د.محمد عياش الكبيسي
هناك جملة من المعطيات لا بد من استحضارها لتكوين التصور الأولي للمشهد السياسي والاجتماعي في تلك المرحلة كمقدمة لتحليل الفتنة الكبرى وتجميع خيوطها ومعرفة من يقف وراءها، ومن تلك المعطيات:
1 - الصراع الإسلامي اليهودي والذي اتخذ طابعا دمويا وصل إلى حد محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم والتحالف مع المشركين في غزوة الأحزاب، وقد نتج عن هذا مقاتلتهم في بني قريظة وخيبر وإجلاؤهم عن مساكنهم في المدينة المنورة، واليهود أهل حقد وحسد، ومن غير المنطقي ألا يحاولوا تعويض خسائرهم والثأر لقتلاهم كلما سنحت فرصة، ولقد رأيناهم اليوم وبعد شتات دام ثلاثة آلاف سنة تقريبا عن فلسطين كيف تجمعوا ليعيدوا كيانهم وهيكلهم المزعوم، وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا اسم عبدالله بن سبأ ودوره الماكر في قتل الخلفاء وإثارة الفتن ومحاولة الاختراق العقدي والفكري، فإنه لا يستبعد أن يكون معه فريق من اليهود الذين تستروا تقية بالإسلام، إلا أن الدولة الإسلامية كانت تعتمد على القضاء لمعاقبة المجرمين ولم يكن لديها جهاز استخبارات يكشف ويمنع الجرائم قبل وقوعها خاصة تلك التي تتعلق بأمن الدولة ومركز القرار فيها.
2 - ظاهرة النفاق، والتي بدأت عقب تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، ولقد كانت ظاهرة قوية ومؤثرة في عهده عليه الصلاة والسلام إلى الحد الذي تمكنت فيه مبكرا من سحب ثلث جيش المسلمين من معركة أحد! والمنافقون لا يتورعون عن التحالف مع اليهود أو المشركين، ولا يتورعون كذلك عن إثارة الفتن بين المهاجرين والأنصار بل وحتى داخل بيت النبوة؛ حيث تولوا كبر الإفك بحق أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنهما-.
والسؤال الذي يرد بهذا الصدد؛ هذه ظاهرة تشكلت في المدينة من بعض الناس الذين تضررت مصالحهم بعد قيام الدولة الإسلامية، فكم هو حجم الذين تضررت مصالحهم في العراق والشام وحجم المنافسات الدنيوية في المال والمنصب والجاه بعد أن أصبحت كنوز كسرى بيد المسلمين؟ وإذا كان الوحي يتنزل على رسول الله ليكشف له أسماء المنافقين وأسرارهم فمن الذي يكشفهم بعد انقطاع الوحي وتوسع الرقعة الإسلامية من قرية (يثرب) إلى إمبراطورية العراق والشام ومصر؟! وإذا كانت يثرب وهي تنتمي إلى مجتمع البداوة البسيط قد أفرزت كل ذلك النفاق، فما صورة النفاق وأساليبه المتوقعة في مجتمعات الدول الكبرى التي كانت تحكم العالم في ذلك الوقت؟
3 - حركة الردة، حيث واجهت الدولة الإسلامية أكبر تحد لها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستلام أبي بكر الصديق لمقاليد الخلافة، وكان هذا التحدي بمستوى كاد يودي بالدولة الإسلامية كلها وربما بمفهومي الملة والأمة أيضا! لولا تعهد الله بحفظ هذا الدين ثم الحزم الذي أبداه الصديق في التعامل مع هذه الحركة، بيد أن الذي ينبغي التنبه له أن القضاء على حركة الردة كان بالقضاء على قادتها المتنبئين كذبا كمسيلمة وسجاح والعنسي.. إلخ لكن ليس هناك ما يطمئن أن جموع المرتدين قد خضعوا فعلا لتعاليم الإسلام وأشبعوا منه تربية وتفقها، ولا شك أن الكثير منهم قد انتدبهم أبو بكر بعد إسلامهم للحاق بجيش خالد والذي بدأ فعلا بمهمة فتح العراق.
إن هؤلاء بحاجة إلى دراسة جادة ومدى علاقتهم برؤوس الفتنة خاصة أن ظاهرة الردة السياسية ونكث العهود قد كانت السمة الأبرز في الحياة السياسية للمجتمع العراقي بعد الفتح، ففي يوم واحد ينشق أكثر من عشرة آلاف مقاتل وينقضون بيعتهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم بعد ذلك ينكث الآلاف من أهل الكوفة وما حولها عهودهم ومواثيقهم للحسين بن علي -رضي الله عنهما- ومثل هذا كثير في تلك الحقبة وما بعدها.
4 - العلاقات القديمة لبعض القبائل العربية بدولتي فارس والروم، فبالإضافة إلى المناذرة والغساسنة كان هناك الكثير من العرب الذين يروحون ويغدون إلى مقر الدولتين طلبا للرزق أو الجاه، ولا ننس هنا تأثير الروم في ردة الملك العربي جبلة بن الأيهم بعد إسلامه على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه! والعلاقة التي كانت لذي الجوشن الضبابي بكسرى قبل الإسلام حتى يقال إن كسرى هو من ألبسه الجوشن (الدرع) -عون المعبود شرح سنن أبي داود ج7ص225-، وهذه العلاقات قد تكون طبيعية في عصر ما قبل الإسلام إلا أن إمكانية توظيفها فيما بعد واردة وكل بحسب مشروعه ومصلحته.
5 - دخول الكثير من الشعوب في الإسلام من عراقيين وشاميين ومصريين ومن العرب وغير العرب، وهؤلاء بالتأكيد لم تتح لهم فرصة التعمق في فهم الإسلام والنشأة على أصوله وقيمه كما كان المهاجرون والأنصار، ومن ناحية أخرى ربما كانوا يرون أنفسهم أكثر تحضرا وثقافة من الفاتحين أنفسهم، ولذلك انتعشت الفلسفات الغريبة عن الهدي النبوي، فظهر التمرد الفكري بثوب القدرية والجهمية.. إلخ كما ظهر التعالي على الصحابة وهم الفاتحون والأمراء كما في قصة أهل الكوفة مع سعد بن أبي وقاص والذين شكوه إلى عمر بن الخطاب لأنه لا يحسن الصلاة! حتى جاء في البخاري أن عمر قال لسعد: (يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي)! صحيح البخاري رقم 755. ثم تطور الأمر على يد الخوارج باتهام علي بن أبي طالب بالكفر وأنه لا يفهم عقيدة التوحيد الصحيحة!
إن الخطورة في مثل هذا التعالي على صحابة رسول الله وإن اتخذ طابعا علميا في بداية الأمر لكنه لا شك قد جرّأ الغوغاء على النيل منهم بل وقتلهم كما حصل في مقتل طلحة والزبير وعلي والحسين، وهنا لا نستبعد الكيد السياسي في هذا التعالي أو الغرور العلمي، فمثلا في الوقت الذي كانت جموع الفرس تتجمع في نهاوند للانقضاض على جيش سعد كان أهل الكوفة يطلبون من عمر أن يعزل سعدا لأنه لا يحسن الصلاة! هذا التوقيت لا يمكن أن يكون عابرا ولا غبيا!
6 - وجود حالة من المنافسة داخل البيت القرشي، وهي منافسة طبيعية لكنها قد توظف توظيفا آخر، فأبو سفيان كان زعيم قريش خاصة بعد موت أبي طالب وهجرة بني هاشم مع رسول الله إلى المدينة، وإذا كان الإسلام قد ألزم بني أمية ببيعة الرسول والخضوع لإمامته، فإنه ليس هناك من نص يلزمهم بالخضوع لبقية بني هاشم بعد رسول الله، كما أن أولاد العباس يرون أنهم الأقرب إلى رسول الله والأحق بإرثه حتى من علي وأولاده، فالعم مقدم في الإرث على ابن العم، وقد أنتج هذا نزاعا داخليا آخر بين بني هاشم (العباسيين والعلويين) حتى حسم الأمر للعباسيين فيما بعد.
صحيح أن الجو العام في الأمة لم يتأثر بهذه الثغرات والتحديات، وكانت الفتوحات الإسلامية تتوالى في المشرق والمغرب، وأخبار النصر المتلاحقة تنعش النفوس وتجعلها أقدر على امتصاص الأزمات وحل المشكلات، إلا أن هذا لم يكن ليمنع حالات الالتفاف واستغلال هذه الثغرات من قبل الأطراف المهزومة أمام القوة العسكرية للمسلمين.
1513 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع