كمال يلدو
الأعلامي سلام رومايا ولـد في الأعدادية الشرقية
لأنـه أصيل، فقد بقى امينا لتلك الأرض التي روته من حنانها، ولناسها الخيرين ولكل ارثها الفني والثقافي، ولأنه هكذا فقد اختار لمجلته والتي ستصبح لاحقا توأم روحه، اسما من تأريخ وادي الرافدين العميق، الحضارة التي اخترعت اولى الآلات الموسيقية وقدمتها للبشرية على طبق من ذهب، العود، الطبلةـ الدف ، الطبل والقيثارة.
فمنذ 28 عاما وضع السيد سلام رومايا قدمه وخطى اولى الخطوات في طريق الأعلام والنشر، هذا الحقل الممتع والمتعب مستشهدا بعبرة قالها يوما الملاكم محمد عي كلاي:"هذا الذي لايملك الشجاعة الكافية لمواجهة التحديات والمخاطر، لن يقوى على تحقيق اي شئ في الحياة". كانت هذه رؤيته وهو يتلمس طريقه في بلاد الغربة التي قدم لها حديثا، بعد معاناة في الأنتظار، و والدا لأبناء مازالوا يافعين، وربما تسمى هذه الخطوة بالعرف العام – مغامرة – اكثر مما هي مشروع عمل.
البدايــة
لايخلو بيتا من بيوت الجالية في مدينة ديترويت الا ودخلته مجلة "القيثارة" هذه المجلة الراقية والتي تحتفل بمرور 28 عاما على ابصارها النور. بدأت بداية متواضعة لكنها رصينة، الطباعة كانت ابيض وأسود وبغلاف ملون، فيما تولى السيد سلام الأشراف في كل ما يتعلق بمرافقها من تجميع المواد والأخبار والأعلانات والطباعة والتصفيف والتوزيع والبيع، حيث كان يقوم بها وحيدا، مع بعض المساعدات الموسمية. بدأت فكرة المشروع بعدما استفسر من بعض المقربين عن الطريقة لشراء ماكنة الطباعة، فكان له ذلك، فوضعها في (سرداب) البيت، وبعد مدة من الزمن نقلها ومكتبه الى بناية مطلة على الشارع الرئيسي في ديترويت (وود ورد) ما بين الميلين السادس والسابع حيث مركز سكن الجالية آنذاك، استمر هناك حتى العام 2000 حيث انتقلت المطبعة ومكتبها الى مدينة سترلنك هايتس وهو متواصل بالعمل من هناك.
لم يكن مشروع اصدار وبيع مجلة ثقافية عامة تعني بالفن والأدب والرياضة والأخبار الطريفة والغريبة بالأمر السهل، ربما لأنشغال الناس بحياتها وأعمالها، وربما لعدم اهتمامها اول الأمر ، لكن استمرار المجلة بالصدور، والزيادة التي طرأت على عدد المعلنين اوجد لها شعبية صارت تكبر وتتنامى لتصل الآلاف، ليس في ديترويت فقط بل تجاوزت سمعتها للولايات الأمريكية الأخرى وحتى بلدان مهجرية كثيرة حول العالم ترسل لهم بالبريد.
"القيثارة" تفتح صفحاتها
على مر السنين، وقبل ظهور الأنترنيت والمواقع الألكترونية وماكينة البحث –كوكل-، فتحت "القيثارة" اذرعها لكل الطاقات الكتابية، الفتية والمتمرسة، وبداءت بنشر نتاجاتهم وتشجيعهم على الكتابة، وذات الشئ حصل مع الفنانين والمطربين والعازفين الذين وجدوا في "القيثارة" ملاذا آمنا لهم، نظرا لأنعدام اية مؤسسة تعني بالفنانين العراقين او الأدباء او حتى الطاقات الشابة الواعدة، فكانت "القيثارة"، وحسب ما اثبتت تجربة السنين، انها بارعة في مهمتها تلك. صدرت اول الأمر عام 1985 باللونين الأبيض والأسود، ثم كبرت مع ازدياد القراء والأعلانات، وتطبع اليوم في ارقى ماكينات الأوفسيت الملون ، ويصل عدد صفحات النسخة الى 280 صفحة معظمها بالورق الصقيل الملون، فيما يعدها الكثيرون مصدرا ومعينا ومرجعا للأخبار والحكايات والطرائف والمعلومات الثقافية والفنية والطبية والتأريخية والجغرافية، وبأختصار فهي حقا مجلة جامعة لا يمل من تصفحها، اما قرأها فهم من جميع الفئات والأعمار والأجناس والقوميات (متحدثي العربية)، فهي تعني بأخبار الجالية واخبار العراق والعالم العربي وحتى الأخبار العلمية والثقافية العالمية.
وعندما يتأمل السيد سلام رومايا الصعاب التي واجهها وهو يخطو اولى الخطوات يتناهى الى مسامعه مقولة الأعلامي الراحل السيد ديفد برنكلي، الذي يعد من اشهر مقدمي البرامج السياسية في قناة ام بي سي: "الأنسان الناجح، هو القادر على بناء اساس قاعدته من الحجر الذي يلقيه الآخرون عليه"ـ ويقول ، ان هذه اروع حكمة علمتنى الصبر وتحدي الصعاب والنظر للمستقبل كما احلم به.
بين خانقين وبغداد وديترويت
عن طفولته وشبابه يقول السيد سلام رومايا، انه من مواليد خانقين التي عاش فيها حتى مرحلة الثالث متوسط، بسبب عمل والده هناك، ثم انتقلوا الى بغداد، فواصل دراسته في الأعدادية الشرقية التي تخرج منها العام 1963، التحق بعدها بكلية الزراعة وتخرج منها في العام 1968، سافر بعدها للسعودية حيث درّس في مدارسها لمدة سنتين، اضطرته ظروف عائلية قاهرة للعودة للعراق حيث اصيب والده بالعمى الكلي، فتوظف كمهندس زراعي ويتذكر احد المشاريع التي كان قد عمل بها وهو " مشروع الوحدة" بالقرب من الصويرة. مع بدء الحرب العراقية الأيرانية، وتحول البلد الى ثكنة عسكرية كبرى، تطبـق على صدور وعقول الناس، قررت الرحيل مع عائلتي وكانت وجهتنا الولايات المتحدة التي كنّا قد زرناها للسياحة عام 1978 وقد اقمت في القاهرة لفترة انجاز معاملات الهجرة، وحينما اتذكر تلك الأيام لا يغيب عن بالي مشهد الكنز الثمين الذي كنت احتفظ به وأحمله معي من بغداد، وأعني بذلك مكتبتي الموسيقية، وبلا مبالغة فقد كنت مستعدا للدخول بحرب مع اية جهة كانت من اجل سلامتها، فهذي روحي وحبي وأحلامي بأختصار! اما حينما ذكر خانقين في اطراف حديثه، فقد صاحبها بحسرة عميقة ، مصاحبة لألم لما آلت اليه اوضاع المدينة وأهلها وما حل بنهر (الونــد) من انخفاض بمستوى المياه فيه وجفافه احيانا.
طريق الألف خطوة من الشرقية
وتأخذه الذكريات مرة اخرى الى بغداد، حيث اولى الخطوات في الطريق الذي ترك بصمته على كل كيانه لاحقا فيقول:عندما كنت في الأعدادية الشرقية وفي الصف الرابع ثانوي، تعرفت على احد الطلبة والذي كان خطاطا واسمه سيسـاك خاجيك، ورسام كاريكاتير اسمه عبد الرزاق احمد وجمعتنا آنذاك الشعبة (ب) فأصدرت مجلة اطلقت عليها اسم (اسبوعيات) وكانت من 40 صفحة وكلها كتابة باليد! وأستمر هذا المشروع حتى نهاية عهدي مع الأعدادية الشرقية، وكنت حينها متأثرا بمجلة (قرندل) العراقية، و(روزليوسف والصباح) المصريتان، اسلوبا ونهجا.
عندما انتقلت لكلية الزراعة تقلدت منصب رئيس نادي قسم الثروة الحيوانية ومسؤل الحفلات فيه، حيث اشرفت وشاركت في العديد من الحفلات الناجحة والتي استقدمنا فيها اشهر مطربي ذلك الزمان من امثال عفيفة اسكندر، رضا علي، لميعة توفيق، عباس جميل وآخرين لاتسعفني اللحظة لتذكرهم. لكن ومع هذه الأهتمامات الفنية لم يغب عن بالي جانب النشر والصحافة، فبعد اخذ موافقة رئيس القسم د.حسن فهمي اصدرت نشرة حائطية شهرية اسميتها (صدى الطلبة) مواصلا مسيرتي الأعلامية التي بدأتها في الأعدادية الشرقية قبلا.
في البيت تفتحت عيوني
لقد استوقفتني كل هذه الأهتمامات والهوايات والقابليات فسألت السيد سلام عن خلفية ما يحمله ، وما ان كان للعاائلة اي اثر بذلك، قال: انا مدين للمناخ والبيئة المنزلية الطيبة التي ترعرت بها، فوالدي الشماس فرج رومايا، وفي اثناء خدمته اصدر كتاب صلوات اسمه (باقة ورود) في عقد الأربيعينات مخصص لكل الآباء، اما اختي فهي شـــاعرة، وأخي حاصل على شهادة الصيدلة ، وهو كاتب ويمارس هواية الغناء، لهذا كنت ومنذ الطفولة اتابع الشعر والفن والأدب. وربما يكون من حسن حظي اني نشأت في هكذا بيئة وفرّت لي الوعي الصحفي المبكر، وأنعكس هذا في عملي مع القيثارة، حيث أقوم بأعدادا (العجينة) كما يقال، من ترتيب المحتويات، الى الأسلوب للولوج لقلب القارئ، الى العناوين وأختيار المواضيع وحتى اختيار اسماء المشاركين او اختيار الأسماء المستعارة.
طموحي لم يتوقف عند المجلة
لأني انسان طموح، وأسعى للوصول الى اذن الأنسان ربما قبل عقله وقلبه آثرت الخوض في تجربة العمل الأذاعي، وبالأستفادة مما توفره هذه البلاد من فرص للأبداع ، فقد افتتحت برنامجا اذاعيا للجالية العراقية القاطنة في مدينة ديترويت وكل ضواحيها في العام 1999 استمر لمدة 6 سنوات وأسميته (صوت القيثارة) قدمت من خلاله خيرة ما انتجه الفن العراقي وثقافته، حيث استضفت من خلاله عشرات الفنانين والمطربين وتحدثت عن كل جوانب الحياة الفنية العراقية، وكان حقا محط محبة وأعتزاز من قبل الجالية وأخص بالذكر منها، نخبها الثقافية التي وجدت في هذا البرنامج منبرا صافيا يدعو للحفاظ على الهوية العراقية عبر نشـر الموروث الفني والثقافي والأدبي العراقي. استمرت ستة سنوات، قررت بعدها الأنصراف وتركيز جهدي اكثر على عمل المجلة، اذ ان عمل الأذاعة كان يستنزفني من ناحية الوقت والتحضيرات، وكذلك في الجانب المادي، حيث كنت آخذ مما زاد من ارباح المجلة لأضعه في خدمة استمرار البث الأذاعي.
مع الفن والفنانين
يتذكر السيد سلام رومايا حكايته مع الفن بألم بالغ فيقول: ان طموحي منذ ان انهيت دراستي الثانوية لم يكن في الحقل العلمي، بل كان ادبيا، الا اني ذهبت لكلية الزراعة تلبية لرغبة عائلتي وليس لرغبتي، اذ كنت اتمنى دخول كلية الفنون الجميلة. ورغم ما احاطني من ظروف غير مؤاتية، الا ان الفرصة قـد توفرت امامي مرة اخرى بالعودة للفن عبر التقديم لأختبار معهد الدراسات النغمية، ولست مبالغا حينما اقول انني قبلت من ضمن مجموعة من 6 اشخاص نافس عليها 800 متقدم آنذاك، ومازلت اتذكر ان السيد (عبد الرزاق عبد الواحد) كان هو المشرف على الأمتحان حيث فزت في المرتبة الأولى من بين المتقدمين بالعزف على آلة العود، لم تمض على فرحتي هذه فترة طويلة، فبعد 3 أشهر اخترت ضمن بعثة زراعية الى دولة هنكاريا، وما كان مني الا ان اترك (هوايتي) الموسيقية والتحق بعملي الوظيفي، ليكون ذلك آخر فرصة لي لتحقيق احلامي في الموسيقى والغناء.
عشقي للفن
يسـتطرد السيد سلام رومايا قائلا: كما ذكرت قبلا، فأن عشقي للفن قد لازمني طوال حياتي، وأنعكس ذلك في ما انشره عبر مجلة "القيثارة" او ما قدمته من خلال الأذاعة، ورغم ذلك كنت اشعر ان هناك مجالا آخرا يمكن تقديم الأفضل لأبناء الجالية فقررت تنظيم وأقامة " امسيات القيثارة الطربية" منذ العام 1999 بشكل موسمي او شهري وحسب الظروف ولحد الآن، آملا بتحقيق عدة امور ومنها، تجميع الطاقات الفنية والغنائية والموسيقية واطلاق الشابة الواعدة منها للجمهور، تنمية الذوق والحس الموسيقي لدى ابناء الجالية بعيدا عن صخب وفوضى الحفلات العامة التي تقام، وثالثا، هي مصدر آخر تساعدني في ادامة عمر مجلة "القيثارة" الغالية علـّي. ان هذه الأمسيات قربتني اكثر من جمهوري ومن الجالية، لابل اني أشعر بسعادة غامرة وأنا ابصر الفرح والأعتزاز من قبل الجمهور والفنانين وهم يقومون بدور عظيم، رغم بعد المسافات عن الوطن، في الحفاظ على اصالة الفن والموروث الغنائي العراقي والعربي
ومن امنياته
حينما سألت السيد سلام عـّما يعتمر قلبه من درس تعلمه بعد هذه المسيرة يقول: انا اؤمن بأن بعد كل فشل لابد من النجاح ان كانت الأرادة موجودة، ويمضي بالقول، حاولت جهدي ان لا احني قامتي للآخرين وأن اعمل بجد واخلاص، وأشعر بالسعادة وأنا انظر الى ابنائي الذين سقيتهم بكل ما احمل من قيم وأخلاق وأرادة وثقافة ، والباقي يتحملوه هم في مسيرتهم. فقد تمكنت من عبور هذا "المحيط" المتلاطم الأمواج وأسهر على ان يكون ابنائي جيلا صالحا منتجا. اما امنيتي للجالية، فبالحقيقة لا تخرج كثيرا عن مجال عملي، اذ أتمنى ان يرتفع مستوى الوعي الأعلامي والفني عندها وفي اوساط مثقفيها والأعلاميين. احيانا اشعر بالأسى لأن مستوى اعلامنا دون المستوى المطلوب، رغم كل ما توفره هذه البلاد من فرص عظيمة، لكن تنقصنا الشجاعة وروح المجازفة، وأتمنى ان لا تبقى احلامي هذه ،مجـرد احلام.
وعندما سألته عن امنيته الشخصية، فقد لخصها بعبارة واحدة: ان تبقى "القيثارة" متألقة في قلوب الجالية، طالما ينبض قلبي بالروح وجسدي بالحركة، فهذه اروع هدية اعتز بها.
آخر الكـلام
قليل من الناس ربما لم يتعرف على السيد سلام رومايا شخصيا، فقد يمر من امامك عشرات المرات، الا ان ظلله الخفيف يجعلني اتصـور احيانا بأن الأرض لا تشعر به وهو يمشي عليها، اما ما يتركه في محيطه فليس اقل من عطر عراقي فواح ملئ بالأعتزاز والكياسة والأدب والتواضع. هذا الأنسان شفاف ورقيق الى درجة يصعب معها تصور كيفية المزاوجة بين حجم عمله ومصاعب المجلة وأستمراريتها مع عالمه الغنائي والموسيقي الشفاف، ناهيك عن كونـه موسوعة فنية وغنائية عراقية وعربية نادرة التكرار. لا اتصور ان احدا لم يستمتع بما يخرج من بين انامل السيد سلام رومايا عبر مجلة "القيثارة" من مواد او مواضيع او اخبار، والأجمل ربما يكون حينما تقوم مؤسسة او اكثر من مؤسسات جاليتنا بتكريم امثال هؤلاء الذين يسهرون ويتعبون للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية والأنسانية للجاليتين العراقية والعربية.
كمال يلدو
كانون اول 2013
1676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع