مقدمتها ازالة الطبقة البرجوازية الاستغلالية من الوجود واحلال المساواة بين البشر ووضع حد لغريزة التملك والاثراء على حساب الآخرين. وصار الحديث يتركز في العالم المعاصر على حرية الفرد وحقوق الانسان والديمقراطية على الطراز الغربي، وغير ذلك من القيم التي يحاول الغرب " المتحضر " فرضها قسراً في عصر " العولمة" على جميع شعوب العالم دون مراعاة مراحل تطورها التأريخية. اما مكافحة مشكلة الفقر والجهل والمرض فلا تحتل المرتبة الاولى من اهتمام الغرب الرأسمالي خشية الاضرار بمصالح اساطين المال الذين يسيطرون على مقدرات الشعوب ويكسبون المليارات على حسابها. علما ان الماركسية لم تكن ابداً عقيدة جامدة وطبقت في البداية في ظروف المجتمع الصناعي وعندما انتصرت الثورة في روسيا البلد المتخلف صناعياً نسبياً في مطلع القرن العشرين تحولت عن مسارها الاصلي وتراجعت عن قيمها الاصلية، وأصيبت بانتكاسة. والآن بعد ان اصبحت روسيا دولة رأسمالية نجدها تمضي في مسار تلبية متطلبات المجتمع الاستهلاكي . ويؤثر ذلك كثيرا في ميدان الثقافة، وتزحف ثقافة الكسب في جميع المجالات بعد ان لم يعد الكاتب والفنان حراً بل يخضع لمتطلبات السوق. ويلاحظ ذلك في السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وكذلك في الادب. ونجد الفنان المعاصر يبتعد لحد ما عن الاحتجاج على الظلم الاجتماعي . وتغيرت القيم الجمالية أيضاً.
من المعلوم ان المجتمع العراقي في فترة الخمسين عاماً الاخيرة لم يكن المجتمع ذاته الذي عرفه محمود صبري حين غادر العراق في مطلع الستينيات. ولم يشهد الفنان عن قرب ماحدث للعراق في فترة الحكم الدكتاتوري وما بعد الاحتلال الاجنبي. وتابع من منفاه القسري تراجع المجتمع العراقي بخطوات حثيثة صوب القهقرى إلى تقاليد البداوة واحتقار المرأة وانتشار الامية وسيادة الفئات المنحطة فكرياً في اجهزة السلطة سواء قبل الاحتلال او بعده. وترك ذلك تأثيره في الثقافة التي لم يعد لها اية قيمة في بلاد كانت مهد الحضارات. والغريب ان الفنان العراقي اليوم لا يجسد في اعماله مأساة سجن ابو غريب ومظاهر الاحتلال التي نقلتها وسائل الاعلام، ولا مظاهر تسلط الطائفية في العلاقات الاجتماعية ناهيك عن الفقر والجهل والخراب في المدن والقرى. ويتراءى لي من متابعة ما ينشر حول غالبية الفنانين التشكيليين العراقيين المعاصرين واعمالهم ان دور الفنان الاجتماعي قد تراجع، ولم يعد الفنان شاهداً على العصر مثل الفناين الكبار الذين دخلوا حومة النضال من اجل العدالة الاجتماعية مثل دوميير الفرنسي وغويا الاسباني وبيكاسو والفنانين المكسيكيين وغيرهم، كما كان حال العديد من الفنانين العراقيين في الخمسينيات ومنهم محمود صبري . ويبدو ان المفاهيم الجمالية الجديدة في الفن اصبحت خاضعة للاقتصاد اللبرالي وتداخل عنصري الفن والنقود. وفي هذه الحالة تصبح حرية الفنان في التعبير معدومة تقريباً، ولا يمارس الفنان أي دور في سيادة الديمقراطية الحقيقية والتنوير الاجتماعي.
ان دور الحكومات في مختلف البلدان المتقدمة اصبح مرتبطا بمصالح النخبة المالية التي هدفها كسب المال من اقامة الفعاليات الفنية وتنظيم المعارض بدعم اعلامي قوي عبر الاذاعة والتلفزيون والانترنت. كما أن هدفها يتحدد في استغلال التراث الفني من أجل كسب المزيد من الربح. وتحول الفن الى سلعة مثل السلع الاخرى من ملابس واحذية ومواد تجميل ومواد غذائية. فالنخبة المالية ذات المستوى الثقافي المنحط تقدم على شراء اللوحات من اجل بيعها لاحقا بمبلغ اكبر وتحقيق الكسب المادي. ان الملياردير الروسي رومان ابراموفيتش القاطن في لندن يشتري لوحات الانطباعيين وفناني الافانغارد الروس دون ان يفقه شيئاً في الفن، فهو لم ينه الدراسة حتى في المدرسة الثانوية. ووجد نفسه فجأة من الاثرياء في عهد سيطرة اللبراليين الروس في عهد يلتسين على جميع المرافق الاقتصادية الكبرى للبلاد. واعتقد ان " هواة الفن" من شيوخ الخليج ينظرون أيضاً الى سيزان ومانيه وفان كوخ النظرة نفسها.
ووجد محمود الفنان والمفكر نفسه حتى في صومعته وحياة النساك التي فرضها على نفسه في براغ غارقا عن بعد في خضم كل هذه التغيرات سواء في بلده او منفاه. وشاهد ما احدثته "العولمة" من تشويه للتراث الفكري الانساني وسيطرة الرأسمال على سوق الفن. وبدأت الضغوط التجارية على الفانين والمؤسسات الثقافية عموماً. وظهرت فئة "السماسرة" التي تقرر أي فنان يبرز واي فنان يطويه النسيان ، باستخدام وسائل الاعلام وحتى المطاعم والمقاهي في الترويج للاعمال التي تجلب الربح. وتغيرت حتى المفاهيم الجمالية (الاستيتيكية) . لكن محمود رفض السير في هذا الدرب البعيد عن مفاهيمه الفلسفية التي ترسخت لديه منذ شبابه وفي أثناء الدراسة في بريطانيا. وجدّ محمود صبري في البحث للخروج من مأزق " التكرار" الذي بات يهدده. وهدته مطالعاته الكثيرة الى فكرة وجوب تصوير الطبيعة الأخرى غير المرئية؛ أي عالم الذرات والجسيمات والكواركات والنيوترونات والبوزونات وغيرها التي لا يراها الانسان بالعين المجردة. علماً انها تمارس تأثيرها في حياة الانسان والكون عموما في كل لحظة. وعندئذ لم يعد محمود صبري فناناً عراقياً يصور حياة الانسان العراقي البائس وتطلعه الى مستقبل أفضل، بل دخل في طور العالمية في ابداعه لكن خارج نطاق " العولمة". فقد بقي فناناً حراً في التعبير وطرح المفاهيم الجمالية التي يؤمن بها. انها ظاهرة نادرة في أيامنا وتذكرنا بإصرار جوجان وفان كوخ على السير في طريق ابداعي مخالف للمنحى السائد في سوق الفن الباريسية، ورفض النحات رودان الانصياع الى ارادة معهد الفنون حين رفض قبوله فيه للمرة الثالثة.
ان غالبية الباحثين في أيامنا يتطرقون الى مصطلحات مثل التحديث والحداثة وما بعد الحداثة في وصف اعمال هذا الفنان او ذاك. علما ان الاصلاح الاستيتيكي في الفن التشيكلي قد بدأ في باريس منذ ايام اقامة " معرض المرفوضين" في عام 1863، الذي اعتبر بداية عصر الحداثة. واليوم يدور الحديث عن عصر ما بعد الحداثة الذي يرمز الى مرحلة جديدة في التطور التأريخي. ان الزائر الى المعارض الدولية والمتاحف الكبرى مثل بينالي البندقية وبينالي موسكو وكاليري " تيت مودرن" ومتحف الفن الحديث في نيويورك وغيرها يصدم عند مشاهدة تراكيب عجيبة من حطام الاثاث او مجموعة من الاحذية العتيقة واواني الخزف المحطمة ومقاعد المرحاض التي تقدم للمشاهد على انها ابداع فني. ولا يجد المشاهد أثراً لتذوق عنصر الجمال الذي ولد لدى الانسان منذ ان غادر الكهوف وشاهد فجأة جمال الطبيعة والزهور والطيور والحيوانات وخلدها لاحقاً في أعماله. ربما ان تذوق الجمال صفة تميز الانسان عن الحيوان. وهنا يطرح موضوع العلاقة بين الفن والجمال ، بالرغم من ان تذوق الجمال شئ نسبي يختلف بإختلاف الخلفية الثقافية للانسان ونضوجه الفكري. ان فن ما بعد الحداثة يثير الكثير من التساؤلات لدى الانسان العادي الذي اعتاد على رؤية الاشياء الجميلة في زهور حديقة المدينة او الزخارف في اثاث بيته ومحتويات المطبخ وملابس زوجته. ان الانسان حين يذهب للمتجر لشراء حاجة ما يعتمد على ما يتمتع به من احاسيس تذوق فني.
وعندما اردت دراسة نظرية واقعية الكم التي اوجدها الفنان محمود صبري وجدت صعوبة في نسبها الى مصطلح ما بعد الحداثة . فقد ظهر هذا المصطلح في اعوام السبعينيات ( أي في الفترة التي اعلن فيها محمود "بيانه " الشهير في عام 1971) ، وكان الهدف منه كما يبدو رفض " الثقافة الجماعية " ونبذ المفاهيم الميتافيزيقية في الفن. علما إن غالبية الاعمال الفنية التي ظهرت في الغرب وفي الشرق ايضا في هذه الفترة لا تعكس حرية التعبير الفني التي يصبو اليها الفنان في كل زمان ومكان. ان علاقة الفنان محمود صبري بالطبيعة المرئية او غير المرئية انما تجسد علاقة جميع الفنانين بها على مر العصور. فالانسان قد تميز عن الحيوان عندما لم تعد اهتماماته تقتصر على البحث عن الطعام سواء بالصيد او الزراعة والامر الاهم الحفاظ على نوعه حين بدأ بتذوق الجمال. ان انسان الكهوف كان اول من مارس مهنة الرسم للتعبير عن موقفه من الطبيعة لاغراض نفعية معيشية او دينية كما في الحضارات القديمة. واستغل الانسان العلم وكذلك الفن في جعل حياته المعيشية أفضل سواء بالاختراعات ام في العمارة والزخرفة، كما نلاحظ ذلك فيما خلّفه الفراعنة والاشوريون والبابليون والاغريق وغيرهم من ممثلي الحضارات القديمة. وكانت جميع اعمالهم تمثل محاولة لفهم الطبيعة سواء في التصوير او النحت او الموسيقى والعمارة. واقتبس الانسان الكثير من الطبيعة لدى ممارسته الابداع الفني. وفي الواقع اصبح الفنان وسيطا بين الطبيعة والبشر. واحتاج لتحقيق هذه الوظيفة الى المهارة والمعرفة والخيال التي تعتبر من العناصر الاساسية في العمل الفني. وركز محمود صبري على عنصر الخيال في الابداع، حيث تتراكم في ذاكرة الانسان الصور لكنه لا يراها بصورة كاملة ويتولى الخيال مهمة استكمالها. وكما قال "كانط" فان الجميل في الطبيعة هو غير الشئ الجميل من صنع الانسان.
وعندما اعلن محمود صبري بيانه حول "واقعية الكم" تخلى في الواقع عن الكثير من مفاهيمه الجمالية السابقة كمفكر وفنان ماركسي النزعة، ولاسيما في تعريف الجمال نفسه. واعتمد تفسير هيجل له بأنه يمثل المطلق في الوجود الحسي وبأن جمال الطبيعة يختلف عنه في الفن. ان هيجل اكد على انه ينبغي على الفن ان يتخذ مهمة اخرى غير المحاكات الشكلية للطبيعة. كما ان الوظيفة الاجتماعية للفن قد تغيرت لديه في كونه لم يعد وسيلة دعائية بهدف ايقاظ المشاعر واتخاذ موقف من البؤس والظلم وكافة شرور المجتمع. وحسب رأي محمود صبري فأن ظروف المجتمع قد تغيرت وادخلت العولمة تعديلات على المفاهيم الايديولوجية السابقة ولاسيما زوال الصفة القومية في الابداع الفني. ان الفنان الاوروبي والصيني والهندي والامريكي يستخدم اليوم الوسائل ذاتها تقريبا في التعبير عن الذات. ولذا لا يمكن نسب لوحات محمود صبري التى انجزها بعد اعلانه واقعية الكم الى الفن العراقي الخالص مثلاً. كما ان غالبية الفنانين العراقيين البارزين يلجأون الآن إلى التجريد أكثر من تجسيد واقع المجتمع العراقي او الطبيعة العراقية، ويستخدمون في ذلك بعض الرموز المميزة لبلادهم من زخارف وحروف وهلمجرا.
الطين
ولابد من الاشارة ايضا الى ان واقعية الكم لم تصبح مدرسة فنية جديدة، لأن الفن في أيامنا يتسم بصفة فردية بحتة ويعتبر كل فنان بارز مدرسة قائمة بذاتها يمثلها وحده. وكان الفنان ضياء العزاوي على حق حين قال لي مرة ان من الصعب اليوم ايجاد مدرسة فنية ما تنسب الى شخص معين. وقد ولى ذلك الزمن حين استحدث بيكاسو وبراك التكعيبية وتبعهما العديد من الفنانين في تقليدهما. لكن نُسيت اسماء اكثرهم وبقي اسم بيكاسو وحده لأنه عبقري عبر مختلف المراحل في مشواره الفني . وعبثا ان يحاول بعض الفنانين تقليد نهج "واقعية الكم"، لأنها من ابتداع فنان كبير ينتمي الى قاعدة فكرية معينة في فترة زمنية معينة. والشئ الاهم انه فنان حر غير مقيد بمتطلبات السوق وضغوط العولمة. حقا ان الفنان في العالم سيتحول ان عاجلا او آجلا الى تصوير الواقع "الآخر" الذي لا تراه العين المجردة. ولو انه سيستخدم الوسائل الحسية التقليدية. لكن يبقى "البحث" ديدنه في الابداع. وهذا ما كان يردده محمود صبري دائما لدى تقييمه اعمال الفنانين الآخرين. فكل فنان أصيل يتبع مجاله في البحث الذي يقوده إلى ابتكار شئ جديد.
وقد راجعت لدى تقييمي لواقعية الفن ليس ما كتبه المؤلفون الآخرون وحتى ليس ما ورد في بيان الفنان نفسه، لأن الامور واضحة تماما هناك . وطالعت مرة آخرى الملاحظات التي سجلتها في دفتري في ليلة أمضيتها مع الفنان في شقته بضواحي لندن. فقد تحدثنا آنذاك عن أمور كثيرة، عن معارض الخمسينيات ولوحته في " الانتظار " التي قال إن جواد سليم قد سبقه في تناول هذا الموضوع، وكذلك الحديث عن الاصدقاء من اعضاء جماعة الرواد وكذلك عن المشاركة في تحرير الصفحة الثقافية في جريدة " اتحاد الشعب". كما استرجعنا الذكريات عن موسكو ومتاحفها ومسارحها والقسم الداخلي لطلاب المعاهد الفنية وساكنيه من فنانين روس واجانب.
وقال محمود ان الفن كالعلم يجسد حقيقة موضوعية، ولابد من ان يدعم الفن بالعلم. وإن الفنان وسيط بين الطبيعة والبشر نتيجة تراكم الصور وهو يشكلها في خياله. ويعتمد الفن على ثلاثة عناصر هي المهارة والعلم(المعرفة) والخيال. وكان ليوناردو دافنشي من اكثر الفنانين اهتماماً بربط العلم والثقافة عموما بالفن. وفي اليونان القديمة كان سقراط نحاتاً وافلاطون شاعراً وارسطو ناثراً لا يشق له غبار. وكانت التربية الفنية ضرورية في المجتمع اليوناني، وقد أعطى ذلك ثماره في روائع الحضارة اليونانية القديمة من آثار معمارية ومنحوتات ونقوش جدارية. وحسب قوله فانه يأمل ان يأتي اليوم الذي يتعاون فيه الفنان والعالم في صنع لوحة جدارية ما. فالانسان لا يرى الاشياء بصورة كاملة ويتولى الخيال مهمة استمكالها. ان غويا لم يعرف الذرة واكتفى بتصوير الواقع الموجود امامه، ولكن من وجهة نظره في النقد الاجتماعي. وأراد الفنانون الانطباعيون ابراز اشياء لا يهتم بها الانسان العادي لأول وهلة. فأظهروا الطبيعة من وجهة نظر الفنان. طبعا ان الفن يتسم دائما وفي مختلف العصور بصفة دعائية سواء في ابراز القيم الجمالية(الانطباعية) ام لدعم وجهة نظر دينية ( الايقونات) أو سياسية (صور دومييه الكاريكاتيرية ولوحة بيكاسو"غورنيكا")مثلا.
ويؤكد محمود صبري ان واقعية الكم تحاول اعطاء صورة للطبيعة كما يفهمها الفنان خلال دراسته للتفاصيل التي يعطيها العلم عن الطبيعة. وقال لي لدى محاولتي الاشارة الى ان العمل الفني يجب ان يكون قريباً من فهم المشاهد العادي: "ان العملية الابداعية في جوهرها محاولة محاكاة الطبيعة، إنها الانتقال من المحاكاة الظاهرية الى خلق طبيعة ثانية، وهذا ما نسميه وحدة العلم والفن. والفن المعاصر يرمي الى انجاز مهام آنية تتبعها مهام اخرى ترتبط بها. وفي القرن العشرين امكن اختراق المستوى الذري والتحول الى العمليات نفسها وليست مظاهر الطبيعة فقط. ومنذ ان ظهر الانسان الى الوجود قبل حوالي المليوني سنة كان يحاكي مظاهر الطبيعة. والآن اخترق العملية وبلغ تركيب المادة نفسه، ومضى ابعد من ذلك في التوغل الى أعماق جوهر الطبيعة. هذه العملية لن تنتهي ما دام يوجد بشر. وانا، والحديث لمحمود صبري، لا اتفق مع من يقول ان الفن في مأزق. فجميع الفنون تقوم دوما بمحاولات متجددة لاظهار جوهر الطبيعة في العمل الفني. ولم يعد وجود للقول ان الشكل تعبير عن المضمون. ودخل الانسان عوالم عميقة للمادة . والفن يتحرى المادة بوجودها كأجسام . اما العلم فيتحرى المادة بشكل اكثر عمومية – اي في العلاقات الكونية. لقد اراد ليوناردو دافنشي معرفة المادة عن طريق تشريح الاجسام . بينما بحث نيوتن علاقات المواد ببعضها البعض. ووصل التحري الآن الى درجة لم يعد فيها هناك فصل بين تحري المادة وتحري الجسم. المادة عبارة عن اطياف متداخلة. وبدأ البحث عن الطاقة وليس عن كتلة المادة. العلم والفن يسيران في اتجاه ترابط العلم والفن في العمل المشترك لتحري الطبيعة. والعلم يتحرك في اتجاه تحري القوانين العلمية للطبيعة والفن يتحرك بإتجاه كشف القوانين الجمالية".
وأضاف محمود صبري قائلاً :" أنا آخذ الكون كظاهرة واحاول تفسيرها وفق معادلة اينشتين حول العلاقة بين الكتلة والطاقة. ولهذا درست الطيف الشمسي وخصائصه. هناك طاقة تمثل الكون وتتجسد في الطيف وهي تعادل الكتلة حسب اينشتين. صورة ذرة الهيدروجين توجد بشكل اطياف وكذا جسيمات دقيقة. وحين رسمتها خلقت هذا الانسجام . بهذا استطيع تبرير موقفي من وجود انسجام في الطبيعة. علما ان العلم توصل الى معرفة هذه العلاقات بين الكتلة والطاقة قبل الفن بوقت طويل".
وعندما قلت له ان لوحاته تبدو لغير العارف بوجود نظرية الكم وكأنها مجرد لوحات تجريدية قال:
"أنا افهم التجريد بشكل آخر. فالطبيعة تقرن تشكيلاتها دائماً بوظائف معينة وليست بشكل زخرفة لا معنى لها. كان الفن التجريدي كما ابدعه بول كلي وكاندينسكي في مطلع القرن العشرين يحاول تقليد الجوانب الشكلية للطبيعة وكانت له قيم وظيفية وليست جمالية. هذا بالرغم من ادعاء كاندينسكي انه يرفض الطبيعة كلياً، لأن الاشكال التي يرسمها والالوان التي يستخدمها مستوحاة من الطبيعة اراد الفنان ذلك أم أبى . وانا اعتقد ان للفن قيمه الوظيفية دائماً. وستتحدد هذه القيم في مرحلة تالية بالنسبة للفن التجريدي. ولا يوجد فرق بين فن الجداريات وفن الصالونات من حيث القيمة الجمالية.
وبصدد الهوية القومية للفن في واقعية الكم قال الفنان:" لاتوجد فروق في فنون الشعوب الآن. في بلدان الشرق ومنها العراق تأثر الفنانون بالتيارات الفنية الاوروبية. وتتجه الحركة الفنية كلها في العالم الآن نحو التجريد، مما يدل على ان الظروف القومية المحلية لم يعد لها تأثير بحكم وجود التلفزيون والانترنت. لم تعد هناك فوارق محسوسة بين مناطق سكنى الانسان. وصار هناك تقارب بين الحضارات. ان المعارف التي تظهرفي امريكا يعرفها العالم كله ... في اليابان والهند.....في اليوم التالي. اليابان اخذت الكثير من التكنولوجيات الحديثة، لكنها تخلفت عن الغرب اجتماعياً، وبرز ذلك في تطور الفنون لديها. الفوارق القومية في الفن ستزول ... ولا توجد سيطرة طبقية، والمستقبل للمجتمع اللاطبقي الذي تتوجه اليه البشرية. وستظهر في المستقبل تراكيب اجتماعية متماثلة في كل مكان بشكل مباشر وفعال. ان البشرية تمضي نحو تجاوز المجتمعات الطبقية".
وعندما سأته عن تطبيق واقعية الكم في النحت قال:" انه لم يفكر في ذلك اصلا. والنحت له خصائصه الهندسية. وواقعية الكم تنطلق في الاساس من ان الاجسام ذات كتلة لها سماتها الشكلية واللونية. وفي الواقع الذري يتم الانتقال من الكتلة الى الطاقة. وكل مادة تعطي كمية من الطاقة بقدر نسبة كتلتها. وانا في لوحاتي انتقل من رسم الكتلة الى رسم الطاقة. ووجب علي اختيار الشكل الذي سأستخدمه في ذلك. وعندما اختار اي موضوع للتعبير استخدم الوحدات المسماة ( الكمات) أي وحدات الطاقة التي يمكن قياسها والتعبير عنها ظاهرياً بما يعادلها من وحدات الطاقة التي لا تفنى ولا تستحدث. وكل ذرة تنطلق منها ابان تفاعلاتها وحدات معينة .. كأن تشع وحدات حرارية مثلا. ولكل واحدة منها طول موجة معينة. ويوجد لدينا جدول العناصر الذي يضم كافة حجوم الطاقة المنطلقة من الذرات. وبعضها يكون بشكل ألوان (طيف) وبعضها بدون الوان ولا ترى بالعين المجردة. بينما يمتد الطيف لمساحة واسعة من المناطق المرئية الى المناطق غير المرئية. ولكل وحدة طيف موجة معينة، وترى فقط في المنطقة التي تقترب فيها. اذن فالنحات لن يستطيع التعبير عن فكرته بواسطة واقعية الكم اللهم الا اذا استخدم مواد معينة كالاسلاك او قطع الخشب او الحبال الملونة. وهذا لا يعتبر نحتاً عندئذ بل هو تركيب. في النحت لا يوجد تكامل مع الضوء".
ذرة الهيدروجين
ومضى محمود قائلا في تفسيره لعمله الفني:" انا شخصياً اردت التعبير عن الذرة . الكتب العلمية تتضمن الاشارة الى نقطة هي النواة وحولها دوائر، وفي كل دائرة توجد نقاط اخرى هي الالكترونات ولها مدارات معينة حول النواة. انا خذت الضوء الذي تشعه الذرات. وكل اشعاع من الذرة يختلف عن اشعاعات الذرات الاخرى. وفي كل ذرة مجموعة اطياف مميزة لها وتحسب مختبرياً. وواجبي كرسام هو تصوير التفاعالات الجارية في الطبيعة، والتي كان الرسام حتى الآن يأخذها جاهزة ظاهرياً من الطبيعة. وكان الرسام يرسم التفاعلات اعتماداً على الضوء في الاساس. اما الآن فانه يتجاوز الكتلة إلى العمليات الذرية التي لا ترى بالعين المجردة. ان فن المستقبل هو فن مرتبط بالنشاطات العلمية المختبرية التي تمدنا بالمعلومات لفهم العالم الذري، وعلى سبيل كيفية رسم ما يدعى اللف (spin ) في ميكانيكا الكم. وانا لم اتناول بعد هذه الاشياء التي لا يوجد لها طيف ملون. انا استخدم اللون الاسود احيانا لرسم الاشياء غير الطيفية. وكل فنان له رؤيته حيال تركيب الذرة . ولا يمكن ان يرسم كل فنان الذرة بشكل مماثل لفنان آخر".
وعندما سألته حول موقفه من لوحاته التي ابدعها في مرحلة سابقة قال:" انني كنت ارسم الانسان. وكنت آخذ لحظة ثابتة في نشاط الانسان. والفنان حين يرسم الطبيعة يجسد
فلاحة
لحظة معينة منها. وكنا مجموعة من الفنانين من جماعة الرواد نذهب كل يوم جمعة ومعنا مواد الرسم والطعام الى جزيرة أم الخنازير حيث توجد بساتين نخيل كثيرة. وكنا نمارس الرسم هناك ورسمت انا الفلاحين. وكان الانسان في لوحاتي هو الاساس، لهذا قلما رسمت المناظر الطبيعية او الطبيعة الجامدة (still life )، لأنني كنت اعتبرها اضافة للانسان. الانسان في لوحاتي هو الاساس. وكانت التطورات الفنية في النصف الثاني من القرن العشرين مرتبطة بالاحداث السياسية والاوضاع الاجتماعية. ولهذا انجزت الكثير من الاعمال التي تعكسها لكوني فنانا ملتزما. علما انني ما زلت حتى الآن اعتبر الفن ذا وظيفية اجتماعية يخدم عامة الناس. اما الآن فالوضع يتغير ..ان الفن في مفترق طرق .. ان رسم المنظور على مستوى الحياة أدى دوره .. الفن في مرحلة بحث .. وقد انتهت مرحلة الصراعات الطبقية وبدأ الدخول الى اعمال جديدة للمادة. والسياسة تريد ايجاد حل جديد لمشاكل البشرية لمصلحة الانسان وليس ان يذبح شعب ما شعباً آخر. لقد بدأ التوجه نحو الذرة والتفتيش عن طاقات جديدة لم يعرفها البشر سابقا. وهي ستحل مشاكل المجتمع السابق. اننا خرجنا من القرن العشرين ودخلنا القرن الحادي والعشرين .. وانتهت التجارب الاشتراكية بما رافقها من اخطاء .. وكانت فترة قلقة انعكست على مستوى الفن. إن تفسيري الشخصي للاحداث اقترن بالتحولات الاجتماعية في الاتحاد السوفيتي والصين... وهي تتركز على علاقة الانسان بالمجتمع والسلطة. واليوم اصبحت الايديولوجية غير محددة ويمكن القول ان جميع مشاكلنا لها عمق ذري ان جاز التعبير.. وماركس تحدث في حينه عن الديمقراطية الانكليزية التي اعطت في حينه الحق للعمال للمساهمة في الحياة السياسية عبر الانتخابات. وحصل الانسان الاوروبي على حرية التعبير والديمقراطية. اما ستالين فقد أجرم عندما حاول فرض (الواقعية الاشتراكية) في ميدان الفن والثقافة. وهذا أدى الى تأخر التقدم في المجتمع الاشتراكي. والبشرية تتجاوز مثل هذه الاخطاء الآن ".
وقد شكوت لمحمود صبري عندئذ من ضعف النقد الفني في العراق حيث لا يوجد نقاد محترفون في الواقع فقال:" ان النقد الفني في أزمة حقاً. فهو اخفق في توجيه العملية الفنية نحو الاهداف الخلاقة. فالنقاد لم يدركوا ان الفنان يبحث عما يجب فعله لاحقاً. والبشرية عموما تريد التعمق اكثر في الواقع... وتفاعل البشر مع الواقع وتطويره لاحقا. ان جميع انجازات الفراعنة والبابليين هي محاولات لفهم الطبيعة بشكل اعمق من المراحل السابقة. وفي القرن العشرين حدثت قفزة في علاقة الانسان بالطبيعة. وكان لابد ان ينعكس ذلك في الفن ايضا. ان البشرية مرت بمراحل كثيرة من مرحلة الكهوف والصيد ثم اكتشاف الزراعة وظهور المعتقدات بوجود قوى روحية خارقة والاديان. فالالهة ظهرت في مرحلة الاستقرار الزراعي. وتفاوتت مستويات تطور المجتمعات في العالم من منطقة الى أخرى. واختلفت مستويات تطور الثقافة ومنها الفنون. لكن الآن بدأت البشرية بالتقارب وتصبح الثقافة والفنون عالمية تدريجيا وليست لها صفات قومية".
لقد اعلن أحد العراقيين في حفل تأبيني اقيم بموسكو بعد وفاة الفنان ان محمود صبري وضع نفسه في مأزق حين طرح نظريته وتطبيقاتها بشكل لوحات، لأنها لا تجد صدى لدى المشاهد العراقي بشكل خاص. وفي الواقع ان النوابغ من الرجال ومحمود أحدهم يتجاوزون عادة المرحلة الزمنية لمجتمعاتهم. وقال الفنان فائق حسن مرة لطلابه في معهد الفنون الجميلة في تعليقه على اعمال الفنانين في الخمسينيات :" احنا ما زلنا نخيط لحف!"، في اشارة الى ان الفن في العراق ما زال في المرحلة الجنينية. ان محمود صبري قد تجاوز المرحلة الاقليمية المحلية الى المرحلة العالمية لأنه كان مفكرا وفيلسوفا قبل ان يكون فنانا. ومن الصعب الآن اعطاء حكم قاطع حول مكانة ابداعه الفني في مسيرة الثقافة العراقية. ان مشكلة محمود صبري (الباحث الاجتماعي في الاصل) انه كان ينظر الى مسيرة التطور الاجتماعي نظرة ابعد مدى من نظرة الآخرين لها. وعندما كان يجلس في صومعته ومكتبته في براغ ويتأمل في احداث المنطقة العربية ووطنه يستخلص استنتاجات حول مستقبل الثقافة فيها تختلف عما يصل اليها الآخر. انه يذكرني بنابغة عراقي آخر هو علي الوردي الذي كان يتنبأ مسبقاً بما سيجري للمجتمع العراقي، وشخص جميع امراضه وطرح الدواء الشافي منها. وتبقى مؤلفاته شاهدة على تنبؤاته. ان واقعية الكم قد دخلت المعاجم الفنية باعتبارها مرحلة متقدمة في تطور الفن التشكيلي.
1752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع