خاطرة من ايام زمان قبل ان يطمرها النسيان

                                        

 خاطرة من ايام زمان قبل ..ان يطمرها النسيان

    
                 من قلم الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر  

أستاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سـابقاً باحث  علمي متقدم في الكيمياء / باتون روج/لويزيانه /امريكا

 

                             

الطريق الى بغداد

                           

                خارطة تبين موقع الشطرة والناصرية

بعد أن نلت الشهادة الأبتدائية , ولعدم وجود مدرسة متوسطة في مسقط رأسي , الشطرة ارسلت لأكمال دراستي الثانوية في بغداد وألتحقت مع أخي الأكبر الدارس في ثانوية الكرخ في السنة الدراسية 1946 - 1947 من القرن الماضي! , واحمد الله على ما وهبني من ذاكرة قوية, بحيث ,أتذكر كل الأحداث التي وقعت في بغداد في تلك الحقبة من الزمن , والى يومنا هذا!  
وفي يوم السفر وصلت سيارة الأجرة الى باب الدار, وخرجت العائلة لتوديعي , وكنت كالأطرش في الزفة لا أعرف سبب حزن الوالدة والأخوات , وتخلصت بصعوبة من المودعين! وما أن تحركت السيارة  حتى أستمر الوالد بتوصية السائق بالعناية بي , ثم سكبت الوالدة  الماء بغزارة خلف السيارة ,..والكل يلوح بيده وكأنني متوجه للديار المقدسة لتأدية فريضة الحج !
توقفت  السيارة عند كراج المدينة لصعود بقية الركاب, ثم أنطلقت بسرعة نحو الطريق المؤدي الى مدينة الناصرية على وقع نغمات أغنية من الراديو يتغنى بها أبناء الناصرية :

   

                            مركز محافظة ذي قار

للناصرية ...... و للناصرية ... بو جناغ أروح أوياك, للناصرية
وبـ أثنين أيديه ,,.....  تعطش وشربك ماي,...... بـ أثنين أيديه
ولـَ بجي أبمضيفه ولـَ بجي أبمضيفه ,وأتعنه لبو أعبيد  وأبجي أبمضيفه  
ويحسبها ضيفه , , ويرجعلي ساهي العين , ويحسبه ضيفه !

توقفت السيارة قرب مقهى في أطراف مدينة الديوانية للصلاة وللغداء و لشرب الشاي,..وأنتهزت فرصة أبتعاد الركاب عن السيارة ومددت يدي الى (الزهاب), وتناولت ما تيسر من مأكولات,..ثم توجهت بعيداً عن المقهى ووجدت جمعاً من الناس يحيطون بشخص يلاعبهم لعبة (السيه ورق,اي الثلاث ورقات) ,حيث لديه ثلاث ورقات (قمار) أثنان منها سوداوان والثالثة حمراء وبحركات  بهلوانية,  يضعها على الأرض مقلوبة ويطلب من الحضور معرفة الحمراء ومن يعرفها سوف يكسب مبلغاً مساو لما يضعه !,..وجدت اللعبة مسلية وكنت أشاهد موقع الحمراء وما أن أضع عليها الدينار حتى يعلن (المعلم ) خسارتي مع كل الواضعين,..ثم حاولتُ لستة مرات وخسرت ستة دنانير(وهو مبلغ يساوي مرتب معلم الأبتدائية عند أول تعيينه ), ..و لما أفتقدني السائق, فـتـش عني وما أن عثرعلي حتى  سحبني من يدي, وراح يلقي علي درساً في الأخلاق وعدم لعب القمار لأنه مهلك للأعصاب ومهدر للمال ,..ومن ذلك اليوم والى يومنا هذا لم أزاول أي لعبة مســلية لقاء رهان مادي البته !

كانت ثانوية الكرخ من أكبر ثانويات العراق في حقبة الأربعينيات ,..وقد ضمت طلبة من كافة أنحاء العراق بمختلف التيارات السياسية المعروفة آنذاك,..ومن أهمها التيار الشيوعي والقومي والديمقراطي والأسلامي , أضافة الى الأحزاب الكردية والأقليات القومية والدينية التي أستوطنت العراق منذ القدم مثا الآشوريين والكلدانيين , وقوميات اخرى هاجرت هروباً من بطش  الدولة العثمانية مثل الأرمن .

تعرفت على العديد من طلبة المدرسة ذوي الميول القومية والوحدة العربية ,وقد وجدت لشعاراتهم صدى وتجاوباً مع ما أكنه من حب تشبعت بها خلال المرحلة الأبتدائية ,ايام الفتوة وترديد الأناشيد الحماسية مثا نحن الشباب ويا أمنا لن نعودا ,وموطني لك الجلال والكمال ! و أضافة الى ذلك تأثرنا بالشعارات القومية التي نادى بها الملك الشاب غازي الأول الذي أغتالته أيادي آثمة لمنعه من توحيد الأقطارالعربية وتحريرها من هيمنة المستعمر البريطاني !
لا أريد الأطناب والتحدث عن النشاط السياسي لطلبة الثانوية وسأكتفي بسرد أهم حدث عاصرته في تلك الحقبة وهو ما أطلق عليه أســم الوثبة.

                
  
ففي آذار ( مارس), 1947 م., أصـبح الـسـيد صـالح جبر أول رئيــس وزراء شــيعي, كما يعتبر مهندس معاهدة بورتسموث التي كانت الشرارة التي فجرت الشارع العراقي !  
ولد صالح جبر سنة 1895 م. في أسرة متواضعة تنتسب الى بني زيد من عشائر قضاء الشطرة التابع أدارياً الى متصرفية لواء المنتفك ( محافظة الناصرية).

أستوزر صالح جبر لأول مرة كوزيراً للمعارف في وزارة جميل المدفعي سنة 1933 م.
ثم عين متصرفاً للواء كربلاء سنة 1935 م. , ثم عين متصرفاً للواء البصرة سنة 1940 م.
وعضواً بمجلس الأعيان نهاية عام 1941 م., ثم أنتخب رئيساً لمجلس الأعيان سنة 1947م
كلف بتأليف الوزارة بعد أستقالة حكومة نوري السعيد يوم 11 آذار (مارس) سنة 1947م.
بدأ صالح جبر عمله بألغاء  معاهدة 1930 م., وأن الحديث بتلك المــسألة بدأ ســرياً, بـسـبب الخوف من الجماهير عند الإعلان عن الإلغاء والتفاوض في آن واحد, لأنه ســيفجر الوضــع في الــشارع العراقي, ويحرك مواضــيع ســياســية أخرى, مثل المطالبة بإنهاء كل أشــكال النفوذ البريطاني.

الوثبة  
وفي بداية كانون الثاني( يناير), 1948 م., علم معظم العراقيين, أن المفاوضــات حول تلك المعاهدة قد بدأت وقد تم التوقيع عليها في الميناء البريطاني ( بورت ســموث), في كانون اللثاني (يناير ), 1948 م.
كان رئيــس الوزراء ( صــالح جبر), في ذلك الوقت في ميناء (بورت سموث),بالقرب من
لندن, عاصــمة المملكة البريطانية, لإنهاء المعاهدة القديمة والتوقيع على المعاهدة الجديدة.  
وعلى أية حال, فإن تلك المعاهدة ســببت في هياج جماهير بغداد و جميع الأحزاب المعارضة
مطالبة الجماهير بالوقوف ضــد المعاهدة. وهكذا, بدأت المســيرات والمظاهرات, واســتمرت
طيلة الأســبوع, وهي تطالب  بإلغاء المعاهدة, وقد أســاءت تلك الحالة لمركز الســيد جبر.
 وفي أحد الأيام, وبعد عودة الــسيد صــالح جبر إلى بغداد, حدثت أكبرمســيرة لتظاهرات في  شــوارع بغداد,
وقد تصــدت لها الشــرطة وأطلق اســم ( الوثبة), على تلك المســيرات والتظاهرات الصــاخبة.
 بدأت الوثبة عندما حرض حزب الاســتقلال طلبة الكليات والثانويات في بغداد ووجهوا لهم
النداء  للذهاب  لكلية الحقوق, للاعتصــام هناك, وقد كنت شــخصــياً أحد المشــاركين في ذلك الاعتصــام, عندما كنت طالباً قي ثانوية الكرخ, لم أتجاوز الســادســة عشــر من عمري!
ولأول مرة عَرَف العراقيون التصــدي لمشــاكلهم بعيداً عن الطائفية والحزبية!, وإن أبرز تلك الأحداث, كانت قد اندلعت في 27 كانون الثاني( ديــسمبر), 1948, حينما زحفت جموع غفيرة مـن أهالي الكرخ, وتوجهت عبرالجســر القديم, (ســمي فيما بعد, بجســر الشـهداء), إلى الجانب الثاني من نهر دجلة ,(صوب الرصــافة),  وعلى أية حال, قامت الشــرطة المتمركزة على المنارة بالقرب من الجســر بجانب الرصــافة, وأمطرت المتظاهرين وهم في منتصــف الجســر, بوابل من رصــاص بنادقهم وبشــكل عشــوائي, مما أدى إلى ســقوط صــحايا وقتلى, بقصــد منع التظاهرة من عبور الجســر والوصـول جانب الرصافة.
    

       منظر لجسر الشهداء الربط بين الرصافة والكرخ في بغداد

ونتيجة لذلك الغدر من الســلطة, ســقط العشــرات بين قتيل وجريح. إلا أن تلك الإصــابات لم تثني عزيمة الأهالي واســتأنفوا مســيرتهم, وكان من بينهم فتاة في مقتبل العمر, وآية في الجمال, حفزت الطلبة و الجماهير بأهازيجها الشــعبية, والجماهير تردد كلماتها بغضـب شــديد غير مبالين بأصـوات الرصاص, حتى وصلوا إلى جانب الرصــافة. و أجبرت تلك الجموع الغاضــبة الشــرطة على الهروب. وقد أطلقت ادبيات تلك الفترة على تلك الصــبية البطلة التي قادت آلاف المتظاهربن, اســــم ( فتاة الجــســر).

شــعرت الحكومة القائمة آنذاك بســيطرة المعارضــة على كافة شــوارع يغداد, ولذا فكر بعضــهم باســتدعاء الجيــش العراقي, إلا أن احد المســؤولين تنبه  لخطورة تلك الفكرة, لأن  جميع أفراد الجيــش العراقي, هم مـن  أفراد الشــعب العراقي وتتطابق آرائهم مع المعارضــة في رفــض معاهدة بورت ســموث , وســوف يتضامنون مع الجموع الشــعبية المحتلة لشــوارع بغداد.  
إن تظاهرات الطلبة في الوثبة, كانت البذرة الأولى التي نبت منها تنظيم الضــباط الأحرار, الذي فجر ثورة الرابع عشــر من تموز1958 م., كما أن نكبة فلــسطين, في نفــس تلك الســنة(1948), التي أدت الى هزيمة سبع  دول عربية أمام إســرائيل, قد زادت من نقمة الشــعب العراقي على حكامه.
تنصــل الوصــي عبدالإله عن معاهدة بورت ســموث, في اليوم التالي لعودة الــسيد صــالح جبر إلى بغداد, وقد ســارت في ذلك اليوم, أكبر مظاهرات جماهير مرددة الأناشــيد إلا أن الشــرطة العراقية  أطلقت النيران عليها, مسـبـبة لكارثة مفجعة. ولهذا قدم الــسيد صــالح جبر اســتقالته من  رئاســة مجلــس  الوزراء, واستدعى  الوصــي على عرش العراق, الســيد محمد الصــدر, وهو من رجال الســياســة  الشــيعة المحنكين, لتشــكيل وزارة تضــم معظم الوزراء في وزارة جبر المسـتقيلة.

    

لقد كان الوصــي عبدالإله في غاية الحســاسـية من المــسألة الطائفية, وأراد بهذا التعيين أن يطوق أية فتنة من هذا النوع خلال المظاهرات التي كانت تجوب معظم شــوارع بغداد. وعلى أية حال, فإن المظاهرات الهائجة ضد  الحكومة, قد ســاعدت في احتمال إزاحة الســيد صــالح جبر, حتى من قبل عودته إلى بغداد, وقد أطلق عليه لقب عميل بريطاني !
كما أن غضــب الجماهير قد أتاح الفرصـة إلى الأحزاب الوطنية المعارضـة, للفت نظرالســــلطة  لكي تحقق العدالة في المظالم, مثل, إلغاء الدعاوي الحكومية,وفساد  الحكم الملكي, وضعف الحكومة, وتدهورالاقتصـاد .
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1318 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع