عزيز الحاج
وهكذا رحل عنا أخيرا نيسلون مانديلا، الذي ناضل بطريقته الناجعة المظفرة ضد نظام الفصل العنصري الوحشي، المتجرد من كل حس إنساني وضمير. حارب سلميا، ونجحت حربه السلمية، وأقام على أنقاض النظام الهمجي نظاما ديمقراطيا متآخيا، ودولة متقدمة لصالح جميع سكان أفريقيا الجنوبية والقارة السوداء والبشرية كلها.
لم يمارس الانتقام الأعمى تجاه الجنس الآخر الذي كان ينتمي إليه فريق من المهووسين بالكراهية واستعباد الآخر. مارس سياسة المصالحة بجد وبمعناها الحقيقي، لا بالكلام على طريقة المالكي. لم يمارس سياسات الاجتثاث والتمييز والاعتقالات العشوائية والإعدامات بالجملة، واغتصاب البريئات وخطف النساء. ضرب المثال، وفاز، وفاز معه شعبه وبلاده. حاول في أواخر أيامه أن ينصح الساسة والنخب والجماهير العربية المنتفضة على الاستبداد والفساد، فلم يصخ له غير أفراد هنا وهناك، فيما طغت عقليات وممارسات الثأر ومنطق الثورة الدائمة والتمييز السياسي بعنوان رفض الفلول، فكان أن سرق الإخوان نضال الشعب المصري، ولحسن الحظ إلى حين. وسرقت النهضة نضال الشعب التونسي. وتخبطت ليبيا في حروب القبائل وأمراء السلاح وتجار الدين. ولا تزال اليمن في معاناة دائمة. أما سورية، فأبى طاغيتها إلا إيصال الوضع لحد إيصال الأمور لحافة إلغاء بلد ومحو شعب.
لم يسع مانديلا لولايات حكم متجددة على طريقة المالكي، برغم أنه كان يستحقها، وكان سيفوز لو أراد. لم يسرق من شعبه لقمة، فضلا عن مئات المليارات كما يجري في العراق. لم يربط بلاده بعجلة دكتاتورية دموية دينية مجاورة، كما حال العراق. لم يسع لاستغلال السلطة لصالح العائلة والمقربين، كما يفعلون في المنطقة. وأمامنا اليوم العراق، الذي يسجل أرقاما قياسية في الخضوع لإيران، وفي الفساد وانعدام الأمن، وانتهاك القانون والاتفاقيات الدولية الخاصة باللاجئين وبحقوق الإنسان، وفي التطهير الديني والمذهبي.
مانديلا سجل في التاريخ الحديث مثال النضال السلمي غير الدموي، الذي يكسب الأنصار ويعزل الأعداء، ولا يترك وراءه بركانا من الأحقاد وغرائز الانتقام والفعل ورد الفعل. قضى سنوات طويلة في السجون والمعتقلات وعاني ما عاناه، فلم يملأ الحقد قلبه أو يعمي بصيرته، ولم يتاجر بتضحياته على طريقة البعض ممن يمنّون على الشعب لكونهم ناضلوا يوما ما. ولم يتحدث عن "مظلومية" السود و"حاكميتهم"، على الطريقة العراقية المبتذلة.
كان نيلسون مانديلا مدرسة للتنوير السياسي الحديث في عالم تشتبك فيه المصالح العاتية والإرادات المتضادة والخيارات المرة. وما أجدر سيرته بأن تدرس في المعاهد والجامعات العربية لنستوعب أن فن السياسة هو فن الممكن، وأن دم الضحية أقوى من سيف الجلاد، وأن غرائز الثأر والاجتثاث والتطهير الديني والمذهبي والعنصري إعادة إنتاج لغرائز وعقليات وممارسات الطغاة وأنظمتهم الدموية المنغلقة.
رحل مانيلا، وشعبه ينعاه ويبكيه، ونحن نبكيه مع شعبه. كان منهم ولهم، وهو لنا وإن لم يكن من جنسنا ومن قارتنا. كان رجلا لجميع أخيار العالم والمناضلين من أجل أن تسود المحبة والسلام والتسامح والعدالة والحرية وحقوق الإنسان في كل مكان.
1447 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع