د.سامان سوراني
من الواضح بأن للمعرفة كقوة تأثيرعلى السلطة وأن السلطة من جانبها توظف المعرفة لتحقيق السيطرة وضمان المصالح.
وهذا ما قاد الدول و جهات إلى الاهتمام بإقامة مراكز الأبحاث القادرة على إنتاج العديد من المشاريع الإستراتيجية الفاعلة علی المستويات السياسية والإقتصادية والعسكرية ، بل وحتی الإجتماعية والثقافية ، تُستخدم لصنع السياسة والتأثير علی الرأي العام وصناع السياسة. هذه المراكز أصبحت اليوم من خلال النشاطات العلمية التي تقوم بها ، من الأبحاث والمؤتمرات والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تنشرها واحدة من المرتكزات الأساسية لإنتاج المعرفة والتفكير العام في الدولة ، تعطي للمختصين وصانعي القرار في الدولة أو في القطاع الخاص بدائل يمكن أن يختاروا أفضلها و تقدم في بعض الأحيان البديل الوحيد ، الذي لابد من الاعتماد عليه في مواجهة التطورات والأحداث المتسارعة.
في بعض البلدان كالولایات المتحدة الأمريكية مثلاً نری أن مراكز الأبحاث أو مايسمی ببنوك التفكير أو think – tanks هي في الغالب مٶسسات تعلن عن نفسها علی أنها منظمات غير حكومية (NGO) أو منظمات غير ربحية ، تحمل أسماء و تعريفات مختلفة و تطلق في بعض الأحيان على نفسها اسم (مؤسسة foundation) أو (معهد institute) أو (الصندوق fund) أو (الوقف endowment) تقع تحت قطاع ذو نفوذ يتمتع بدور أساس في عملية صنع القرار ، وهي غير مؤسسات اللوبي.
من منؔا لا يتذكر مدی دور وتأثير نظریتين سياسيتين نشرتا في نهايات القرن العشرين وهما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفرانسيس فوكوياما و "صدام الحضارات" لصاموئيل هنتنجتون، كانتا نتاج الثقافة والفكر الأمريكي النابعة من مراكز الأبحاث والأفكار والمعارف المدعومة من قبل قوة الدولة الأمريكية.
في إقليم كوردستان هناك عدد قليل من مراكز للبحوث والدراسات الإستراتيجية ، لانعرف إن كانت فاعلة أم لا ولا نعرف أيضا إن كانت هذه المراكز تقوم بتقويم السياسات السابقة ، لتضعها في إطارها التاريخي والسياسي السليم أو تقوم بتحديد الآثار بعيدة المدى للسياسات المتبعة تجاه الأصدقاء والأعداء على حد سواء ، فيما يتعلق بمصالح إقليم كوردستان ومكانتها الإقليمية الخاصةً؟
سٶالنا بالتحديد هو ، هل هذه المراكز تقوم بطرح أفكار وآراء جديدة ، وتقترح السياسات البديلة ، خلال المدة التي تسبق مباشرة انتقال السلطة من إدارة إلى أخرى ، أو بعد حدوث حوادث إقليمية أو بروز ظواهر جديدة أو مستجدات كقضايا الإرهاب مثلاً ، لكي تكون تلك الأفكار والمقترحات تحت تصرف صانعي القرار السياسي الجدد ، و هل تقوم بتزويد الإدارات المتتابعة والأجهزة المختلفة بالخبراء أو تقدم المشورة والنصح لأجهزة مؤسسات الدولة أحياناً بناءً على طلب تلك الأجهزة وهل تفتح دورات تدريبية للجيل الصاعد من القيادات الفكرية والسياسية ليكون جاهزاً لتسلم الإدارات السياسية العامة للدولة؟
فمن خلال عقد الندوات والمٶتمرات ونشر الكتب والدرسات وإصدار النشرات والمجلات أو التقارير وتقديم التحليلات عن طريق الإنترنت لتبرير سياسات معينة أو نقدها أو لترويچ أفكار عصرية سوف تكون لها تأثير في الرأي العام وفي صنع السياسة والقرار السياسي.
إن تنمية القدرات التراكمية في مجالات الفكر والسياسة والإعلام سوف تجسد الذاکرة الجماعية لشعب كوردستان و تبلور مواقفها ومصالحها.
لايخفی أن مؤسسات الفكر والرأي كمؤسسات أبحاث حول السياسة لها تاريخ المائة عام في البلدان المتطورة ، فمثلا مٶسسة "بروكينغز" ، التي أنشأت عام ١٩٢٧ بعد إندماج مٶسسات فكرية أمثال "معهد الأبحاث الحكومية" لتصبح أيقونة في واشطن أو مؤسسة “راند كوربوريشن” لتعزيز وحماية مصالح الولايات المتحدة الأمنية خلال العصر الذري.
هذه المٶسسات الفكرية كانت ملتزمة بتطبيق خبراتها العلمية على حشد من القضايا السياسية ومع ذلك كانت ترغب في البقاء بعيداً عن العملية السياسية انطلاقاً من التزامها الاحتفاظ باستقلاليتها الفكرية والمؤسساتية. فهدفهم الأول لم يكن التأثير المباشر على القرارات السياسية، بل مساعدة وإعلام صانعي السياسة والجمهور بخصوص العواقب المحتملة عن طريق إرساء الأسس الفكرية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية للبرامج والسياسات الرئيسة لاتباع مجموعة من الخيارات في السياسة الخارجية.
الأجدی في زمن الأعداد والعلامات و تضاعف العالم المحسوس من خلال الشبكات والبيات الإلكترونية ، التي هي أوهن من خيط العنكبوت أن نرحب بجهود القطاعات النشطة والواعية والمثقفة في إقليم كوردستان ، التي تنوي إنشاء مراكز التفكير والأبحاث بعيداً عن الإرتجالية في الأداء أو الأحادية في النظرة والتناول ، بعد تحليل الواقع المعاش ، انطلاقاً نحو تقديم رؤى مستقبلية من أجل النهوض بواقع جديد أو بتطوير الواقع الحالي إلى مستوى أفضل بما يخدم أهداف ومصالح إقليم كوردستان وأمنه القومي ، وفق مرجعيات أكاديمية راسخة ، لتشارك من خلالها في صنع السياسة العامة للإقليم بعيداً عن الأطر حكومية.
وختاماً: من لايقرأ مايحدث لا يحسن التعامل معه والمشاركة في صنعه. فالعولمة كحدث كوني ذو بعد وجودي خلقت واقعاً تغير معه العالم عما كان علیه بجغرافيته وحركته ، بنظامه وآليات إشتغاله ، بإمكاناته و آفاقه المحتملة. فالإهتمام بجمع البيانات والمعلومات وتوثيقها وتخزينها وتحلیلها بالطرق العلمية الحديثة ، والتعاون مع أجهزة إقليم كوردستان ومٶسساته المختلفة في مجالات الدراسات والبحوث المعرفية سوف تساهم بشكل فعال في دفع العملية التنموية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية في الإقليم .
الدكتور سامان سوراني
1302 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع