عبد القادر ابو عيسى
شعار المقال : ومن لم يعاود صعود الجبال يعش أبد َ الدهرِ بَينَ الحُفَر
مكانة عمرو بن العاص في زمن خلافة أبو بكر الصديق
أخطر ما واجه الخليفة ابو بكر الصديق والمسلمين هو ارتداد بعض القبائل العربية التي لم يثبت الاسلام في قلوبهم بمجرد سماعهم خبر وفاة الرسول الكريم . وما اسرع ما حمل الخليفة الصدّيق على رئيسهم (مسيلمة الكذاب) فقمع المسلمون هذه الحركة الخبيثة دون هوادة . والتي سميت ( بحروب الردة ) . كان عمرو بن العاص في طريقه من عُمان الى المدينة المنورة فمر بقبيلة ( بني عامر ) فإذا بزعيمها ( قرّة بن هيبرة ) لم يستقر علىى عوة الاسلام , يُقدّم إليها رجلا ويُؤخر أخرى ... وقد سمعه يقول .. ياعمرو ..! ان العرب لاتطيب لكم نفساً بالأتاوة ( يعني الزكاة ) فأن أعفيتموها منها فستستمع لكم وتطيع , وأن أبيتم فلا نجتمع عليكم ..! فلم يكن من عمرو المؤمن أن يقبل هذا التخاذل , فصاح بزعيم بني عامر بقوة وغضب .. ويحك ياقرّة .. أكفرت .؟ فوالله لأوطئنّ عليك الخيلَ في خِباء أمك .. ! . تكلّم عن نفسك ولا عليك بالعرب .. أرتاع ( قرّة ) لما سمع هذا الرد القاسي وهو يشاهد عمرو بهذا الانفعال .. فندم وقال في سره ربما استعجلت الامر مع هذا الرجل .. فأراد أن يقلل من شأن ما قال فدعى عمرو وبعض من كانوا معه الى وليمة عشاء كان قد أعدها لهم . فرفض عمرو تناول الطعام وغادر المكان غاضباً متجهاً الى خبائهِ .. فتوسل قرّة بمن كان مع عمرو .. فهونوا عليه الامر ..فقال لهم بالله عليكم تناولوا طعامي حتى أطمأن ..! فرد عليه أحدهم ويدعى أبوقصبة وكان مشهوراً بالمزاح .. قال له كيف نأكل وأميرنا ليس معنا ..؟ أتنا بالطعام الى مكان الامير .. فجاء قرّة بالطعام . فدنا منه ابو قصبة وهمس بأذنه .. ضعوا الطعام وأتركونا .. ففعل قرة .. أبو قصبة مخاطباً عمرو .. هون عليك يا ابى عبد الله .. وكل حتى نأكل معك لقد أشتد بنا الجوع ..فرد عمر لا أكل طعام هذا الرجل .. كلوه أنتم .. رد أبو قصبة .. وستضل على جوعك . هل أنت صائم . ؟ .. قال . لا . سأكل من طعام سفرنا . قال أبو قصبة . أيعقل أن تأكل التمرالفضيخ والخبز اليابس بدل هذا اللحم الطري والثريد اللين الشهي .! . فرد عمرو لاعليكم كلوا هنيئاً .. فقال ابو قصبة . عندي رأي . فقال المجتمعين عند عمرو . ماهو قل لقد بدأت أمعائنا تتقلب . قال ابو قصبة . لا نأكل مجتمعين خشية ان يكون الطعام قد دسَ فيه السم . ؟. وكان قصده الممازحة .. فاليأكل احدنا وينتظر الآخرين .. ! فوافقوه الرأي .. فقالوا من يأكل أولا . فرد أبو قصبة . أنا من سيفدي أصحابه بنفسه ..!.. فقالوا لك ذاك وجزاك الله خيراً .. سَمّي بسم الله وتوكل عليه .. بدأ يأكل أبو قصبة بنهم قطعة لحم من هنا وفضلة سنام من هناك ويتلذذ بالثريد وشرب اللبن وكأنه يغيض أصحابه واللآخرين ينظرون اليه بلهف وجوع ويضحك في سره وعلامات ذلك بادية على محياه .. وعمرو يبتسم ينظر أليه ويتكلم مع من حوله .. لا أرى الا ابو قصبة يمازحكم .. أنظرو كيف يأكل وكأنه يتغزل بالطعام ويغيضكم .. عندها تكلم ابو قصبة وبصوت مسموع .. ياله من طعام طيب ولبن لذيذ .. عندها قال احد الجالسين متى سنأكل . ؟.. فرد عمرو بصوت عالي .. عندما يشبع ابو قصبة ,, فضحك الجميع . فنادى عليهم ابو قصبة فأكلوا وهم يتضاحكون . جلس أبو قصبة بجانب الامير دنى منه الامير كلمه بصوت خافت غير مسموع .. لم تمض الا دقائق معدودات والجماعة مشغولين يأكلون الطعام بلهفة تعويظاً عن جوع السفر ومشقته .. فترى الأياي في ارتفاع وأنخفاض . وهنا صرخ أبو قصبة ماسكاً بطنه ويقول .. بصوت عالي فعلتها يا قرّة .؟ . وهنا توقف الجميع عن الاكل مرعوبين , وتوقفت الأيادي وكأنها شلّت .. ينظرون أليه بترقب وأندهاش . في اعتقادهم بأن السم قد أصاب َ منهُ مقتلا . نظروا الى الامير شاهدوه مستغرقاً في الضحك واضعاً قسم من غطاء رأسه على فمهِ . فهم الجميع بأن المسألة مزاح ليس الا . عندها تكلم أحدهم مخاطباً ابا قصبة .. أسألك بالله دعنا نأكل . لقد قطعت أكبادنا .. رد عليه الامير .. كلوا لاعليكم هنيئاً مريئاً .. أصبح الصباح . شدوا الرحال الى المدينة وجاء عمرو( بقرّة بن هيبر ) الى الخليفة , وقص عليه ما كان من حديثه معه ... فلما وصل الى ما قاله قرّة عن الزكاة .. قال هذا .. مهلا ياعمرو .. فقال عمرو .. كلا والله , لأخبرنّهُ بجميعه..! فنظر الخليفة الى قرّة نظرة عتب , مخاطباً اياه .. ها يا قرّة .! أمِن شيم العرب نقض العهود ومخالفة الوعود .. فرد قرّة العفو يا خليفة المسلمين انها ساعة الشيطان وزلة لسان .! . لم اجاهر بها ولم نرتد وكانت بيني وبين عمرو . ولئن كان امير المؤمنين قد عفا عن قرّة وقَبلَ أسلامه , فلقد زادت ثقةُ الخليفة بعمرو بن العاص على غَيرته على الاسلام وحميته في الدفاع عنه . وقد ولّاه حرب قُضاعة المرتدة فقام عمر يؤدّبها اليوم كما ادبها في عهد النبي , ولم يرجع عنها ألاّ وقد سلّمت بحق الزكاة وثابت الى شرعة الاسلام . ولما تمهدّت الجزيرة العربية وأستقر في ربوعها الاسلام . فكّر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يتجه بقوة المسلمين الى خارج جزيرة العرب وأن يتجه الى شمالها ( بلاد الشام ) , لينشر فيها الاسلام على نحو ما استقر على يديه في قلب الجزيرة وأطرافها . فنظر الخليفةُ الصديق الى قادة المسلمين فرآهم وفرةً وافرة عدداً وقوة واندفاعاً , ولكن ثقته بابن العاص وقدرأى من شدته في حرب المرتدين ما رأى كانت وافيةً الى حد أن أوفده لأستطلاع حال العرب في طريق الشام , كي يستنفرهم إلى قتال الروم اذا وقعت بين المسلمين والروم الحرب . تواترت الاخبار الى الجزيرة العربية عن طريق التجار والعيون التي كان يرسلها الخليفة للأستطلاع , من ان ( هرقل الروم ) يجمع الجموع ويُجيّش الجيوش للقضاء على الدولة الاسلامية وهي في المهد , قبل ان تصبح خطراً على دولة الروم . وكان عمرو قد عاد الى ولاية الصدقة في عُمان .فكتب اليه خليفة المسلمين يقول – إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله ( ص ) قد ولاّكه ... وقد أحببت , أبا عبد الله أن أفرّغك لما خيرٌ لك في حياتك ومعادك منه , إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك ..! – فكتبَ عمرو الى الخليفة ... بعد السلام على رسولنا الكريم محمد صل الله عليه وسلم . السلام على خليفته الصديق وبعد – إني سهمٌ من سهام الإسلام , وأنتَ من بعد الله - الرامي بها والجامع لها . فأنظر أشدّها وأخشاها وأفضلها , فارمِ به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي . وسرعان ما عقد ابو بكر ألألويةَ لأربعة من الأمراء العرب ....وهم : .. أبو عبيدة عامر بن الجراح – وأنفذه الى حمص . و . ويزيد بن أبي سفيان – الى دمشق . و . وشُرحَبيل بن حَسنَة – الى وادي الاردن . و. عمرو بن العاص - الى فلسطين . . وهنا جاشت في نفس عمرو بن العص المطامح . فسَمَت به همته الى قيادة الجيوش الاسلامية التي تصدُّ الروم وتفتح بلاد الشام . ففكر أن يحادث عمر بن الخطاب في موضوع قيادته للجيوش الاسلامية . لأنه يعرف تماماً أن ضَمِنَ رأي عمر بن الخطاب سيتحقق له ذلك ... لكن هيهات مع الفارق فهو بعد رسولنا عليه أفضل السلام , يعرف تماماً دواخل نفوس وسرائر المسلمين وكيف يتعاطى معها ويعطي لكل ذي حق حقه , بلا خوف أو خجل .. فذهبَ عمرو بن العاص أليه ليقول له متلطفاً ... يا أبا حفص .! انت تعلم شدّتي على العدو , وصبري على الحرب . فلو كلمتَ الخليفة أن يجعلني أميراً على أبي عبيدة , وقد رأيتَ منزلتي عند رسول الله وأني لأرجو أن يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الاعداء . . ! – فأجابه عمر بن الخطاب بصراحته المعهودة .. كلا ..! ما كنتُ لأكذبَك , وما كنتُ بالذي يكلّمه في ذلك . فإنه ليس على أبي عبيدة أمير . ! وأن أبا عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة . فقال عمرو . . ما ينقص من منزلته , إذا كنت والياً عليه . ؟ فانتهره بن الخطاب وقال بغضب .. ويلك ياعمرو .. ! أنك ما تطلب بقولك هذا إلا الرئاسة والشرف .. فاتّق الله , ولا تطلب إلا شرف الآخرة ووجه الله تعالى . فرد عمرو وجلاً مرتبكاً ومتطامناً .. أن الامر كما ذكرت يبن الخطاب .. وأما الخليفة أبو بكر الصديق , فقد أعطى القيادة العليا في هذه الجيوش الاسلامية الأربعة لأبي عبيدة عامر بن الجراح . ولم ينسَ ما كان في ( ذات السلاسل ) يوم أختلف ابو عبيدة وعمرو بن العاص على من يؤمّ المسلمين .. وقد خشي أن يقعَ الخلاف مرة أخرى على الرئاسة . فقال وهو يُودّع ابن العاص قائد الجيش المتجه الى فلسطين .. يوصيه .. كاتِب أبا عبيدة , وأنجده أذا أرادك , ولا تقطع أمراً إلا بمشورته . أتق الله في سرك و علانيتك , وقد رأيتَ تقدمي لك على منهم أقدم منك سابقة , وأياك ان تكون وانياً عمّا ندبتُك أليه . وإياك أن تقول – جعلني – ابن أبي قحافة ( يعني الخليفة نفسه ) في نحو العدو ولا قوة لي إلاّ به .. ! . وأعلم أن معك المهاجرين والانصار من اهل بدر فأكرمهم وأعرف حقهم ولا تتطول عليهم بسلطانك , ولا تداخلك نخوة الشيطان فتقول : إنما ولاني أبو بكر لأني خيرهم ... إمضي , بارك الله فيك وفيهم . وقد قدّر عددُ الجيوش الاسلامية ألأربعة بسبعة وعشرين الفاً من الفرسان المشاة . وكان جيش عمرو بن العاص وحده مؤلفاً من تسعة آلاف . وزحفت الجيوش شمالا , في أواخر السنة الثانية عشرة للهجرة , لتسطّر صفحة من أزهى صفحات تاريخنا العربي المجيد .. ولكن قبل أن نمضي علينا أن نتأمل قليلاً فيما قاله الخليفة الصديق وما يحمل كلامه من معاني الحزم والعزم , والورع والرشاد والقوة واللين , لنرى كيف كان قادتنا من قبل , وكيف ينبغي أن نتمثل بسلوكهم ونسترشد بتعاليمهم . فأما جيوش الروم فقد كانت جرّارةً , وأربى عددُها على المئة والخمسين ألف مقاتل . وقد سيّرها (هرقل ) نحو الجيوش العربية الصغيرة نسبياً , وفي نفسه أن يضربها جيشاً بعد آخر . وقد بيّنا أن الخليفة أعطى أبا عبيدة بن الجراح القيادة العامة للجيوش العربية الاربعة ولكنه أوصى قوادها بأن يتعاونوا فيما بينهم . ولقد كان الثلاثة يُجمِعون على الثقة برجاحة عقل عمرو بن العاص في شؤون الحرب فلما تبيّنوا نية العدو في الانفراد بهم , كاتبو عمراً يسألونه ما يفعلون ؟- فأجابهم عمرو ... إن الرأي هو الاجتماع , فاذا اجتمعنا لا نغلب , وأذا نحن تفرّقنا لم تستطع كل فرقة منا أن تُجابهَ من يستقبلها من العدو لكثرتهم . وكتبوا ايظاً الى امير المؤمنين , فأجابهم مثل جواب أبن العاص , وأضاف ... واجتَمِعوا في ( اليرموك ) . وأوفد أليهم عدداً من الجند بقيادة خالد بن الوليد . فبلغ جيش المسلمين خمسين ألفاً .. فجاءهم خالد يطوي الصحراء طياً .. فسأله أحد القريبين منه يكنى بأبن الدباس .. مالي أراك يا ابى سليمان تجد في المسير .. أتعبتنا وأتعبت الأبل .. ! هل دخل المسلمين في قتال .. فرد خالد .. لا . يا يَبنَ الدباس . لكنهم على وشك . نصل مبكّرين خير من ان نصل متأخرين .. ففينا قوة لأخوتنا . فرد أبن الدباس . لك ذلك . الهم انصرنا على اعدائنا . والله لأقاتلنهم حتى أوطئ فرسي رايتهم أو أهلك دون ذلك في سبيل الله . فرد خالد .. كلنا ذاك .. ألله وأكبر .. ألله وأكبر .. فكبّر الجيش بعده , مكررين التكبير . واصل جيش خالد المسير يحثُ الخطى مسرِعِن , وما هي الا سويعات . فيصرخ ابن الدباس مكبراً ويقول .. والله لأسمع صهيل الخيل ورغاء الابل .. لقد فعلها ابن الرومية (ويقصد هرقل ملك الروم ) .. ونحن لها .. فرد عليه خالد ..! ماذا تسمع .. ؟ يا ابن الدباس .. فرد عليه . أُذُني لا تخطئ .. فصاح خالد بصوت عال .. جردوا سيوفكم وأحملوا دروعكم وشرعوا رماحكم .. الله اكبر .. لقد أقتربت منا الجنة .. خاض القواد العرب الخمسة . والجنود الخمسون ألفاً حرباً مع الروم ضارية ونازلوهم في مواقع كثيرة.. ثبت فيها المسلمون .. مع قلة عددهم .. أمامَ كثرة الاعداء أيما ثبات , وأستماتو في معركة ( اليرموك ) خاصة , التي يذكر التاريخ أن العدوّ قد حمل فيها على المسلمين حملة هائلة . فانكشفوا . فولى صاحب رايتهم واللواء بيده فابتدر لأخذه عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كلاهما يتسابق اليه .وكأنهم برقٌ يرعد في ضلام . ألتفت عمرو الى خالد يهاتفه بصوت عال .. يا أبا سليمان . ألأدهم أطول ذراعاً من بلقائك – يقصد ان حصانه الادهم أسرع من فرس خالد البيضاء – فيرد عليه خالد . راجزاً – الويل كل الويل للأعادي أنا بن الوليد قاطع الاوتادي .. ( يقصد قاهر الفرسان ) وأقتربا من حامل اللواء وكان عمرو هو الاقرب فخطف الراية من يد حاملها الذي لاذ بالفراد مرعوباً بأسرع مايمكن ولم يزالا يقاتلا حتى ثاب المسلمون .. وأنهزم جيش الروم . وقد أسهم عمرو في فتح دمشق , فنزل بجيشه في ( باب الفراديس ) وشرحبيل بن حسنة في ( باب توما ) وأبو عبيدة بن الجراح في باب ( الجابية ) وبقي خالدُ بن الوليد في ( الباب الشرقي ) ... وشددّ المسلمون الحصارَ على دمشق سبعين يوماً قبل أن يئينَ لهم ان يفتحوها . ومضى عمرو يشارك قي فتح بعض أرجاء بلاد الشام , وقد شائت الاقدار أن يفارق الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه , الدنيا سنة 13 هجرية ( 634 ميلادية ) والنصر مقبلٌ في هذه الحرب التي استعدَّ لها وكان عظيم الهمّ بها , شديد القلق من عواقبها . وبويع ((عمر بن الخطاب )) بالخلافة وجيشُ المسلمين يسير من نصر الى نصر . ألى هنا نتوقف على أمل الاستمرار في الموضوع في الجزء القادم أن شاء الله .
شاكراً تفضلكم قراءة المقال متمنياً أفادتكم و أستمتاعكم به
عبد القادر أبو عيسى : في 19 / 11 / 2013
1448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع