في غمرة أحداث الفيلم المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم، تابعت الإعلام الأميركي المرئي والمقروء، فشاهدت وقرأت العجب. فالتغطية والآراء في كبرى المحطات والصحف، بدت وكأنها عملية تجهيل منظمة للرأي العام الأميركي.
فطوال الأحداث لم تخرج المعاني التي يبثها الإعلام الأميركي - في تغطيته والآراء التي يقدمها- عن الحيرة من أمر العرب والمسلمين "الجاحدين"، رغم ما تقدمه لهم أميركا، أو اعتبار أن ما يسمونه بـ"الربيع العربى" أكذوبة لم تكن تستحق التركيز عليها، فها هو ذلك الربيع لا ينتج عنه سوى المزيد من العداء لأميركا، حتى أنه صار "خريفا مظلما".
ومن المعاني التي بثها الإعلام أيضا، أن العرب وجدوا في أميركا "الشماعة" التي يعلقون عليها فشل ثوراتهم في أن تحقق شيئا مما كانت تصبو إليه. ومما قيل أيضا، أن المسلمين لا يفهمون معنى حرية التعبير، وعلى أميركا أن "تدرس لهم" معناها.
وكما ترى فإن كل تلك المقولات تحمل نبرة تعالٍ وعنصرية لا تخطئها العين، وإصرار على حكاية "أميركا البريئة" التي تتلقى الصفعات ممن لا تكف عن الإحسان إليهم. خذ عندك، مثلا، ما قاله مراسل واحدة من كبريات المحطات الأميركية في القاهرة.
فقد وقف المراسل بالقرب من السفارة الأميركية في ميدان التحرير، وراح يقول بكل ثقة إن المفارقة في ما يجرى أن دبلوماسيي السفارة (المحاصرين)، هم الذين "ساعدوا" هؤلاء المتظاهرين أنفسهم في أن "يكون لهم صوت"، وهم الذين "منحوهم الحق في التظاهر" الذي صاروا يستخدمونه الآن ضد الولايات المتحدة الأميركية.
وما قاله المراسل لا علاقة له بالمهنية ولا بالصحافة أصلا، فهو مجرد وجهة نظر لا تدعمها أية أدلة. وهو يقول وجهة النظر تلك بمنتهى الجرأة، وكأنها أمر معروف للكافة لا يقبل الشك.
والحقيقة أن أى مصري عاش الثورة المصرية لحظة بلحظة، يسمع مقولة أن "الولايات المتحدة هي التي أعادت الحرية للمصريين" أو أنها حتى "دعمت الثورة"، فإنها ستثير ضحكه بل وشفقته، على دولة عظمى لم تكف عن السعي لسرقة إنجاز باهر صنعه الشعب المصري وحده. فالولايات المتحدة كانت طوال أيام الثورة المصرية وحتى النهاية، مع نظام مبارك، وهي لم ترفع يدها عنه إلا في اللحظات الأخيرة حين أدركت أنه راحل لا محالة، سواء أرادت أم لم ترد.
لكن المراسل الهمام أضاف، لا فض فوه، أن العرب والمسلمين يكرهون أميركا بسبب "نظريات المؤامرة المجنونة التي يؤمنون بها، والتي تزعم أن أميركا وإسرائيل هما المسؤولتان عن الكثير من مشاكلهم". ومقولة المراسل مجرد تنويعة جديدة من تنويعات "أميركا البريئة"، التي تسأل بكل حيرة "لماذا يكرهوننا؟".
والإجابة لا بد دائما أن تؤكد هذه البراءة. فهم يكرهوننا مرة "لأنهم يكرهون حرياتنا"، ومرة لأنهم "يغارون من تقدمنا"، ومرة "لأنهم يؤمنون بنظرية المؤامرة". ولا يمكن طبعا أن تكون الإجابة هي السياسة الأميركية في المنطقة، فتلك بعيدة طبعا عن الموضوع!
أما حكاية أميركا "الشماعة" التي يعلق عليها أصحاب الثورات فشلهم، فلا تقل تهافتا عن كل ما سبق. فهي تفترض أن الثورات تقوم بين ليلة وضحاها، بتحقيق كل ما قامت من أجله. ولأن ذلك لم يحدث، فإن من قاموا بتلك الثورات شعوب لا مسؤولة ولا تحقق أهدافها، وإنما تبحث بدلا من ذلك عمن تلقى عليه بفشلها!
ورفض الإعلام والنخبة الثقافية الأميركية للثورات العربية، يعبر عن ذهنية استعمارية بامتياز. فالمهم في الثورات العربية، وفق هذه الذهنية، هو أن تحقق مصالح أميركا، فلو لم تحققها فهي ليست ثورات أصلا! وتلك الذهنية تشرح معنى دعم الديمقراطية عندهم، فالحرية والديمقراطية مدعومة أميركيا في حالة واحدة فقط، هي أن تخدم مخرجاتها المصالح الأميركية.
أما المسلمون الذين يحتاجون لدروس في حرية التعبير حتى يفهمونها، فهي مقولة تستدعي سؤالا بسيطا "لأولئك المدرسين" العظام. فأين كانوا حين تم القبض في بلادهم على شاب باكستاني بتهمة "تقديم دعم مادي" للإرهاب، لأنه أنتج فيديو نشره على يوتيوب يصور انتهاكات أميركا لحقوق الإنسان في أبو غريب؟ ولماذا لم نسمع لهم حسا حين اتضح أن مكتب التحقيقات الفيدرالي يتجسس على كل المساجد في أميركا؟
وفي التغطية الإعلامية الأميركية، بدا وكأن المتظاهرين أمام السفارة الأميركية في مصر مثلا، هم كل المصريين أو هم أنفسهم من قام بالثورة المصرية. ولم يتطرق الإعلام الأميركي مطلقا لعشرات الصحف والمحطات المصرية، التي أدانت الاعتداء على السفارة وأدانت استخدام العنف، وأكدت على مفهوم الاحتجاج السلمي الذي كان وراء نجاح الثورة المصرية.
أكثر من ذلك، اختلطت التغطية لما يحدث في كل دولة بالدول الأخرى. فإذا بك تسمع من يتحدث عن مصر فيدين الاعتداء على الدبلوماسيين، الذي حدث في ليبيا، أو تقرأ من يكتب عن ليبيا، فتجد حديثا عن وقائع جرت في اليمن أو باكستان.
باختصار؛ تمت تغطية الحدث بمنطق أن "المسلمين" كلهم واحد وكلهم يلجأون للعنف، فهم جميعا يشبهون بعضهم البعض. وبالمناسبة، كان هذا المنطق نفسه هو الذي أدى بأميركا في النهاية إلى كارثة فيتنام. فوقتها كان المنطق أن الآسيويين الذين يشبهون بعضهم البعض، لا بد وأنهم بالضرورة سيتصرفون بالطريقة نفسها تجاه الشيوعية، وهو منطق يذكرنا بأفكار "الرجل الأبيض" ومعاناته مع "الشعوب البدائية"!
وإذا كان الشعب الأميركي نفسه نادرا ما يتابع ما يجري في العالم، بل ولا يعرف أين تقع بلادنا أصلا، فإن تغطية إعلامية من هذا النوع تؤدي لتكريس منطق أميركا البريئة، التي لا بد أن يكون لها موقف حاسم إزاء مسلمين كلهم يستخدمون ضدها العنف، وكلهم لا يفهمون حرية التعبير، وكلهم يبحثون عمن يلقون عليه فشلهم.
899 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع